-بداخل قصر كبير ضخم كأنه لوحة أسطورية بألوانه وأساسيات المنزل العتيقة من الطراز القديم، يترأس طاولة الطعام رجل يرتسم على ملامح وجهه صفة وتضادها، حنون وقاسي، الغضب والبرود، وبجانبه من الجهة اليمنىٰ محمد الصياد الإبن الأكبر للصياد، رجل أعمال مثل أبيه، ويليه زوجته كريمة، ومن الجهة الأخرى أحمد الصياد، ويجلس بجانبهم أحفاده، بخلاف جاسر ذلك الحفيد الغامض ذو الملامح القوية الذي لا يشبه أبيه أحمد الصياد إلا وسامته؛ فهي نسخة من أبيه.
- بعد صمت طال لعدة دقائق أخذ الصياد يرتشف من ذلك المشروب الساخن، ثم تحدث متسائلًا بنبرة يغلفها الحدة قائلًا:
أحمد جاسر فينه؟! مجاش من امبارح وأغلب الوقت مش موجود؟
- أجابه مطأطئًا رأسه بخزي من هذا الجاسر:
والله يا بابا اتكلمت معاه كذا مرة في الموضوع دا ولا حياة لمن تنادي أنت عارف جاسر.
: يا جدي هو معاه شغل متراكم عشان كدا بيغيب معظم الوقت.
- تحدث بها مراد الحفيد الأكبر للعائلة وهو غير مكترث لهذا الحديث.
حدجه الجد بنظرات خبيثة وأومأ الجد مراد إيماءة خفيفة.
- تحدث الحفيد الأصغر للعائلة وهو يتنحنح بنبرة مرحة قائلًا:
عن إذنكوا بقا يجماعة معايا حضانة اروح أشوف فيها إيه.
- أشار له مراد بجدية وهو محدق به: اسمها الشركة ومعايا شغل.
ثم استأذن من الموجودين ورحل...- آدم خلفه بنظرات مرتعدة: الواد دا لو بقا كدا هياكلني ياما، ثم تحدث بهمس قائلًا:
ألحقه بدل ما يمسكني زي كل مرة من شعري برستيجي بقا في الأرض.
- تحدثت الأخت الصغرىٰ لمراد بسخرية ضاحكة قائلة:
ايه يا ابن عمي بتكلم نفسك على الصبح!
ثم ضحكت بخفوت وأكملت حديثها مستكملة سخريتها:
مراد لا مؤاخذة معلم عليك!
أنهت حديثها وهيا تتعالىٰ الضحكات، حتى نظر إليها بتفحص، واعتلىٰ ثغره ابتسامة خبيثة: ايه يا حلاوة مالك؟ مراد مين دا اللي أخاف منه!
- انفتحت عينيها في غضب من حديثه: آدم اسمي حلا إيه حلاوة دي؟ ثم أكملت وهيا تحيد عينيها خلفه ببرائة :
وبعدين مراد وراك وسمعك...
- جحظ عينيه في رعب وهرب الدماء من جسده قائلًا:
والله يا مراد كذابة أقصد ماكانش قصدي...
- تجمد بغضب وهو يستمع لضحكات حلا حتى تكاد تنفجر من كثرة الضحك، ثم أكملت بسخرية:
إيه يا عم قلبت على قطة كدا ليه؟
-كاد يتحدث لكى يخرج غيظه بها حتى قاطعه مراد بنفاذ صبر: أنت يا زفت يلا
أسرع آدم خلفه وهو ينظر لحلا بوعيد قائلاً: ماشي يا حلاوة نتقابـل وتشوفي هعمل إيه بنت ولا تسوىٰ تعمل فيا أنا كدا
- صرخت بهِ عاليًا: مين دي اللي ولا تسوىٰ! أنت كويس لو رديت عليك يا حبيبي، أنت بتكلم دكتورة مستقبلًا.
أنهت جملتها الأخيرة وهيا تنظر إلى مدى بعيد بفخر.-ثم نظرت للباقي وتحدثت بنبرة صارخة: سلام يا أهل البيت، يا جماعة سلام، سكنت قليلًا وقالت بهدوء: هما وافتهم المنية ولا إيه؟ يمحما يا أحما سلام، يا ماما، سلام يا كبير...
: يا بنتي امتى هتكبري وتعقلي وتبطلي جنان! مش عارفه أنا والله، اللي دخلك طب ظلم المهنة.
تحدث الصياد بهذه الكلمات بنفاذ صبر حتى استدارت إليه بجسدها وقالت متهكمة: يا جدو أنا مجنونة؟ الله!
ثم أكملت حديثها بقهقه: تشكر يا كبير، وعمتًا أنا الأولى على الدفعة. وأخرجت لسانها له وركضت للخارج ضاحكة
: مش عارف أنا مراد مطلعش ليكِ ازاي!
تحدث بها الصياد وهو يهمس خافتًا لنفسه.
- من الجهة الأخرى ركضت كريمة بعجلة لكى تلحق بابنتها حتى نظرت إليها بتوتر: إيه رائيك في اللي قولتلك عليه امبارح!
- تجولت حلا بنظراتها وهيا تبتلع غصة في ريقها عندما تذكرت ما كانت تريده والدتها عندما طلبت منها أن تتقرب من آدم لكي تناله، نفضت هذه الأفكار وأردفت وهيا تلوي فمها باحتقان: قولتلك ي ماما أنا وآدم أخوات ومستحيل أتجوزه ولو آخر نفر في الدنيا.
: لأ مش اخوكِ وهتتجوزيه يعني هتتجوزيه ودا آخر كلام عندي.
- لم تجد مفرًا من الاعتراض، فإصرار أمها على زواجها من آدم مفروغ منه، زفرت بضيق وتركتها واتجهت لجامعتها وهيا تفكر في طريقة إلقاء هذه الجملة على مسامعها مختلفة عن كل مرة، وكأنها تعني ماذا تقول، أكملت طريقها بريبة وقلب يخفق وارتعاش أوصالها وشفتيها وعيون دامعة.
- في حي متوسط الحال بداخله منزل بسيط يغمره الحب والحنان تصرخ إحداهما بقلب يخفق بشدة حتى أنها صرخت بلا وعي: أخيرًا هنخلص وتشتغل يا بنات.
قاطعتها صديقتها مليكة بنبرة ساخرة: أنا عايزه أتجوز، بَلا شغل ولا نيلة بزمتك مش عايزه حد يقولك رأيت بعينيكِ ملامح انتشلت كل وجوه المارة في ذاك الفؤاد؟ ها!
أجابتها ملك صديقتها الثانية بحنان متأثرة بحديثها: آه والله طالما هيقول فؤاد بس هينتشلها منين!
- رفعت نور أعينها الدامعة من كثرة الضحك لتنظر لهم مطولًا، ثم تغمر مرة أخرى في غيبوبة الضحك حتى استكانت تردف بجدية: ياريت نقابل اللي نقول إنه مش مجرد حب من أول نظرة، دا كان أمان وسكينة، كان مجرد دفا، كان محطتين اتلاقوا بعد محطات كتير جدًا، بعد تعب وجهد لقينا الحضن الدافي اللي نروحله بعد تعب الحياة والدنيا.
- صرخت مليكة بشدة أفزعت الجميع قائلة بنبرة يتغلغلها السعادة: يا ماما يا إيمي يا زين يا شباب..
- هتف زين بحماس: حصل إيه يا عملي الأسود؟ ثم أردف بنحيب مصطنع: يا زينة شبابك يا زين على اللي راح على شوية هُبل.
أردفت بتهجم مصطنع: طب أنا غلطانة مش هقول حاجه.
: أنا مش عارفه ازاي أنتِ وملك أخواتي في الرضاعة معقول كان اللبن مش واحد! ولا هيا نور أختى من دمي مش شبهي جات عليكم.
- ختم حديثه بلهجة ساخره حتى استقامت نور من جلستها لترد بثقة قائلة: طب إحنا وتلاتة شبه بعض يعني دا إن دل على شئ يدل على أنك لقيناك قدام جامع صدفة.
قاطعت حديثهم المرح تلك المرأة الطيبة والدة زين ونور وأيضا هيا من أرضعت ملك ومليكة، قائلة بحنق: في إيه يا بت أنتِ قطعتيلي الخلف الله يهديكِ.
- نظر لها زين بتعجب مصطنع: ليه ناوية تخلفي تاني يا إيمي!
-أجابته بتذمر: أومال يا أخويا دا أنا لسه وردة مزنهرة دا أنا العرسان على الباب حتى اسأل ام أحمد.
كاد يجيب عليها زين ولكن قاطعتهم مليكة وهيا تتمتم بحنق: بس اسكتوا مش كل يوم الوصلة دي.. ثم أردفت بإبتسامة واسعة وعينان متوهجتان: احم أنا ونور وملك اتقبلنا كتدريب في شركة الصياد، وأخيرًا تعب عمري في كلية هندسة مفاتش هدر.
بعد أن ألقت هذه الكلمات على مسامعهم كان الجميع في حزمة من السعادة كانت والدتهم تغمرها السعادة؛ لأنها تعلم مدى تعلق بناتها بهذا التخصص وتعلم أنهم طوال هذه السنين ينتظرون تعينهم داخل شركات الصياد، أما زين فكانت الفرحة من نصيبه، ولكن ممزوجة ببعض القلق والتوتر من دخولهم مثل هذه الشركات.