مَشـهَد ••6•• || حُضـن شَافـي.

410 33 4
                                    

التَّاسِعَة لَيـلًا || بِتَوقِيت الشَّـجَـن.

أَخذَ الوَالِد يَـجّر ابـنَتـهُ مِن رَسغـِهَا ، نَـحوَ زَاوِيةٍ مُنعزِلة مِن ذَلك المَطعـم الـذي أقَام بِه عَزيمَةً  ، عَلى شَرَفِها كَما هُو مُتدَاوِل ، لَكـن الحَقيقَة الكَامِنة خَـلف الدَعـوةِ هِي نَـفخُـه لِريشـهِ كَطاوُوسٍ مُتـبختِر بِإنجازٍ لَم يـكُّ لَه يدّ بِه.
بدَأ يَتحدثُّ بِخُفوتِ ضَاغِطًا عَلى رسغِ تِلك الأُنثَى التِّي و مُنذ رؤيَتِه له يُثنِي عَليها أمَام أقْرانِها ثَناءًا وهـمِيا ، حَلِفت أن تَستفرِغ روحُها كـلّ الثَّباتِ و الرَّزانَـةِ  ، لتَرتجِف بنَوعٍ مِن الغَيظِ
_ " انظُرِي لحَالتِي المُزرِية أمامَ أترَابِك أتَباهَى بِسّنِك لِكلِماتٍ تخـلُو من المـضـمُون عَلى وَرقٍ هَشّ ، أهَذا هو الفَخر الـذّي وَعدتِني بِه أيّامَ الطّفولَة ! "
_" اعـذُرنِـي ، لَم أكُّن لأعـطِي وَعدِي السَّرمَدي دُونَ وَعي لَك "
_" و تَتوَاقحِين، إنّي وَالدك ، سَبب وجُودِك ، مَن رعـيتك أثنَاء صِغرك ، مُوفِرّا لك كل المَلبس و المَـاكل "
_" لـم تُثـبت لِي الأيَّـام بَعد أَّنك تستَحق شـيئًا عظِيمًا كـاحتِرامِي ، و اعذُرنِي أبَتاه ، حَـياة الأُنـثَى لا تَقتَصِر عَلى مأكَلٍ و مَشـرب ، أمـرهَا أعـلى مِن ذَاك"
_" صَبرًا ، لَو أنكِ لم تتنَازلي عـن وعدِك ذاك و دَرستِ مَـا اختَرتُه لـَك كَباقِي نِساءِ و شَبابِ العائِلة ، مُحقِقةً حُلمـي و حُلـم وَالدتِك لَم نَكن لنَصل لهَذا الحَّد "
_" أبتَـاه ، أَأخبروكَ أنِّي آلَة وُجِدت لِتحـقيق أحلَام لـم تبذُلوا جُهدَكم عَليها ، إنّي إنسٌ و لَيس دمـيتَك الوَردِية ، تَوهمتَ وَضعي فـي قَفَصِ عَـاداتِ و مِنهَج العَـائلة الذَّهبي ، فَـاجأْتُك بِخروجـي مِنه .
أنا أنـثَى لـم تُخلق لِتكسَر عَلى أَيادِي مُجتمعِك ، و يَـاخَيبَـتِي أنكُم كَسرتُمونِي مَـرَّة أقسِم لك بِدمائِي أنها لَن تُعاد .
أنا نَزفـت ،  مَلأنِي الفَراغُ و الألَـم ، أحاطَنِي الشَّجن مِن كـل درب ،تَوالت أيَامي علَي و بَدل إنـدِمـال الجُرحِ ،قَد تَعفّن .
أيـن كُنت حِينَها وَالدي العَزيز ؟ ، كُنت حَول المُلقّبِين إخوَتي ، تُعطـيهم كَتِفك ليستَندوا عليه أوقَات التعب .
لَـم تـكن سَندًا لـِي و لَن !
مَـن أصـبح سنَدِي و وَتـيـنِي اقـتلَعتهُ أنـت مِن دَاخلي مُخـلِفا شَرخَـات و عُطوبَ دَاخِلي .
و لِهَذا الحّد ، لهَذه الَّلحظة ، لا تَملـك حقَّا كَي تنبِس و لَو بِبنتِ شفَة عن حَياتِي ، دَربـي ، و أحلَامي .
أكـمل أخذَ التَّهاني ، عَن نـجاحِ أمرأَة تًَكاد تـبكِي دَمّا فَقط للوُقوفِ بِجانبِك ، أبتَاه "
أخذَت نَفسًا عَميقًا و استَدارت تبـحثُ عَن مقـعدٍ مُنزَوي . تَحدثَت كَثِيرًا ،و قَالت العَديد من الأُمورِ التـي لم تتَجرأ لتُفصِح علـيها سِوى لوَرقِها العَتيق ، تَـارِكة الوَالِد فِي حَالةٍ من عَدم الاسـتقرار الدَّاخِلي ، عالِمًا أنه اتَخذ عَددًا من القَرارات ، بـل كل القراراتِ كَـانت خاطِئة بِحَق وَحـيدَته ، لـكنه كَرجـلٍ نَبيلٍ لم يكن ليَتسَـامح.
مَرّت الثَّوَانِي بِثـقـلٍ عَلى صَاحبـة الرّوح القَاحِـلة ، تُفـكّر مَاذا لَو لم تكُن ذاتُ نُقصٍ روحِي ؟
ماذا لَو لم تـكن بهَذا الانكِسار ؟
مَاذا لَو عاشَت أَيامها بكل فَرحٍ كالمَاضي ؟
ماذا لو لَـم تكّن أنثَى ؟!
و العديد من مَـاذَا لَو الغَير مُنتهِية .
أحسَّت بالهَواءِ ينضَغِطُ حَولهَا ، رِئتيـها تَستـنجِد ، أعـينها تَبحثُ عَن أيّ مَخرجٍ .
نَوبـاتُ الهَلع ، نَادرًا مَا تصاحبُها ، وَقت التَّوتر و الغَضب ، و هي منـذ أن حطـت خُطاها فـي نِطاقِ والدها و هي تَسمَعُ ما لاَ يُرضِي أيَّ أحدٍ بـحَالَتِها .
وَقفَت مِن مَقعدها بـكل سُرعة مُخلِفةً صَوتًا ، لَم يَنتـبه لَه نِصفُ الحَاضِرين .
لَمـلَمت حاجِياتها لـتخـرُج مـن قَاعةِ المـطعم بـاحِثة عن هَواء يُنعش رئتاها .أتُرى هـل ستَجد مَـن يُلملِم رُوحَها الضَّائعة ؟.
أخـذت تمـشي بمَهلٍ تـستَندُ عَلى الحـائِط بـجانِبها و يدَيـهَا المُرتجِفة مُنشَغِلة باِبعَاد قَميصِها عَن عُنقِها العَّاجِـي .
و لَا ذَرّة هَواءِ تصَّدقُ عَليها !
خَارَت قِوَاهـا و هِي تنزِل جَالسَـةً فـي رِواقِ المـطعـمِ الخَـالي .
تَجمعَت الدّموعُ بِمَحاجِرهـا ، لَم تَجد سـبيلًا للخـروج .
لِلحظَةٍ ، بَدأ عَقلُها ينـسج أحلَك السينَاريوهات لِموتِها نَتيجَة ضَيقِ نَفس ، لَكـنّ ، لدَقيقَةٍ بَدت لـها كالّحـلْم ، الـتَفت حـولَـها أَذرعٌ قَوِية ، رَائِحة مُسـكِرة تَغلغـلَت لأعمَق نُقطةٍ دَاخلها ، أحسَّت بالأمَان !.
أخذ صَـاحب العـناق يـمسَح عَلى شَــعرِها نَاطِقا بـصوتٍ هادِئ كـلماتٍ لتَهدِأتِها .
رائِحة تعرفَت عَليها ، صـوتٌ تَحفِظه ، و حـضن اعتَادَت عَـليه !
فـكرت لثَانِية بينَما تتَسابَق لالـتِقاط أنفَـاسِها ، القَدر ، الصُّدف ، السعادة ، الأمَان ، هُدوء و سكِينَة ، كـلّها تَرتبِط بِه بشًكلٍ أو بآخَر.
أصابَـتهَا رجـفَةُ رُوحِ أثمَـلتها ، يـقولُون أن الخَمر يُثمِل ، لَكِن أن سأَلوهَا ستَقول :
قُربُـه يُثمل.
النّظر له يثمِل.
ذكـره يُثمِل.
حـبُّه يُثمِل.
تَركت عَبراتها تسقُط رِثاءًا لها ، لَه ، حالتُهم ، رِثاءًا للماضي الذي قَـتل الحَاضر و لَطخ المُستَقبل .
أرثَت قَـلبها و قَلبه ، حـبها و عِشقَه .
التَقطت مسامِعُها ما يتـلُوه عَليها من كَلِمات جَعلت نَدمَها يتَضاعف :
_ " لاَ تَبـكِي يا ابـنَة العَـين، فدُموعُ امرأَةٍ استِثنائِية لا يُحبَذ أن تُهدَر "
إنه يُشبِه أَثَر الفرَاشـةِ ، لـطَالما حَـاولت فـهم تِلك النـظرية بشكـل أعمق خلال حياتِها ، لكـن هو كـان كل الأثر لرفـرَفة جنـاحَي فراشَة .
فـكلّ فِعل يقُوم بِه يتـرك أثرًا مختومًا يغـيِرها جذرِيّا .
هدَأت ظاهِريا ، و جوهَريا نبـضُها لا يهدَأ .
ذِكرَيات دَاهمت ذَاكِرتها ، أَليـست هِي نَفس الأُنثى التـي خَذلته ، التـي ردَّت حـبّه بهَجرها لَه ، من تـرد حسنَته بِسيِئة
تَساءَلت كـل ليْلَة يـكون القَمر أنِيسهَا ، مَا حَاله ؟!
حَـال قَلبِه ؟ أينـزِف مِثلها ؟!
أنَساها أم تنَاساها ؟! .... و العَديد من التسَاؤُلات !
انـتصَبت وَاقِفة بحزمٍ بعد ثوانِي من دُوار البُكاء ، ابتَعدت من طُوقِ نجَاتِها ، حضنه الشَّافي  لَها ، لِرُوحِها و الأهّم لقلـبها .
ضغـطت على مَلابسها مُتجنِبة النظر له أوَلا، بَينـما هُو كَان يَغرقُ بِها .
لَم تتَغـير ، مَا زَالت محـبوبَته عَـلى حَالتِها . زَادت بُؤسًا فقط .
هالاتُها ابتَلعت نِصف وجهِها ، توّضحَ له أن الأَرق جلِيسُها كـلّ لَيلَة !
شعـرها البُني ، أعيُنـها ، التي يَطلب كـلّ يومٍ أن يكـونَ غريقـَها ، طَـالب بِحبِه الأزلـيّ .
مَا كَان لِقلبِه إلا أن يمِيل هَامِسا باسمِها .
رَفعت بُنِيتاها لسوْداوِيتاه ، لتنطق بِنوع من الأسى و نوْعٍ من الحُزن ، عَينٌ بِها نُفورٌ و عَين بِها استِنجَاد .
_ " لا أَحد يستَحق أن يتـرك دون : لِمَاذَا ؟ ، فَـلْـتَغـفَرْ ! "
كَلِمة أنهَت بِها حَديثَها الذي اسـتمتَع هو خِلاله بِصوتِها ، مُستدِيرة قُبالَة البَّاب لتذهَب ، تختلي بأَوراقِها و حُبِها .
حدّق بالأَرضِ أَسفَله ، و بِظَهـرهَا قُبالَتها ، مُطلِقا سَراح كلِمات كَانت ستغَير الَكـثيرَ ، فَقط لَو سَمِعتهَا !
_" إنـّي بِغافِر لـكِ، فـي هَذهِ الحَياةِ ، مَا قَبـلها ، وَ مَا بعـدها "

ابـنَـةُ الـعَـين | Fille de l'oeilحيث تعيش القصص. اكتشف الآن