مَـشهَد ••7•• || ثُمّ بَـعدهُ ... لَـم يَـبقَ أَحد .

336 34 0
                                    

سَـاعةُ مُـنتصَفِ اللَّيلِ || بِتوقِيتِ الفُقـدَان

قُبَالة السِّت سِنين مِن تَـارِيخ اليَوم :
تَجـلِسُ صَـاحِـبةُ الرِّدَاء الأَسـوَد بِجـانِب قَريبَةٍ مِن أقرِبائها ، عَـلى مَأدبَةٍ جَـمعت كـلّ مُنتَـمي إلَـى عَائلتِها المُوقَرة .
أَجـالَت بِحُدقَتيها حَـول الجَـميعْ، مُنـاقشاتُ النِسـاءِ التي لَا تـخلُو مِن النَّميمة ، و العَمل و السيَّاسة مِن جِهةِ الرِّجَـال.
لِوَهلةٍ رَفعت نَظرهَـا لِوالِدها ، تَراهُ يُـحدّقُ بِـها هُو الآخَـر ، حَـملت أعيُنـها كمًّا مِن التَّساؤلات حَـولَ مَـعنَـى تِلكَ النَّظرة .
أفرَج الوَالِد عَن الكَلمات المحـبوسَة خَـلف شـفتيهِ مُبعثِرًا كَيَـانَ وحِيدتِه كَبعثَرةِ النّجومِ فـي السّماءِ المُعتِمة ...
_" سِـيـرَآ ، إنـي ألَاحِظ أَواخِر هَذِه الأَيـام انـعِزَالَك عَـن بَـاقي أصحَـابك بشكـلٍ مُبالِغ ، نَـاهيكِ عن لاَ مبالاتِك بأيّ أحد و حَبس نَـفسك فِي غُرفَة دِراساتِك مُعظَم الوَقت ، أفكَـارك التِي تُرعِب باقي العائِلة. ضِف لَذلَـك رَغباتُك الغَريبَة بالابتِعاد عَـن مجَال العائِلة العملـيّ و تَميزِك بعَملِك الخاص و الـذيِ مُعظَـم أعمَـامِك يرَونـهُ شيئًا سَفيهًا .
قَد أخذتُ قَرارًا مُساعِدًا لَكِ و لَنا ، مَـن يدرِي ، لَربـمَا يعُودُ رشدُكِ لك ."
حَملـت حُدقَـتيهـا لهُ بنَوعٍ مِن البُرود متسائِلة عَن قَراره الـذي لَـن تأخُذه بـعَينِ الاعتِبار .
_" و مَـا قَرارُك الأَسفَهُ مِن حُلـمِي ، أَبتَـاه ؟".
تَـغاضـى وَالِدها عَـن وَقـاحةِ الكَلـماتِ التـي تنـبَثِقُ مِن شَفتـيها قَـائِلاً بِحزمٍ مَعهُودٍ مِنه .
_" سأَعرِضـك عَـلى طبيبٍ مَشهـورٍ أَتـى للبَلدَة حَديثًا يُقَـال أنهُ إيطـاليّ ، سيُساعِد فـي حـلّ مشاكـلِك النفسِية ، وَ لَا اعـترَاض عَـلى كـلامِي ،انتَهـى"
بعـد خَـتمِه لحَدِيثه نـهض بجُثمـانه نـاويًا المغادَرة لتـستوقِفه كـلماتُ الأنثـى التـي تـحس بحَربٍ طَـاحنـة عـلى مُستَوى قـلبِها ، جَيشٌ مِن الغَضبِ و آخَر مِن الحُـزن .
_" طَـبيبٌ نَـفسـيّ ، أتَعرِضُ لعَـائلتَك بِشكـلٍ مُبـاشَر أنّ ابـنتكَ الكُبرَى اخـتلت عَقلِيَّا ، يَـا للعَار  .
أَتَحسِبنِي مَـجنُونةً أبـتاه !؟"
ابتَـسمـت كَـاشِفةً عَن أسنَـانِها ضـارِبة بالمَنطِق عَرضَ الحـائِط .  لِيجيبَها الوالِد ، بَـينما بـاقي العَائلة تُشاهِد شِجارَ أحـرُف بَين أبٍّ و ابنَتِه ، مُتعجِبـين مِن هُدوءِ الأُخرى.
_" ألَا تَعلـمِين أنـكِ كـذلِك! "
بلحـظةٍ فَـازَ جـيشُ الحُزنِ النَّـازف عَـلى جيـشِ الغـضب . دُفِن الغَـضب و حَـيا الحُزن و الغَّم بِداخلِ تـلك الأنثَى .
_" سأفعـل٫ سأزور طَـبيبـك و إن وجـدتَه يعـتنِق التّرابَ لا تسأَل  ،  لَكَ نـصيحَة مـجانِية مِنـي أبـتاه ... لا تُخـبر مَجنونًا أنه مَـجنون كـرَّةً أخرى ، هَذَا يَجعَله مُحبَط !"
نَهضت تزرعُ خطواتِها الواثِقَة عَـلى الأرض البيضَـاء ، و تغرِس أظافرَها الـطويلة المتصَبِغة بالأحمر بِداخِـل كـفها ، و قَد أصـبح ينـزف جَراءَ الضَّـغط الـقَّوي بَعد مُدة.
يـحق للشَّمس الاشتِعـالُ ، فَلتشتَـعِل هَي بُؤسًا .

الحَـاضِـر :
تحـتضِن سِيجـارةَ تـبغِ بينَ يديـها في حَديقَـةٍ داخِليّة بعُقرِ دَارها ، مَـملوءَة بعبقِ الـجورِي الأسوَد النـادر .
تَـبتلِع غَـصَّات ألـمِ الذِّكريات ، الفُقدَان
تَفتَقِد طَـعمَ الرَّاحـةِ و السَّلام .
مَـريضَـةُ ربـوِ لكـن تُدخِن ! عَـاشِقـة لَكن تـهجُـر العَـشيق !
سـودَاوية تُحب الأبـيض ! مَـيتة لـكن تَعتنِق الحـياة !
هُنا أيقَنت أن تنَاقُضـها هُو قاتِلها ، التناقُض الذي قـيل عَنه مِن طَرف مَحبوبِها تـناقضٌ جَذاب .
لِقـاء اليَـوم فَتحَ أعيُنها عَلى حقـائق أخرى ، هِي الـطرف المَريـض فِي العَلاقة ، رَغم ابتعادِها هو يَقترِب محتَظِنا آلامها بِكـفة و بُؤسَها بكـفة أخـرى ، إنـها أنـثَى لا تـستَحق رجـلا مِثلَه ، يأوِيها رَغم جِراحه النّازفة
حَـفِلت بِصمتٍ مَليئ بالكَلماتِ لدقائِق ، لِيُغيرَ عَليها عَقلُها بذِكرى اعتَبرتها مُحببةً لقلـبِها .
ذِكرَى النـبضةِ الأُولى ، الوِلادة الأُولى .
كانت لتكون ذكرى لِقَـاء الحُّبَ الأبـدِيّ .

_فـي ذلك اليَوم الذي تَـلى شِجارَها الهَّدام مَـع والِدها ، خَرجَـت مُتسلِلة فَجـرا للشَاطـِئ تَحتَ مـنزلهم لتَـنعم بسـكِينَة البَحر مَع أوّل تسلُل لأشِعة الشَّمس خَـلف السُّحـب ، لتأخذهـا خُطاها بَعد حَـوالِي أربَـع ساعـاتِ من السَّلام الدّاخلي حيـث عِيادةِ ذلـك الطبيب الإيطَـالـي النفـسي .
كَـانت مِن مـحبي الأشيَاء النَّادرة و الغَريبَة المُنتمِية لِحقَبٍ قَديمة ، و على هَذا الحالِ وجَدت تصمِيم عِيادتِه التي يطـغَى علَـيها لَونُ البُّن ، لَون أعـينها .
لـم تَـهتم لكَون العـيادة فَـارغة نِسبيًا ، بل توجَهت نـحو أول مـكتبٍ وَقعتْ عليـهِ أعيُنها.
أحطَّت بِبضعِ طَـرقَـاتٍ على البـاب لتَدلـفَ بـعدها دونَ سـماعِ ردّ مـالك المـكتب .
تسـمرَت مـكانَـا بِوجهٍ خَـالٍ مِن المَـلامِـح سِوَى الدَّهشة ، لَقد اقتَـحمـت مَـكتب ذلِك الطَّبيب النفسـّي و قَـد عـلمـت مِـن الزيـنة التِي تَـحـمل اسـمَه عَـلى مـكتَبه بِخـشب المـاهوجـنِي الأحـمر ، هَـل ذَكرَت مِن قـبل كَم تـحب الأحـمر !
دُونَ أي مُبالغَـات ، تَساءلَـت إن كـان كـل طبيبٍ نَفسِي بِهذهِ الخـلقَـة البهـيّة ، فـقط بمـعطفِ الأطِباء النـقيّ الأَبيض .
دَاهـمت رِوايـاتُ الخَـيال رأسَها و عَـادت تَتساءَل عـن هَذا الكـيانِ الذي يحدِق بها بِأعينٍ سَوداء تـحمِل هُدوءَ العالَم دَاخلها .
أتَراه مَلاكًا سَـاقِطًا ، أَو نَوعًا غَريبًا من المخلوقات .
وعَـت عَلى نَفسِها مُؤنِبة نَفسها عَلى شرُودِها بذلِك الإنسّي الإيطَـالي على صَوتِه الرَّزين .
_" أستَميحُـك عُذرًا يَـا آنِسة !"
نَفت برأسِها و نَطقت بشكـل هادئ لا يرتبِط بأي صِلَّة عَن التسَاؤُلات الغَرِيبة و الشُّعور الغَريب الذي يُخالِجها عِند النَّظر لأعيُنه .
_" أنَـا مَن أعتذِر يا سَيّد ... الـمهِم أكمِل عَملـك أو أي شيءٍ يـكن "
احتَلت مَلامِح الرّجل علامَـات استِغراب و رَغبة بالابـتِسام عَـلى هذهِ الأنـثى المُتلعثِمـة أمامه ، متسائلا عـن هويَتها و مَـا سبب دُخولِها مـكتبه .
بمُجردِ خروجِـها ابتـسم الطـبيبُ بخـفَة عَـاىِدًا لمـلفِ المَـواعيد ، وَ رُبمـا صُدفَة و قَدر كَـان يـحمل مَوعِدها المُّسجـل بَـين يديه ._

انتهَـت ذِكـرياتُها لتـلكَ الليلة بِغـفوَتهـا عَلى كـرسِيّ الحَديقة .
بِدواخلها و أعماق روحِـها عـلمت بـعد فِراقِه أن النَدم سيتآكلها من الجَوف للخـارج .
مِن بعدِه ، انتهَى وَقت سعادَتها المطلقة
من بَعدِه ، عَادت لِكربِها .
مِن بعدِه ، أحاطها ظَلامُ الأَكوان
مِن بَعدِه ، لَـم يبـقَ أحَد !

ابـنَـةُ الـعَـين | Fille de l'oeilحيث تعيش القصص. اكتشف الآن