الجزء الخامس عشر - يَقين-

15 0 0
                                    

مثلما إنتفض من السعادة التي لم يسعه تخيلها إنتفض من الغضب والحقد، دارت الكثير من التحليلات برأسه حينما تذكر رسائل ذلك اللعين له من هاتف دانوفيس، بل أنه فتحها وقرأها وحفظها جيدًا، لم يكن يشعر بشيء سوى السعادة الكبيرة التي أعمت بصيرته عن إدراك الأمور بشكل صحيح، ولكن نعم .. عليه الإعتراف أنه رغب في أن يُجيبه دانوفيس بتلك الرقة و اللطف، لماذا الإنكار في حين أنه لا يرى سواه؟
شعر وكأن قلبه يتمزق من الداخل حينما أجابه دانوفيس بذلك البرود.. ولكن منذ متى وهو يتعامل معه بغير البرود أصلا؟ هل يرغب دانوفيس في العبث معه؟ لا، دانوفيس مليء بالخوف والرعب ولا يجرؤ حتى على التفكير بذلك.
لم يعد له سوى إختيار طريقة تُقربه إليه دون أن يتحدثا.. ستأتيه أخباره أولا بأول وهو سيكف إن إستطاع عن التحدث إليه.. إتصل بأحدهم وطلب منه البقاء إلى جواره وإبلاغه عما يحدث له، وافق الطرف الاخر دون تردد.
.
.
قضى دانوفيس تلك الليلة وهو في مكانٍ غير مألوف لديه، كانت تسحبه تلك الفتاة " كُوڤانِير " إلى أماكن عدة ليسترخي معها وبعد أن تنتهي منه تُعيده لمنزله آمنًا دون أن يُصاب بأذى ! هذه المرة تلك الفتاة حادثت صديقه ستيفنسون و طلبت منه أن يأتي، حذرته من أن يكشفها إلى دانوفيس..
في الجانب الآخر من الخط بقي ستيفنسون غير مدرك لما يحدث، ظن أن دانوفيس يعبث معه إلا أنه حسب معرفته ليس كذلك.. بذل جهدًا ليدرك وليستوعب إلا أن تحليلاته كلها وقفت أمام حاجز ضخم !
.
.
.
وكما لو أنه عاد للتو من عالم آخر شعر بالتعب و الإرهاق، لم يعد بوسعه  تذكر ماحدث إلا مقتطفات قليلة نسيها فور وصوله لمكتبه، بدلًا من أخذ البصمات من الأوراق والهاتف ليعرف من الذي أفسد عمله جلس مُنهمكًا في طباعة ما إحتفظ به على الجهاز، لكنه قرر أنه منذ اليوم أن يحتفظ بجهاز خاص به سيجعله خاصًا بالعمل دون أن يعلم أحد بذلك..
من خلال احد مواقع الشراء عبر الإنترنت قام بإختيار جهاز له و حدد مكان الإستلام شقته، بهذه الطريقة سيضمن أن الذي عبث بالملف الذي طبعه سابقا لن يعبث بالجهاز أو الملفات التي سيعمل عليها، هذا الموقف نبّهه على أهمية عدم الوثوق بأحد من العمل مهما حدث. أما بالنسبة لهاتفه فقد عمل له تحليل بصمات وظهر أنه ذلك الأحمق الذي حدث عراك بينهما. ومن هنا علم أنه الذي عبث بالملفات إلا أن فكرة ان هناك من يتعاون معه عبثت برأسه لدرجة أنه أصبح يشك في الجميع دون دليل.
طرقت أوزفالدور سطح المكتب عدة مرات حتى إنتبه لها دانوفيس..
" بم تفكر؟ " تابعت من دون أن تنتظر أن يجيب " إتبعني "
دخلا إلى غرفة الإجتماعات حيث كان المفتش وبضع أشخاص متواجدين هناك، لم يعرف أحد منهم عدا المفتش و أوزفالدور تلك.
قال المفتش  وهو يشير إلى رأسه " أين وصلت دانوفيس؟ "
لم يرغب في أن يُجيب إلا حينما لاحظ أن ذلك الشقي متواجد في الغرفة معهم، أجاب بنبرة خرجت ببرود أكثر من كونها تهديد" هناك من عبث بملفاتي على مكتبي..  " نظر إلى دين مونز و تابع " لو حدث الأمرمجددا سأتسبب في فصله كُليًا "
قالت أوزفالدور بهدوء" الأمر بسيط جدا ولاحاجة لهذه الجلبة بينما لدينا قضية مهمة نعمل عليها، لنترك خلافاتنا جانبا"
حدق دانوفيس بنظرة قاسية وقال بنبرة حادة " الأمر يعني عرقلة التحقيق، وبالتالي سيكون الذي أفسد عملي متورطا بالقضية التي نعمل عليها"
إنكمش دين مونز في كرسيه بصمت و كافح بجهد عدم إظهار توتره بينهم، لاحظ شخص ما كان يجلس في زاوية الطاولة أن دين مونز هدأ على نحو غريب، حتى لم يسمع صوته منذ دخل دانوفيس الغرفة، ظهر إحمرار شديد على أذنيه، تنقل ذلك الشخص بين دانوفيس و دين مونز محاولا معرفة مايحدث بينهما.
.
.
.
في ذلك الوقت كان جايكوب قد عثر على طريقة ما تُمكنه من الذهاب إلى النرويج، بيد أنه لم يكن يتحمّل عذاباته الخاصة التي تنهشه كُليًا، كان قد أحرق يده عمدًا وتلذذ بذلك الألم وبات يفكر لو كان دانوفيس معه، سيُمارس تلك السادية المَرضية عليه فتهدأ شياطينه، ولأن ذلك اللعين صامت وبارد في تعامله فذلك يُشعره بإنتصار زائِف مثير للشفقة إلا أنه يتلذذ به سرًا.
في غضون يومين سيكون قد عثر على دانوفيس ولايعلم أحد مالذي سيُخطط له جايكوب حين يلتقي به، لم يكن متاحا له فكرة الإبتعاد عن دانوفيس بل أنه لم يفكر بهذا قط سوى مرة واحدة شعر فيها بالإختناق .
في الجانب الاخر كان ستيفنسون يستعد للسفر إليه، طلب من أخيه هنري أن يُغطي مكانه بينما يذهب ليطمئن على دانوفيس وجها لوجه بما أنه لا يُجيب على إتصالاته وبما أن الإتصال الأخير قد أقلقه .
.
.
.
إنتهى الاجتماع الخاص بالقضية، ثم إقترح المفتش أن يذهبوا لغرفة خاصة حيث يجتمع المحققون الذين يعملون تحت إمرته، أثناء بقاءهم معًا يمشون خلف المفتش بدأ ذهن دانوفيس يعمل بشكل أسرع مما يعمل عادة، لآحظ أمورًا، و تنبّه على أخرى.. تحفظ  على إستناجاته لنفسه بيد أنه شك في أن أحد رجال التحقيق متورطًا في القضية كجاسوس لكنه لم يعلم من يكون..  ذلك اليوم الذي قرروا فيه البدء بمهمة تفكيك تلك العصابة قُتل الجراح الذي كان من المفترض أن يكون الوسيط، ربما كان الجاسوس يعمل بشكل مباشر بتلك المنظمة ولهذا عليه أن يُحقق سرًا بذلك،  أولا لابد أن يعرف المحققين الذين إنتقلوا مؤخرا منذ بداية الإختفاءات المشبوهة، ثم معرفة المحققين الذين عملوا على تلك القضايا خاصة تلك التي تبدو فيها الأدلة ناقصة أو مشبوهة..  
كان يرتب قائمته بشيفرات سرية تعلمها من ذلك الوغد اللعين شعر بوجود شخص يراقبه عن قرب، حين رفع بصره كان دين مونز يحدق إليه بصمت..
تجاهله دانوفيس وبدأ يكتب شيئًا في الكُتيب الذي يحمله في يده..
" هل تكتب أنني هنا أراقبك ثم تذهب بالتقرير إلى المفتش؟"
من دون أن يرفع بصره قال دانوفيس" لماذا تعمل في القضية التي أعمل فيها؟"
"هُمم، أود إزعاجك أكثر فقط"
أومأ ببطء وكأنه لم يُصغي إليه، قال بثقة تشوبها السخرية " غيرك حاول لكنه وجد نفسه واقع في غرامي"
ضحك دين مونز وقال " أتظن ذلك؟"
" صدقني لا يستطيع أن يُخفف حرائقه إلا بتواجدي"
" ما أنت ؟ عاصفة جليدية؟"
إبتسم دانوفيس ونظر إلى دين مونز " عاصفة جليدية جميل هذا اللقب، لكن يقال أني كتلة جليدية"
" ماذا إن حوّلت حياتك إلى تعاسة كاملة ؟ هل ستصمد كذلك؟"
" لن تستطيع تحويل التعاسة إلى تعاسة كاملة "
ضحك دين مونز بإستمتاع وقال " سيكون بيننا تحدٍ "
" إفعل مايحلو لك.."تابع بسخرية ".. طالما ذلك المغرم بي بعيد عني لن تستطيع حتى وخز إصبعي"
" ماذا لو جلبته بنفسي لك ؟"
أجاب دانوفيس ضاحكًا " حاول ذلك فحسب"
" هل تُهددني؟"
" من يعلم؟ لكن يمكنك أن تكتب تقريرًا عني بأني هددتك"
" أنت وغد لعين"
قال دانوفيس بنبرة إستمتاع " ذلك المغرم بي يقولها لي، حذرتك "
" تافه حقير "
مضى دين مونز في طريقه وهو يشعر بالغيظ ..
شعر بعيون أحدهم تُحرق ظهره لكن لم يتوقع أن يدًا ستوضع على كتفه ..
" لن تسلم من ذلك الأحمق، عليك أن تحذر منه"
" هل يمكنك أن تُبعد يدك عن كتفي؟"
لم يُبعد يده، لكنه وضع اليد الأخرى على كتفه  الآخر وقال " الغريب في الأمر أنك هادئ و بارد كالجليد، هل ذلك بسبب عدم وجود المشاكل في حياتك؟ أو أنه من فرط إحتراقك أصبحت هكذا ؟"
إنزعج دانوفيس من طريقة الحديث ومن لمس كتفيه، نهض وإلتفت إليه، كان الرجل الذي معهم في غرفة الاجتماعات.. " إسمي جوني، هل لديك وقت هذه الليلة ؟"
أجاب رافضًا إياه " أنام باكرًا دومًا "
" حسنًا، أردت القول إن رغبت في المساعدة تعال إلي"
" إياك أن تلمسني مجددًا"
إبتسم جوني وقال " أعتذر، لابد أنه فعل أزعجك"
" المساعدة التي أريدها منك أن تبتعد عني فقط"
"لا أعدك بذلك"
شعر دانوفيس بالصداع، أراد فقط أن يعلم لماذا تعتبره المشاكل مُغريًا جدًا.. تنهد، عليه التركيز فقط على القضية، ربما تلك المرأة قد يتمكن من الثقة بها لكن ماتزال شكوكه تحوم فوق رأسه، فكر في إختبارها بطريقة غير مباشرة ليرى، لكن المشكلة أن مفهوم الأسرار لديها قد يكون شخصي، بمعنى انها تستطيع الحفاظ على الأسرار إن كانت شخصية، لكن حين تكون غير ذلك يختلف الأمر.
على كلا عليه فقط أن يستمر في العمل على القضية والذي سيظهر بعد ذلك سيتعامل معه في وقته..
مر الوقت، دقائق ثم ساعات، بدا عليه وكأنه يُحدق في الفراغ.. إنتهى وقت عمله وأتى المحققين الذين يعملون ليلًا، كان يفكر ويُجهد نفسه في التفكير، ربما هربًا من الذي ينتظره ليلًا في شقته التي لايعيش بها سواه. لم يذهب لشقته، لم يغادر مبنى الشرطة أصلًا وبدأ يرى أشخاص جدد لم يسبق له أن إلتقاهم، كان مُختبئًا من التي تُفقده صوابه كلما غفا ليلًا. لم يكن يرغب في أن يفقد صوابه، ليس الآن بعد أن قرر أن يعيش دون ذلك الذي يُلاحقه.

العاصفة .حيث تعيش القصص. اكتشف الآن