الجزء8

75 9 0
                                    

كنت أجولُ في عرصة المحشر عسى أن أجد ما ينفس كربتي في أول موقف من مواقف القيامة، فأرى بعض أصحاب الدرجات السُفلى يتمسكون بأطرافي، ويتوسلون بي لنجاتهم، أو على الأقل لتأمين لباس لهم يسترون به أبدانهم، وذات مرّة سألني أحدهم أن أهب له شيئاً من نوري رغم ضعفه! إذ قال: أعطني من نورك، أو دلني من أين أتيت به ؟ تذكرتُ آية القرآن التي تشير إلى هذا الطلب من المنافقين يوم القيامة، والتي تقول: { يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً } حينها أجبته بما أجابهم القرآن، إذ قلت له : ارجع وراءك فالتمس نوراً. قال: أتسخر مني؟ أين النور الذي تقول عنه ورائي ؟ أنا أقول إرجع إلى الدنيا والتمس النور من هناك، وهيهات لك ذلك ! لقد تركتم نور الله ورائكم ، فلماذا لم تستضيئوا به، ولم تلتمسوا منه وقد قضيتم عمراً فيها ! أمّا المخاصمات يوم المحشر فحدِّث ولا حرج، وكثيراً ما كنت أشاهد مخاصمات بين أفرادٍ يبدو من كلامهم أنهم كانوا في الدنيا أصدقاء على السوء، أو شركاء على الباطل، أما الآن فقد أصبح الواحد منهم أشد الأعداء للآخر ويَوَّد لو يقطّعه قِطَعاً قِطَعاً... ذات مرّة رأيت مشاجرة تبدو شديدة لكثرة اجتماع أهل المحشر حولها. إقتربتُ منها، ودهشتُ كثيراً عندما رأيت أن أفرادها ليسوا بغرباء عني، ويبدو أني أعرفهم! دنَوت منهم أكثر، وتمعنت في صورهم ... يا إلهي ماذا أرى ! إنه جمال !! نعم، إن ما أشاهده حقيقة لا خيال، هو جمال بعينه وشخصه.. إنه جمال الذي كان سبب مفارقتي للدنيا بعد أن ألقى بي من سطح مبنى ذي خمس طوابق، والآخر الذي كان يتشاجر معه هو صديق له في العمل، ومعروفٌ بسيرته الحسنة لديّ وبدَى سائر موظفي الشركة التي كنت أعمل مهندساً فيها.. توقفت في موضعي، وما دنَوت أكثر كي أصغي لهما. قال جمال وهو في أبشع صورة، عاري البدن، أسود الوجه، نتن الرائحة، يقطر الدم من جروحه التي ملأت جميع أنحاء جسده، وهو يتلوى ألماً منها، قال لصاحبه: أنت الذي غررتني ودفعت بي إلى سرقة أموال الشركة دفعةً بعد أخرى، حتى انكشف أمري، وقَتَلْنا سعيد بسببها. صرخ صاحبه في وجهه وهو يقول: لا تقل قتلنا سعيدا، بل أنت قتلته، وأنت الذي كنت تأخذ جميع أموال سرقاتك، ولا تعطيني إلا القليل منها، و... قلتُ سبحان الله! هنا تنكشف الأسرار، وتظهر الحقائق المكنونة في الصدور، فجمال كنتُ أعرف سرقاته وقتله لي، أمّا الآخر فكنت أحسبه من المخلِصين في عمله وتعامله، وقد ظهر الآن أنه شريك جمال في سرقاته! تركتهما يتشاجران وانصرفتُ عنهما موكلاً الأمر إلى الله تعالى، وقلت: ربي أريد العدل والقصاص منهما، فأنت الشاهد وأنت الحاكم . وكانت نار جهنم تزفر بلهيبها بين فترة وأخرى على أهل المحشر، فيبلغ حرّها الأجواف، وتسيل لها الأعراق، وتذوب لشدة حرارتها الجلود، وكل يتألم حسب درجته ومقامه. لقد كان عسيراً جداً المكوث لحظة واحدة في تلك العرصة، ونحن في أول موقف من مواقف القيامة الكبرى، فكيف بي ومدته تطول ألف سنة؟! أم كيف بي في المواقف الأخرى التي تليه حتى الخمسين؟! جفَّت دموعي من شدّة البكاء على نفسي فأصبحت أبكي دماً، وما رأيت أحداً قبل هذا الموقف يبكي ولكنني بكيت .... ! أسفاً على لحظات الدنيا التي انقضت ولم أستثمرها كما ينبغي، ولم أتزود منها بالزاد الوافي لهذه المواقف والأيام. كل من في المحشر مشغولٌ بنفسه، فلا أحد من الجن أو الإنس، ولا من الملائكة ينظر إليّ فيسألني عمّا بي أو يترحم عليّ سِوى عملي.. قلت لعملي الصالح : بالله عليك قُل لي شيئاً يُهوِّن عليّ ما نزل بي، ويطمئن قلبي الملتهب حسرةً وندماً.. قال : إن شاء الله ستنال الشفاعة في آخر موقفٍ من مواقف القيامة الكبرى، إذ لا سبيل لها الآن . إنك لم تُطفئ ناري المشتعلة في أحشائي، إن قلبي يلتهب الآن ! وتقول أني أنال الشفاعة بعد خمسين ألف سنة ! يا عزيزي ، إنك تعلم أني خلاصة أعمالك الصالحة، وملَكاتك الحسنة، فلا تتوقع مني أكثر ممّا ادخرته لنفسك في عالَم الدنيا، ولو كنتَ أعطيتني من القوة أكثر ممّا لديّ الآن، لتمكَّنتُ من تخفيف بعض آلامك، ولكن لا تقنَط من رحمة الله، ولا تيأس من فضله... لم يُكمِل كلامه حتى سمِعنا نداءً هزّ أهل المحشر، وسمِعه أولهم كما سمِعه آخرهم : (( يا معشر الخلائق أنصِتوا واستمعوا منادي الجبّار )) إنكسرَت الأصوات عند ذلك، وخشعت الأبصار، وفزعت القلوب، ورفع الجميع رؤوسهم مُنصتين (( مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعٌِ ))، فكان النداء : يا معشر الخلائق إنّ الله تعالى يقول: (( أنا الله لا إله إلّا أنا الحَكَم العَدْل الذي لا يجور، اليوم أحكمُ بينكم بعدلي وقِسطي، لا يُظلَم اليوم عندي أحد، اليوم آخذ للضعيف من القوي بحقّه، ولصاحب المظلَمة بالمظلمة بالقصاص من الحسنات والسيئات، وأُثيب على الهِبات، ولا يجوز هذه العقبة اليوم عندي ظالِم، ولا أحد عنده مظلمة، إلا مظلمة يهبها لصاحبها، وأثيبه عليها، وآخذ له بها عند الحساب)). توجه عملي الصالح نحوي وقال: إن الله تعالى جعل هذا الموقف موقف تصفية الحقوق بين أهل المحشر، إذ هنا يأخذ المظلوم حقه من ظالمه، والمسروق من سارقه، والمغتاب ممن اغتابه و..... قاطعتُ كلامه بقولي له: وهل أخذُ حقّي منهم يخفّف عني ما أعانيه ، وما أتألم منه ؟ بالتأكيد ، وجميع ذلك ينفعك في موقف الميزان والحساب . بعدها إصطحبنا عدد من الملائكة، يسمونَهم ملائكة أخذ المظالم، وقد كان معهم كتاباً سُجِّل فيه كل مظلمة وتبِعة كانت لي ولم أستوفي حقي منها في عالم الدنيا . كان أول إنسان توجهوا إليه هو جمال!.... ولكن بأي حالٍ سيء كان.. رأيته عاري البدن مسوّد الوجه والجسم وقد اختلط سواده بالدماء السائلة من جروحه، يحاول ستر نفسه، ولكن بأي شيء يستره ! قلتُ: سبحان الله ! أهذا جمال الذي كان يتكبّر ويتملّق لمسؤولي الشركة، أهذا جمال الذي كان يرتدي الملابس الفاخرة، ويركب السيارة الحديثة، ويسكن المنزل المجهّز بأحدث الوسائل والإمكانات ! أهذا المهندس الذي كان يصرخ باطلاً على العمّال، ولا يحترم أحداً دونه، بل كان ينقص من حقهم، ولا يبالي بأجورهم. إلتفتُ نحو عملي الصالح وقلت له مشيراً بيدي إلى جمال: أترجو من هذا شيء وهو بتلك الحالة؟! هل لديه حسنة واحدة حتى أرجو أن تُعطَى لي، لا أظن ذلك. لا تعجل الأمور يا عزيزي ، وترّقب ما سيحدث . #يتبع

امواج القيامه حيث تعيش القصص. اكتشف الآن