الجزء 18

68 6 0
                                    

تعالَت الأصوات وهي تقول: يا رسول الله، وما الثقلين ؟ أجابهم خاتَم الأنبياء مستنكراً سؤالهم، إذ قال : ألم أقل لكم : (( إني قد تركت فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي، وأحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله حبل ممدودٌ من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ألا وإنهما لن يفترقا حتى يرِدا عليّ الحوض)). إجتمع أصحاب الأصوات المتفرقة في مكانٍ واحد، ودار الحديث بينهم وبين الخاتَم (صلى الله عليه وآله) إذ قالوا له: أمّا كتاب الله فقد عملنا به، وأما عترتك فلم نعرفهم يا رسول الله . ردّ الرسول معترضاً على جوابهم ، فقال: (( كيف تدّعون أنكم عملتم بكتاب الله دون العترة ، وقد أخبرتكم أنهما لن يفترقا حتى يرِدا عليّ الحوض، وقد فرقتم بينهما، انتم لم تعرفوا أسرار القرآن لأنكم لم تعرفوا عترتي حتى يعرّفوكم به وهل يمكن العمل بالشيء دون معرفته؟ )). قالوا : إن علماءنا لم يعرّفونا بعترتك، ولم يذكروها في كتبهم ونحن تبعناهم، من أجل الوصول الى الجنة . أجابهم الخاتَم بقوله : (( إن علمائكم الذين عرفوا الحقيقة، واستَيقنوا بها، ثم جحدوها وحجبوها عنكم، إنما هم الآن في الدركات السفلى من النار.. أما أنتم فهلاّ سألتم عن الثقل الأصغر الذي لا يفارق كتاب الله من هُم؟ وهلاّ حاسبتم علمائكم عن سبب تركهم لهم )) . (١) إستمر كلام الخاتَم (صلى الله عليه وآله) ليقول: (( ثم كيف تقولون أنكم عملتم بكتاب الله، وكتاب الله يقول لكم : {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} ، وقد بيّن القرآن من هم وُلاة أمركم، كما بيّنتُ أنا لكم ذلك، فلا أطعتم الله، ولا رسوله فيكم، ولا أطعتم وُلاة أمركم)). إستأنف الرسول عتابه لهم وقال: ألم أقل لكم: (( إن مثَل أهل بيتي فيكم مثَل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق)). ألم أقل لكم : (( النجوم أمانٌ لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لأمتي من الإختلاف)). ضجّ الناس جميعاً بالبكاء على أثر عتاب الرسول الخاتَم لهم، ولكنّه استمر في كلامه وقال: إن أحاديثي هذه وعشرات أمثالها موجودة في كتب مذهبكم لو تفحّصتم وتعقبتم لعرفتم، لكنكم أسلمتم رقابكم لأئمتكم، واتبعتموهم دون تحكيم عقل، أو تدقيق أمر)) . أصبحنا لا نسمع إلا أنين وبكاء وطغى صراخ جمعٍ من النساء والرجال، ودعائهم على انفسهم بالويل والثبور، وهناك أصوات أخرى تنادي رسول الله أن (( نستميحك العذر يا خاتَم الأنبياء)). توجه رسول الله (صلى الله عليه وآله) نحو علي (عليه السلام ) وأشار إليه، ثم خاطب الناس، وقال : ثم ما لكم اختلفتم من بعدي في عليّ وذريته، وقد أخبرتكم في أول بعثتي أن (( هذا أخي ووصي وخليفتي فيكم)) .. وأمرتكم بالسمع والطاعة له ، لكنكم قطّعتم دينكم إلى فرق ومذاهب، وتركتم حبل الله المتين، فبقي القرآن وحيداً غريباً يفقد صاحبه، ومفسّره، ومَن يعلم تأويله وبواطنه. وفي موطن آخر قلتُ لكم: (( من أراد أن يحيا حياتي ويموت ميتتي ويسكن جنة الخلد التي وعدني ربّي، فليتولّ عليّ ابن ابي طالب ، فإنه لن يُخرجكم من هدىً ولن يدخلكم في ضلالة)).  طال الحديث بين الطرفين حتى لم يبقَ للناس حجّة على رسول الله، حينها أعرض عنهم، وأشار إلى علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، وقال للناس الكلام الأخير في حقّهم : (( إن الله تعالى خلقني وخلق علياً وفاطمة والحسن والحسين في عالم الملَكوت قبل أن يخلق أبيكم آدم (عليه السلام) بألفَي عام، حين لا سماء مبنية، ولا أرض مدحية، ولا جبال مرسية، ولا بحار مجرية، ولا رياح مسرية، ولا شمس مضيئة، ولا قمر منور، ولا ظلمة ولا نور ، ولا جنة ولا نار )). قال خاتم النبوة كلامه هذا ، ثم أشار لعلي وفاطمة... ثم أشار لعليّ وفاطمة أن اشفعوا في أمّتي لمن ترونه لائقاً لشفاعتكم، متّبعاً لولايتكم. تقدمَت الزهراء عليها السلام بنورها البرّاق، بعد أن أوحى الله عز وجل لها أن يا فاطمة : سَليني أعطك وتمني أُرضك ، قالت السيدة فاطمة الزهراء(عليها السلام): (( الهي أنت المُنى وفوق المُنى، أسألك أن لا تعذّب محبي ومحبي عترتي بالنار )). (( إلهي وسيدي، سميتني فاطمة وفطمتَ بي من تولّاني وتولّى ذريتي من النار ، ووعدك الحق ، وأنت لا تخلف الميعاد)). جاء النداء من العليّ الأعلى أن: (( صدقتِ يا فاطمة إني سميتكِ فاطمة، وفطمتُ بك من أحبكِ وتولاكِ وأحبَّ ذريتكِ وتولاهم من النار، ووعدي الحق وأنا لا اخلف الميعاد، يا فاطمة وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني، لقد آلَيت على نفسي من قبل أن أخلق السموات والأرض بألفَي عام أن لا أعذّب محبيك ومحبي عترتك بالنار. يا فاطمة قد أوكلتُ أمر هؤلاء لكِ لتشفعي فيهم فأشفّعك، حتى يتبَيّن لملائكتي وأنبيائي ورسلي وأهل الموقف موقعك مني، ومكانتك عندي . يا فاطمة من قرأتِ بين عينيه مؤمناً ومحباً فخُذي بيده وأدخليه الجنة )).(2) أقبلَت فاطمة (عليها السلام ) وسط الجمع، فما بقي أحد منا إلا وغضّ بصره أو أغمض عينيه.. و بدأت الزهراء (عليها السلام) تلتقط شيعتها ومحبيها من النار كما يلتقط الطير الحَبّ الجيد من الحَبّ الرديء، تلاها عليّ ثم الحسن، ثم الحسين.. حتى أصبحَت أعدادنا كبيرةً جداً، وكنتُ أنا أحدهم، نعم كنتُ ممن التقطتني فاطمة (عليها السلام) بشفاعتها. قادَتنا ملائكة الرحمة، وأخرجونا من النار، وتركنا وراءنا جمعٌ كثير من الناس يصطرخون ويستغيثون، مرّة للزهراء يلتمسون، وأخرى بأبيها يتوسلون، وآخرين لعليّ يطلبون ، ويقولون: { فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ } وآخرون يئِسوا من الشفاعة، فراحوا يتمنَون العودة للدنيا، لا لشيء إلا لأن يكونوا من المتمسكين بثقل الولاية، إذ كانوا يقولون: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}... ثم خرجنا من جهنم، نعم، خرجنا منها وحال أكثرنا بأسوأ ما يكون، فهو كالحمم والفحم، لذا ذهبوا بنا إلى نهرٍ يُقال له نهر الحياة، يُرَش عليه من ماء الجنة فألقينا أنفسنا فيه، حينها زالَت عنا كل آثار النار والعذاب، وخرج الواحد منا كالبدر في ليلة تمامه..(3) ثم غادرتنا بنت خاتَم الانبياء بعد أن تركت في قلوبنا العشق لها، وكل واحدٍ منا يشعر بالمِنّة العظيمة منها عليه. تقدمنا أكثر نحو الجِنان برفقة الملائكة ودلالتهم ، وخلال مسيرنا هذا سمعتُ تلاوةً ممن كانوا معي فأصغيت له اذ كان يقول : { لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ } مررنا في الطريق على عينٍ ماء كبيرة توقفنا عندها، وأمرونا بالإغتسال من مائها، فقذفت بنفسي فيها، حتى خرجت في أحسن صورة وأتّم نور، مستعداً لجوار الله تعالى في جنانه. إنطلقنا إلى العَين الأخرى وإذا بمائها يُضيئ من تلألؤ الحَواري التي كانت واقفةً على جوانبها . تقدمتُ نحو إحداهنّ لأتناول الكأس الذي تحمله فقلت لها وقد أدهشني جمالها، وحسن هيئة الإناء الذي بيدها : من أنتِ؟ قالت بعذوبة وأدب: أنا حوريةٌ خلقني الله من سعيك في الدنيا لتطهير نفسك رغبةً في لقاء ربك.. ولكني لم أتمكن من تطهيرها كما ينبغي.. قالت :لا بأس عليكَ، فقد شفع لكَ شخص اسمه مؤمن، ورُفعت درجتك إلى درجات المتطهرين بعد أن قبل الله شفاعته فيك.. فرحتُ كثيراً بعد أن سمعت إسم صديقي مؤمن، وتمنيتُ اللقاء به لأشكره على ذكره لي، ووفاءه بوعده معي، عندما قال لي في ساحة المحشر أنه لن ينساني، وأنه
سوف يشفع لي في المواطِن التي يمكن له فيها ذلك.. إنني لا أنسى فضله في دار الدنيا حيث زرع بِذرة الإيمان في قلبي. شربتُ من كأس ماء العين التي بيَدِها، سبحان الله ما أعذب هذا الشراب، وما أعظم أثره على نفسي، بعد شرابه أحسست بطهارةٍ في قلبي من كل رجس وغِلّ وملَكة لا تليق بمقام القُرب من الله. وقفنا على أبواب الجنة حتى أطلّت عليّ إشراقة عملي الصالح بعد فراقٍ طويل، سلّم عليّ وعانقني، ثم قال : ألم أقل لك يا سعيد سيأتي اليوم الذي أقودك فيه إلى الجنة، وها أنت على أبوابها. إنطلقنا نحو أبواب الجنان ولكني رفضتُ الدخول، وتأخرت عمّن دخلها.. فسألني الملائكة عن سبب تأخري فأخبرتهم أني لا أدخل الجنة حتى أشفع لأهل بيتي.. (4) أريد الشفاعة لأمي المسكينة التي تركتها خلفي في عقبة صِلة الرحم، ولا أعلم أين سارت بها أمواج الحساب. أريد أن أشفع لأختي التي لا أنسى فضلها عليّ في دار الدنيا، فقد تكفلَّت بتربية ولدي اليتيم الأبَويْن حتى أصبح من المؤمنين المتخلّقين بأخلاق الأسلام، والمدافعين عنه بالقلم واللسان . تقدم نحوي أحد الملائكة ، فتكلم معي بلطفٍ بعد أن بارك لي بالنجاة والفوز بالجنة ونعيمها، وقال لي: إن مرتبتك لا تُجيز لك الشفاعة في جميع أهل بيتك، وإن البعض منهم من له ذنوب ما لا تسمح له باستقبال شفاعتك فيه  أخبرني عن أي شخص منهم يمكنني الشفاعة له . يمكنك ذلك لأختك فقط دون غيرها. آه! والآخرون ؟! وأمي كيف السبيل لنجاتها؟ إن أمّك لا تزال محبوسةً معذّبةً في عقبة صِلة الرحم، وأمامها عقباتٌ عديدة لم تتجاوزها بعد. ولما رأوا إصراري على مطلبي قبل دخول جنتي، قال أحد الملائكة إذاً أدعوا الله أن يشفّعك في أختك . ألقيتُ بنفسي ساجداً داعياً الله تعالى ، باكياً، مستحضراً فضل الله العظيم عليّ بنجاتي من النار . ناجَيتُ ربّي أن: (( يا إلهي ، يامن سلطان الآخرة بيده ، يا من لا يشفع أحدٌ في غيره إلا بأذنه ، أسألك بحق الأنوار التي خلقتها وخلقت كل نور منها إلا ألحقتَ أختي بالجنة.)) لم أغادر موقعي ولم أدخل جنتي ، وكنتُ أنتظر قدومها بشوقٍ عظيم.. طالَ انتظاري على أبواب الجنة حتى جائتني حوريةٌ منها ، تلتمسني دخول الجنة ، وتخبرني أن رفيقاتها بانتظاري . قلت لها : أشكركِ كثيراً ولكني انتظر قدوم أختي معي، فقبل رحلتي من الدنيا تعاهدنا في يوم الغدير أن لا يدخل أحدنا أبواب الجنة حتى يشفع كل منا للآخر، وأنا لا أريد أن أخلف عهدي معها . بقيتُ أنتظر إلى أن جاءتني البُشرى بقدومِها.. نعم إنها هي قد وصلَت إلى أبواب الجنان... --------------------- (١)
إن كلام وخطابات خاتم الأنبياء (صلى الله عليه واله) والتي ذكرناها في هذه الأحداث من الرواية ورَد معناها في الأحاديث والروايات والكتب المعتبرة، وليس بالنص الحرفي منه (صلى الله عليه وآله). (2) ورد مضمون ما دار بين الله عز وجل والسيدة الزهراء عليها السلام في رواية مذكورة في كتاب بحار الأنوار ج27، وأخرى مذكورة في كتاب كشف الغمة ج2.. (3) في عوالي اللئالي، عن رسول الله (صلى الله عليه واله) إن أهل النار يموتون ولا يحيون، وإن الذين يخرجون منها وهم كالحمم والفحم، فيلقون على نهر يُقال له الحياة أو الحيوان، فيُرش عليهم أهل الجنة من مائه ثم يدخلون الجنة وفيهم سيماء أهل النار ، فيقال هؤلاء جهنميون، فيطلبون إلى الرحيم عز وجل إذهاب ذلك الإسم عنهم فيذهبه عنهم ، فيزول عنهم الإسم، فيلحقون بأهل الجنة.. (4) في بحار الأنوار، عن أبي جعفر (عليه السلام) : إن لرسول الله (صلى الله عليه وآله) الشفاعة في أمّته ، ولنا شفاعة في شيعتنا، ولشيعتنا شفاعةٌ في أهاليهم...
يتبببببع

امواج القيامه حيث تعيش القصص. اكتشف الآن