الجزء10

64 10 0
                                    

تمعّن به قليلاً ثم قال: لا يشرب عبدٌ خمراً في دنياه إلا وحشره الله بهذه الهيئة التي تراها، وقد أقسمَ ربّي جلَّ جلاله أنه لا يشرب عبدٌ خمراً إلا وسقاه يوم القيامة مثل ما شرب منه من الحميم.(1) وصل بنا الملك المأمور إلى رجلٍ كان بدنه عارياً متعفناً ، تخرج منه رائحة جيفة الأموات، وهو يقطّعُ لحم بدنه المتعفِّن ويأكل منه، كان يتلوى ألماَ حينما يمضغ لحمه بأسنانه الصفراء ! أمرٌ عجيبٌ ! لماذا يأكل هذا الشخص بهذه الصورة.. تحيرت أكثر عندما أخبرني الملك أن لي مظلَمة عنده، فتمعنت فيه أكثر ولكني ما عرفته . فسألت الملك عن أي حق لي عند هذا الشخص ؟! قال الملك: إنه كان يجلس مجالِس الغيبة والبُهتان عليك، ويشارك فيها ولا يدافع عنك، ولا يقوم من مجلسه عندما تُذكر فيه بسوء، أو تُفترى عليك الأقاويل. إنه أحد رفاق جمال الذين لم تتعرف عليهم في دنياك. سأله الملك عن سبب مشاركته في مجالس الغيبة والبهتان، فأنكر ذلك، وقال : متى كان ذلك ؟ إنني لم أنطق أو أسمع أيّ غيبة عن هذا الشخص، لم أسمع أيّ شيء عنه ... أراد أن يبكي بدموع التماسيح، ولكن فضحه سمعه بشهادته عليه إذ نطق وقال: نعم إنه كان يستعملني كثيراً لسماع الغيبة، بل لسماع إفتراءاتٍ كاذبة على سعيد، وكان لا يرد على أهل تلك المجالس، بل يتلذذ بسماعها، ويضحك معهم، وأنا شاهدٌ على ذلك.. إنه كان غافلاً عن الآية
الكريمة: (( حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )) نكَّس الرجل رأسه للأرض وبكى بكاءً شديداً، وتمسك بأطراف ثيابي متوسلاً أن أهبَه حقّي الذي عنده، فأبَيْت ذلك. لم يتركني على حالي، بل راح يتوسل، ويقّبل يدي مرّة وقدمي أخرى، وفي كل ذلك كنتُ أعرض عنه ولا أقبل منه. إلتفتُ إلى عملي الصالح، فقلت له : إنني كلما راجعت نفسي، ما وجدت في قلبي ذرّة تحنّن ورأفة عليه أو رِقّة على حاله، أيكون ذلك بسبب انحطاط درجته وتدنّي مقامه ؟ قال العمل الصالح : صحيحٌ ما تقوله ، وصورته وحاله يدلك على ذلك، ولو كان من المتقين لألقى الله في قلبك حباً له، و لوهبته مظلَمتك التي عنده، والله يعطيك مثلها من الأجر. أخذت حقّي منه، وانطلقنا نبحث عن مظالِم أخرى، ولكن خلال مسيرتنا أقبل علينا شخص مُسودّ الوجه، يصرخ بصوت عالٍ: أين فلان؟ أين فلان؟ أصغيت جيداً لِمَا يقول، عجيبٌ أمره إنه ينادي بإسمي ويطلبني! تُرى ماذا يريد مني ؟ استوحشتُ منه أكثر عندما رأيتُ معه ملك مأمور وجمع من ملائكة أخذ المظالم إقترب مني وأراد أن يمسكني من عنقي، فمنعه الملائكة الذين برفقته، وكلما حاول ذلك مُنع منه. تمعنتُ في صورته وملامحه أكثر وأكثر حتى تذكرته، لقد كان صاحب محلٍ صغير بالقرب من محل سكني أيام دراستي في الجامعة، ولكن ترى ماذا يريد مني الآن ؟! بادرني الملك المأمور معه بقوله: إنّ لهذا مبلغ لديك لم تؤدِّه إليه في الدنيا، وهو الآن يريد أخذ ما يعادله منك.. سألته مستغرباً عن زمن ذلك وكَيفيته، فأجاب : لقد كنتَ تتسوق منه يومياً ما يلزمك للعشاء لك ولرفاقك منه، وذات مرّة إشتريت منه بيضةً واحدة، فأعطيتَه مبلغاً بعملة ذات فئة كبيرة، فاستحى أن يصرِفها لك لأن المبلغ كان زهيداً، لذا قال لك أن لا تثريب في ذلك، يمكنك إضافتها على الحساب القادم، ولكنك استحقرتها ولم تؤدِّها إليه، فبقيَ مبلغها في عنقك حتى انتقلت من الدنيا للبرزخ بالموت، وانقطع بك السبيل، وما كان أحد في الدنيا يعلم بهذا الأمر كي يؤديه عنك. خاطبتُ الرجل ملتمساً إيّاه : ألا تهبها لي ؟ إني بأمس الحاجة إلى حسنة واحدة، وأنت تريد أن تأخذ مني حسناتي. لم يعبأ الرجل بكلامي، وقال: ألا تَرى بدني يتوهج من شدّة حرارته ؟ إنني أريد أن أضع إصبعي في بدنك فلعلّه يبرد قليلاً ... ولو للحظة واحدة . نظرت إلى إصبعه فرأيته متوقداً محمراً كالجمرة الحمراء ! لم يترك لي فرصة النطق بكلمة واحدة، إذ مدّ يده نحوي وغرز إصبعه في عنقي، ولشدّة حرارته أحدث ثقب فيه، وصَهَر ما حوله.. صرخت صرخةً عظيمةَ من شدّة الألم سمعها من في المحشر، وبقيتُ أتلوى ألماً وحرقةً، وبكيت بكاءً عظيماً.. فلا أدري على أيّ شيء أبكي.. أبكي لعظيم ألمي..أم لحرقة بدني.. أم لندامتي على غفلتي واستحقاري لهذه وغيرها من تبعات عالم الدنيا. مضت مدّة طويلة وأنا أتألم ممّا أحدَثه هذا الرجل في بدني، بل أُضيفت فوقه تبعات أخرى ومظالِم عدّة ما كانت في الحسبان، بل ما كنت أتوقع يوماً أن يأتي أصحابها وينتزعوا ما يعادلها مني، وذلك لتفاهة قيمتها كما كنتُ أتصور في دار الدنيا! ذات مرّة أتاني شخصٌ ما كنت أعرفه، وقال إن مظلمته عندي أنه ذات يوم كان واقفاً في صفّ شراء الخبز، فأتيت أنا لشراء الخبز أيضاً، وكان بعض من الوافقين عمّال في الشركة التي كنت أعمل فيها مهندساً، فقدَّموني أمامهم، فتقدمت، وما حسبت أني اخذت حق من كان يقف خلفهم، وقد كان هذا الرجل أحدهم، فامتعض من فِعلي هذا، وجاء اليوم ليأخذ حقّه مني! وقد أخذه وذهب بحاله . وذات مرّة جاءني شخصٌ يطالبني بحقّه في الجلوس في الصف الأول من صلاة الجماعة، إذ أتيت في يومٍ من أيام الدنيا لأداء الصلاة، ورأيت الجمع مجتمع، والصفوف ممتلئة، فقدّمني أحدهم للصف الأول وطلب من الشخص المذكور القيام كي أجلس أنا محله، فقام دون رضاه، وقبلت أنا ذلك لغفلتي أني قد أخذت حق أسبقِيَته في المكان ! وعندما أخذ حقّه مني الآن نكستُ نكسةً كبيرةً وانكسار عظيم.. ------------------------ (1) ورد هذا الوصف في بحار الأنوار، في حديث عن النبي (صلى الله عليه واله) #يتبع

امواج القيامه حيث تعيش القصص. اكتشف الآن