الجزء 19

65 7 0
                                    

عانقتُها بعد فراق آلاف السنين، وأول كلمة قلتُ لها ودموع الفرح قد اختلطت بدموعها : أوَفيتُ بعهدي معك يا أختي؟ رفعَت رأسها وقالت: نعم، قد وفَيتَ يا سعيد.. كنتَ وفياً للعهد في الدنيا فأمكنك الله من وفاء عهدك معي في الآخرة، كنا ندعو الله سويّة أن يجمعنا في الجنة وقد إستجاب لنا، فنِعم الربّ ربنا . علِم الجميع بقدومها، وفتحت الجنة أبوابها، اقتربنا أكثر ورأينا حشود الملائكة المستبشرة بقدومنا قد وقفت على باب الجنة، وعند المرور بهم نادى أولهم بصوت جميل : { سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ }. وتقدّمنا أكثر، فنادى آخرهم مشيراً إلى الجنة ونعيمها:{ وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }.. نظرتُ إلى هُدى وهي مبهورة بما ترى، فرحةً بالنعيم الذي ينتظرها، والملائكة التي ترافقها، والجواري التي تخدمها والطيور التي تغرد بأغانيها فرحاً بقدومي وقدومها، حينها سمعتها تقول : { وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } لم يشغلني النعيم عن والدتي، فالتفتُ إلى هُدى، وقلت لها : إن أمي بحاجة إلى شفاعتنا، وقد تركتها في عقبة صِلة الرحم تتلوى ألماً، وتحترق حسرة، وطلبت من الملائكة الشفاعة لها، ولكنهم أخبروني بعدم تمكني من ذلك لأن درجتي ضعيفة لا تسمح لي بالشفاعة لأمثالها. أجابتني هُدى ، وقالت : صحيح ما قالوا، لذا علينا التوسل بأصحاب المقامات العالية. وهل تعنين أحداً في كلامك يا أختي ؟ نعم، إن والدتي كانت تطلب دائماً الشفاعة في دنياها من الإمام الحسين سلام الله عليه، كانت تبكي كثيراً عندما أقرأ لها زيارة عاشوراء، وخصوصاً عند المقطع الذي يقول : (( اللهم ارزقني شفاعة الحسين يوم الورود، وثبّت لي قدم صدق عندك مع الحسين وأصحاب الحسين الذين بذلوا مُهجهم دون الحسين(عليه السلام) ))، وهذا يوم اليوم الورود على الله، أليس كذلك يا سعيد ؟ آه! صحيحٌ جداً ما قلتيه، وقد كانت تقيم مجالس العزاء للقربى من الله لا لشيء آخر . أختي العزيزة، اتركي هذا الأمر لي واذهبي إلى جنتك التي أعدّها الله لك، فكل ما عملتِ في الدنيا من خير قد تجسم لك بشكل قصور جذّابة، وبساتين خلّابة، وخدم من الجواري والولدان المخلّدين، الذين وصفهم الله تعالى في قرآنه كأنهم لؤلؤٌ مكنون.. أختي! إني مسرورٌ جداً لك، وسوف أزورك عن قريب في جنتك، ولعلّه مع والدتنا إن شاء الله . عندما فارقتها، سألت عملي الصالح عن الطريق إلى طلب شفاعة الحسين عليه السلام لوالدتي، فذهب سريعاً ثم عاد ومعه ملك في غاية الجمال، وقال لي أسأله بما تشاء، فسألته: كيف الطريق إلى نيل شفاعة الحسين لوالدتي، أريدها أن تلحق بنا. فإني سمعت في الدنيا القول عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة، وأن الجنان والحور العين خُلقت من نور الحسين، والحسين أفضل منهما، وإن للحسين في الجنة درجات ما نالها إلا بشهادته... إذا أنت تعلم بعظم مقامه وعُلو درجته، ولذا تطلب الشفاعة منه.. نعم إن والدتي من الصعب إخراجها من مأزقها الذي وقعت فيه إلا بشفاعة أصحاب المقامات العالية عند الله، وبما أنها كانت تطلب شفاعة الحسين عليه السلام وهي في الدنيا، وكانت تطلب القربى من الله بزيارته والبكاء عليه، فلا أظنه يتركها في الآخرة وهي بأشدّ الحاجة إليه، ولا أظن الله يرفض شفاعته فيها.. فكيف يمكن الوصول إلى الحسين (عليه السلام) والتحدث معه؟ فقال الملك: إن قوانين الآخرة ليست كقوانين عالم الدنيا الذي كان مقيداً بالزمان والمكان، فلا يحتاج أن تذهب إليه حتى تتحدث معه، لقد كنت تزوره في الدنيا من على بُعد في المكان منه، وتعتقد أنه يسمع كلامك، ويرد جواب سلامك، فكيف وأنت الآن في عالم الآخرة؟ لم يكد حديثنا ينتهي حتى قدِم علينا مَلَك ساطع نوره، عظيمٌ بهاءه وجماله واقترب منّا، ويبدو منه أنه قادم من الجنان العالية ثم توجه نحوي وقال: إن الحسين سيد شباب جنان الخلد يبلغك السلام مع كل اخوانك المؤمنين الذين وردوا حديثاً إلى جنانهم، ويريد زيارتكم عن قريب، فهل ترغب في ذلك؟ طرت فرحاً وسروراً حينما علمتُ أن مولاي يرغب في زيارتنا، ولم أكن أُصدق ذلك لولا علمي بأن عالَم القيامة هو عالمَ الحقيقة المطلقة وليس فيه حلم ولا نوم ولا خيال.. لذا جمعتُ أمري وقلت له: كيف لا أرغب في لقاء مولاي الحسين، وقد كنت أذرف الدموع شوقاً لزيارة قبره، فكيف والآن يدعوني للقاء شخصه.. أخبره أن سعادتي ليس بالجنة التي سأدخلها بل إن سعادتي بلقائه والنظر إلى جمال وجهه... لم أكن قد دخلت جنتي بعد.. فسألتُ عملي الصالح أن يأخذني إليها.. فذهبنا و دخلتها.. وأيّ جنةٍ ساحرة! وأين هي من جنّات الدنيا وجنّات عالم البرزخ ! تقدمنا في المسير داخل الجِنان، وفيها ما لا عَينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشَر، حتى وصلنا إلى أول قصر من قصورها، نظرت إليه فرأيته من فضّة، مُشرقاً بالدُرّ والياقوت قد وقف على أبوابه الملائكة وحور العين.. أكملنا مسيرنا، حتى أتينا إلى قصرٍ من ذهبٍ مُرصّع بالدُرّ والياقوت، فأخبرني الملك أنه مُلكي، وهناك ما هو أعظم منه . تابعنا مسيرنا ومررنا بقصورٍ عديدة أخرى، حتى وصلنا إلى قصرٍ في غاية الجمال، يُرى باطنه من ظاهره، وظاهره من باطنه، ليس له حدٌّ في سعته، ولا نهايةٌ في علوه، وما رأيتُ مثيلاً له في جماله وعظمته . تبسّم عملي الصالح بعد أن شاهد القصر ، وتمعن فيه ثم قال: يا سعيد، لقد كنت مهندساً في الدنيا، وذو خبرة عالية في تصميم الأبنية، فما رأيك بهذا القصر؟ أجبته مبتسّماً: لو اجتمع عظماء مهندسي الدنيا على بناء غرفة واحدة من غرفه، ما تمكّنوا، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً. تجَولنا قليلاً في حديقة القصر، وكانت الورود تُحيّينا، وتُغيّر من ألوانها بين الحين
والآخر...توقفت عند أحدها بعد أن رأيتها مسرورةً جداً بقدومنا، وقالت: أنا وردةٌ خلقني الله قبل آلاف من السنين ، وكنتَ أنت السبب في خلقي ، فلك المِنّة عليّ أن أخرجتني إلى عالم الوجود ! سألتها مستغرباً : وكيف كنتُ أنا سبب وجودكِ ؟ قالت وكأنها واثقة من كلامها: أنت الذي صنعت هذا بعملك الصالح في الدنيا والذي تراه أمامك الآن، وهذا القصر العظيم أنت بنيته بعملك لبنة بعد لبنة منذ ذلك الوقت، وهذه الورود والأشجار والأنهار أيضاً. وقد كان المناخ ذا عذوبةٍ بالغة، ونور معتدل، لا ترى فيه شمس ولا زمهرير.. توجهنا بعد ذلك نحو شجرة لفتَت نظري من بين الأشجار، وتوقفت عندها فبهرني جمالها، إلتفت نحو الملك، وقلتُ له : ما اسم هذه الشجرة؟ ؟ قال: إنها غصنٌ من أغصان شجرة طوبى التي يمتد جناح ظلّها على الجنان كلها، وأصلها من رضوان، وماءها من تسنيم، وما في الجنة من قصر ولا دار إلا وفيه فرع منها. قلت مندهشاً: سبحان الله إذا كان هذا غصنٌ من أغصانها فكيف يكون أصلها ؟! قال: إنّ أصلها في دار خاتَم الأنبياء ووصيه عليّ عليهما السلام وهل دارهما واحدة ؟ نعم إن دارهما واحدة وفي مكانٍ واحد من جنّة عدن، عند قبّة الرضوان، وما قصرك وجميع ملكك إلا كذرّة من ذرات تراب جنة الخاتَم وأهل بيته عليهم السلام! ثم قال الملك: من الأفضل أن نترك التجوّل في حدائق القصر إلى وقتٍ آخر، وندخل الآن الى غرفه، فإن زوجتك علمت بقدومك، وقد بلغ شوقها إليك كبيراً.. دخلنا القصر، فكان على شكل غُرف من فوقها غُرف مبنيّة بالدُر والياقوت والزَبَرجَد، وسُقوفها من الذهب محبوكة بالفضّة، ولصفاء جدرانها وأرضها كنتُ أرى صورتي فيها، ولكثرة أبوابها لم أحصها، وكان على كل باب ملك موكل به، كانت في الغرف فرشٌ مرفوعة بعضها فوق بعض، بطائنها من استَبرَق، وظاهرها من الحرير والديباج بألوان مختلفة، تفوح منها رائحة المسك والعنبر.. اتجهنا إلى غرفة في أعالي القصر تُشرف على كل حدائقه، قالوا أنها غرفتي، دخلتُها بسم الله الرحمن الرحيم... سبحان الذي خلقني وخلقها ! إنها جنة صُغرى داخل مملكةٍ كبرى، لها من الجمال والكمال ما ليس لغيرها من الغرف الأخرى تجري من تحتها الأنهار.. فقلتُ سبحان الله والحمد لله، وهذا أيضاً ممّا وعدني الله به إذ قال : { لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ } قمتُ٠ لاستطلاع ما في الغرفة، وتذكرت قول الملك عن انتظار زوجتي لي، فأين هي ؟ إلتفتتُ وإذا بها أقبلَت وحولها وصيفاتها، وآلاف الخدم والجواري من خلفها، والملائكة تحفّها من كل جانب.. كنت انظر إليها، فانشغلتُ بجمالها الساحر عن الكلام معها، وقلتُ سبحان ربي حينما قال: { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } إقتربتُ منها، وقلت لها : من أنتِ؟ قالت بصوتٍ عذب : أنا إحدى زوجاتك في الجنة، وأنا من الخالدات اللاتي لا يمُتن، والراضيات اللاتي لا يسخطن... هل أنت من نساء الدنيا أم من حور الجنان ؟ أنا من حور العين التي قال عنها الله سبحانه : { حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ }، وأنا من اللواتي قال الله عنها : { إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً }.. إستأنستُ كثيراً بكلامها، وما أحببتُ سكوتها . فسألتها : ولماذا يُطلق عليكن الحور العين ؟ لتحيّر العقول في جمالنا.. ثم قالت: إن كل ما تراه من جمال وكمال عندي ، أنت وهبته لي . وكيف ذلك ؟ إن الله تعالى خلقني منذ آلاف السنين، عندما كنتَ أنت في دار الدنيا تقضي عمرك فيه، خلقني الله من امتناعك عن النظر إلى ما حرم الله عليك من نساء الدنيا امتثالاً لأمره، ورغبةً في ثوابه، على الرغم من نزغات الشيطان إليك، ووساوسه عليك . في أول خَلقي لم أكن بهذه الدرجة من الجمال والكمال الذي تراه الآن، ولكن كلما امتنعتَ عن النظر المحرم وكلما دمعت عيناكّ في الأسحار من خشية الله، زادني ربي جمالاً فوق جمالي ، ونوراً فوق نوري، فلكَ الفضل علي أن كنتَ السبب في خروجي من العدم الى عالم الوجود، ولك المِنّة عليّ أن جعلتني بتلك الدرجة الرفيعة، والمرتبة العالية.. فرحتُ لكلامها، ثم أجلستها في مكانٍ مرتفع من الغرفة لتتكِأ على إحدى الأرائك المطلة على حدائق القصر، واتكأتُ أنا على أريكة تقابلها، وقلت لها إن جلوسنا هذا مصداق لقول ربي : { هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ } ثم دخل علينا ملائكةٌ في غاية الجمال...
يتبببببع

امواج القيامه حيث تعيش القصص. اكتشف الآن