الجزء16

74 9 2
                                    

مضَينا في مسيرنا مرّة أخرى، ويبدو أن الطبقة الأولى من جهنم أيضاً لها دركات مختلفة من العذاب، وشاهدتُ في بعضها رجالاً تُقطّع ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من نار، ثم يُرمى بها، وبعد السؤال علمتُ أنهم كانوا خطباء الناس وشعرائهم الذين يقولون ما لا يفعلون. وفي بعضها رأيتُ عقارب سوداء حجمها كالبغال، تلسع بعض الناس، فيهربون منها، ولكن هيهات لهم الفرار، إذ تستقبلهم حيّاتٌ سوداء، مرعبةٌ ضخمة في هيئتها، طويلة أنيابها، تخرج النيران من أفواهها لتلسعهم هي الأخرى، فيصرخون ويهربون منها ليعودوا للعقارب من جديد، وهم كذلك في دوّارة بين هذه وتلك. قال لي أحد الملائكة ذات مرّة : إن مأموريتنا إيصالك إلى وادي الموَّحدين، ولا تخف كثيراً، فإن ما تشاهده في هذه الطبقة من جهنم هو أقل درجات العذاب فيها، وسوف لا نقودك إلى الطبقات السفلى منها. استمرّ مسيرنا في أخفّ طبقات جهنم كما يزعمون! حتى انتهينا إلى مجاميع من نِسوَةٍ كُنَّ يُعذبنّ بألوان العذاب. أوقفوني هناك، وقال لي أحد الملائكة المأمورين معي بعد أن أشار إليهِنَّ: ❗️
لا تظن أنهُنَّ من الأمم السالفة، بل من أمة نبيّكم خاتَم الأنبياء. تمعنتُ فيهنّ فأنكرت شأنهنّ، وارتعشَت فرائصي لعذابهن، إذ رأيتُ امرأةً معلقةً من شعرها، ويُسمع صوت غليان دماغها، وفوران أحشاء رأسها. وأخرى معلقةً من لسانها، والحميم يصبّ في حلقها، وأخرى كانت تأكل لحم جسدها وتقطعه بأنيابها، وقد توقدت النار من تحتها ألوان عذاب لا يتحمّلها الناظر لها، فكيف بمن وقع فيها! وجهت نظري نحو مجاميع أخرى، فوقع بصري على امرأةٍ قد شدّت رجلاها إلى يديها، وقد سُلطَت عليها العقارب والأفاعي تلدِغ بها، ولفتَ نظري إمرةً أخرى كان رأسها رأس خنزير، وبدنها بدن حمار، وهي تُعذَّب بأنواعٍ لا تحصى من العذاب. وأخرى على صورة كلب والنار تدخل وتخرج منها، والملائكة يضربون رأسها وبدنها بمقامِع من نار...! أصابني خوفٌ شديدٌ ممّا رأيته، وقلت سبحان الله! أهذا مصير نساء أهل الدنيا اللواتي اغترَرْنَ بها؟ قادَني فضولي إلى أن أسأل الملائكة، عن عمل وسيرة النساء في الدنيا حتى يُسلَّط عليهِنَّ هكذا أنواع من العذاب . أجابني، وقال: ❗️أمّا المعلّقة من شعرها فإنها كانت لا تستره عن الرجال، وأمّا المعلّقة من لسانها فكانت تؤذي زوجها، وأمّا التي تأكل جسدها وتقطعه بأنيابها، فهي التي كانت تزيّن بدنها وتجملّه للناس، وأمّا التي شُدّت يداها إلى رجليها، والعقارب والأفاعي تلدغ بها، فإنها كانت قذرةً في ثيابها، ولا تراعي وضوئها، ولا تتنظف بالإغتسال من النجاسات التي توجب الغُسل عليها. وما بالُ التي رأسها رأس خنزير ، وبدنها بدن حمار؟ أجاب وقال: هي النمّامة الكذّابة ، والأخرى على صورة الكلب فهي النواحّة المُغنّية. انطلقنا بعد توقف يسير حتى اقتربنا من شجرةٍ كبيرةٍ جداً تخرج في أصل الجحيم... إقترَبنا منها أكثر وأكثر، فإذا بها شجرة مرعبة موحشة في شكلها وطَلعِها، إنها شجرة الزقّوم وهي كما قال عنها القرآن الكريم : (( طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوْسُ الشَيَاطِينِ )). عليها سبعون ألف غصنٍ من نار، وفي كل غصنٍ سبعون ألف ثمرةٍ من نار، وكل ثمرةٍ كأنها رأس شيطانٍ قُبحاً ونتناً، وقد تعلّق على كل غصنٍ من الزقّوم سبعون ألف من الرجال والنساء.. حاولتُ العَودة، وتوسلتُ بهم للتراجع، ولكن لا جدوى ولا سبيل لذلك. أكلتُ من ثمرها كُرهاً فإذا بها أمرّ من الحنظَل، وأنتَن من الجيف، وأحرّ من الجمر، وأصلب من الحديد! وقعت في بطني فأصبحت تغلي في أحشائي كغليّ الحميم . إلهي ماذا أفعل؟! ثمرة واحدة عملت بي ما عملت، فكيف بمن طعامه الدائم منها! وقعتُ إلى أوديةٍ أسفل الشجرة، فرأيت فيها أناساً سبقوني السقوط فيها، وهي تغلي بهم، ثم ترميهم على حوافها، حيث هوام النار من الحيّات والعقارب والوحوش المرعبة في أشكالها...! رمِي بي إلى حافّة الوادي، وإذا بكلابٍ ضخمةٍ كالجِمال، سوداء في لونها، مخيفة في هيئتها ، إنها كلابٌ من نار! وقد راح كل واحدٍ منها يقطع قطعة من بدني، فتسيل الدماء منه، ثم يُدفَع بتلك القطعة في حلقي لتمزّق أمعائي بحرارتها مع ما بها من رائحةٍ نتنة عفِنة، ثم يتكرر ذلك..آهٍ.. ليت في النار عدم وفناء!!... ظهر خازن النار وسط هذه الحالة وهو يشير نحوي ويقول: أتأكل لحم أخيك في الدنيا وتطلب الفناء الآن؟ أتسمع الغيبة على المؤمنين ولا ترد عليها؟ ناديته بما لدي من طاقة وقوة ضعيفة : متى كان ذلك ؟ إني تركت الغيبة وفررتُ منها كفراري منكم الآن . جاءني الجواب: في يوم كذا أُغتِيب في حضرتك فلان فلم تنصره، ولم تنطق بكلمةٍ واحدة تدافع بها عنه مع قدرتك على ذلك(١)، وفي يوم كذا مرّ فلان أمامك فغيّرت ملامح وجهك، وأشرتَ اليه بيدك إشارةً فهِم الحاضرون منها استحقارك له. لم يكن لي سبيل لإنكار ما ذكره ، ولكني اعترضت عليه من جهة أخرى، وقلت : أهكذا تطول مدّة العذاب لأجل هذا الذنب الصغير ؟ غضب الملك وقال: أما علمت في الدنيا أن الغيبة أشدّ من الزِنا؟ (٢) نكّست رأسي، وأجبته : نعم قد علمت ذلك.. رفع الملك كل أنواع العذاب عني، وقال لي : إن عذابك عندي قد انتهى . لم تمضِ فترةً طويلة حتى أتاني مجموعة من زبانية جهنم، فأصابني خوفٌ عظيمٌ منهم، وارتعش كل بدني حين رأيتهم، أمسكوا بي وسحبوني بقسوَة، فقلت لهم: إلى أين هذه المرة؟ فقال أحدهم: إن في جهنّم وادياً أعِدّ للمرائين من القرّاء، ويُسمّى وادي جبّ الحزن (٣). ولكني لم أكن من قرّاء المنابر على الناس. قال الملك: كنتَ تقرأ على زملائك النصائح والمواعظ حتى يُقال عنك أنك إنسان تحب الخير لهم، ولا تبغي إلا رضوان الله فيهم، وكنت تنصح رياءً بما لم تفعله، وتوصي بما لم تسعَ لأدائه قبل الوصية به.. كنت تظن أن عملك هذا لله، ولكن لو تمعنت فيه قليلاً لوجدته للناس قبل أن يكون لله.. في تلك الأثناء مرّ بنا مجموعة كبيرة من الملائكة ومعهم آلافٌ مؤلّفة من الناس المسوَّدة وجوههم، المحترقة أبدانهم، يصرخون ويستغيثون، وقد شدَّت في أعناقهم سلاسل غليظة من نار. إلتفتَ لي أحد الملائكة، وقال : أُشكُرْ الله أن لم تكن معهم! هؤلاء المتكبّرون على الناس وعلى الله، والمكذّبون لرسوله، وهم المخلَّدون في النار، وإنما يساقون الآن إلى وادي سقر، وهل تعلم ما سقر؟ أجبته: كلا، لا أعلم. قال الملك : إنه وادي يفوق جميع وديان جهنّم في حرارته، ذات مرّة شكا إلى الله شدّة الحرارة فيه، فأذِن له الله أن يتنفس قليلاً، فتنفس وإذا به يَحرِق جهنّم ونيرانها ! بعد ذلك سِيق بي إلى وادي المُرائين فرأيتُ فيه مدّ البصر من البشر ما لا تُحصى أعدادهم، والكل يبكي وينادي بالوَيل على نفسه. استقبلتني الزبانية بأسواطٍ مؤلمة ، ومقامِع من نار ملتهبة، ثم قال لي أحدهم : يا خاسر! لقد عمِلتَ بما أمر الله عز وجل، ولكنك أردتَ به غيره، ورغبت في مدح سواه. لقد حبطَ عملك، وبطل أجرك، ولا خلاق لك اليوم، فالتمِس ثوابها ممّن كنت تعمل له (4)، وهيهات لك ذلك. بقيتُ في هذا الوادي سنين عدّة، وأي سنين ! كل لحظة فيها كانت تعادل ألف عام أو تزيد عن ذلك لقسوتها، وشدّة ألم العذاب فيها، حتى جاء اليوم الذي أتَتني فيه ملائكة الغضب الذين ساقوا بي ليخرجوني منه وينقلوني إلى مكانٍ آخر . سألتهم عن أي مكانٍ يراد بي، فجاءني الجواب : إلى وادي عذاب الموحدين من أصحاب الذنوب الكبيرة . إعترضتُ  عليهم أنني لم أرتكب في الحياة الدنيا ذنوباً كبيرة . وسألتهم أيّ ذنوب كبيرة قد عملتها؟ جاءني الجواب برفقة سَوطٍ من أحدهم : هناك الكثير من الذنوب الكبيرة كنت تعملها ظناً منك أنها صغيرة، وهي ليست كذلك.. ثم أمَا علمت أن الإستهانة بصغائر الذنوب، والإصرار عليها يُعدُّ من الكبائر؟(5) دخلنا وادي الموحدين، فإذا به من البشر ما لا يحصى عدده، وكلهم من الموحدين الذين ماتوا على كبائرهم، غير تائبين منها . كنتُ ضمن مجاميع الموحدين من أمّة النبي الخاتَم (صلى الله عليه وآله) فسألتُ أحدهم حين الدخول معهم : كم سيكون المكث هنا ؟
------------------------
(١) في وسائل الشيعة، ج12، ص291، عن النبي (ص): "يا علي من أُغتِيب عنده أخوه المسلم فاستطاع نصره فلم ينصره خذله الله في الدنيا والاخرة." (٢) في الخصال ، عن النبي (ص): "الغيبة أشد من الزنى، فقيل يا رسول الله ولما ذلك ، قال: صاحب الزنى يتوب فيتوب الله عليه، وصاحب الغيبة يتوب فلا يتوب الله عليه حتى يكون صاحبه الذي يحلّه" (٣) في جامع السعادات، ج٢، ص ٢٩٠، عن النبي (ص): " استعيذوا بالله من جبّ الحزن، قيل وما هو يا رسول الله؟ قال: واد في جهنم أعد للقراء المرائين ". (4) في الكافي عن ابي عبدالله (ع) : "كل رياء شرك، إنه من عمل للناس كان ثوابه على الناس، ومن عمل لله كان ثوابه على الله" (5) في وسائل الشيعة عن أبي عبد الله (ع) :" لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الإستغفار"
يتببببببببع

امواج القيامه حيث تعيش القصص. اكتشف الآن