أُصبتُ بنكسةٍ كبيرةٍ وانكسارٍ عظيمٍ عندما راجعتُ نفسي، وتفحّصت حالي، فوجدت أن نوري قد ضعُف، وثقل سيئاتي قد كبر، وكفّة حسناتي قد خفَّت، وبياض وجهي قد خالَطه السَواد... أصبحت أرتجف كلّما أرى شخصاً يُقبِل نحوي، أو يناديني، خوفاً من أن ينتزع شيئاً لديّ. إلتفتُ إلى عملي الصالح، وقلت له: انطلقنا بحثاً عن مظالِم تنفعنا، ولكني أرى حصول خلاف ما تأملناه! عزيزي سعيد، المشكلة أنك تُبت إلى الله توبة صادقة في الدنيا، ولكنك غفلت عن أداء حقوق الناس التي بقيَت في عنقك، والتوبة لا تكون كاملة إلا بإرجاع كل حقّ إلى صاحبه و إن صغُر، وأنت تعلم أن كل إنسان في المحشر بأمَّس الحاجة إلى زيادة رصيده من الحسنات، ولو كان بمقدار ذرّة أو أقل منها. وماذا أفعل الآن؟ وما هو حلّك لهذه المشكلة ؟ كان الحل بيدك في الدنيا، وهو أن تذهب إلى كل واحد من هؤلاء وتطلب منه براءة ذمتك، أو تُوَفي حقه.. وعلى كل حال لا تحزن، فإنك لا زلت ضمن حدود درجة المؤمنين، ولم تبتعد عنها كثيراً. إني أخاف فقدان حتى هذه الدرجة، إني قلق جداً لِما سيؤول إليه مصيري، وكيف يمكنني تجاوز خمسين موقفاً من مواقف القيامة وتحملّها، وأنا لا أطيق ساعة منها، وهل سأنجو بعدها، أم سأقع في هاوية النار.. وجرت دموعي مرة أخرى أسفا وحزنا على تقصيري وغفلتي في عالم الدنيا، إذ كنت غافلاً عن أن حق الناس لا يسقط بالتوبة فقط، وصحيحٌ أني عزمت على ترك المعاصي ورعاية حقوق الخلق، والتزمت بكلامي بيني وبين الله بعد إعلان توبتي، لكني نسيت تبِعات الماضي، ولم أسعى لتصفيتها مع خلقه. بقيت على هذه الحالة مدّة طويلة، أرى كل مخلوق مشغول بنفسه عن غيره، بل يفرّ حتى من أهله و أخوته، ويهرب من أمه وأبيه، وزوجته وبنيه، فلكل واحد منهم شأن يغنيه، أما أنا فكنت أعيش بين الخوف من قِلّة رصيد الحسنات وبين الأمل بالنجاة... بل حتى ذلك الأمل صار ضعيفاً يوم فوجئت بلقاء زوجتي في المحشر! نعم، كانت تقصدني وتبحث عني، ولم يكن حالها أفضل من حالي. تمعنت فيها جيداً وتيقنت من شخصها... أجل، هي آمنة أم مرتضى بِعَينها، والتي فارقت الدنيا إثر حادث سيّارة يوم كان مرتضى صغيراً لم يتجاوز الرابعة من عمره. سلّمتُ عليها، وسألت عن حالها، فأجابتني... فأجابَتني : ليْت المَوت أعدَمني الحياة يا سعيد، ولَيْتَني لم أُخلَق في الدنيا لأعيش حسرتها الآن، ولَيْت ال... لم تتمكن من إكمال جملتها، حتى جرَت دموعها بغزارة، وارتفع صوت بكائها، فعلمت من ذلك شدّة الألَم والحسرة التي أصابتها.. وما أن هدأت حتى سألتها : ولكن ما الذي تطلبيه مني؟ ولماذا تبحثين عني في صحراء المحشر؟ كانت متردِدة في الجواب، وقد طغى على وجهها الخجل والحياء، ولكنها تغلبت عليه، وقالت : كنت أبحث عنك كي أأخذ حقّي منك.. وما هو حقّكِ عندي ؟ إن الله جعل للزوجة حقوقاً على زوجها ، وأنت لم تراعي الكثير منها ، فهل كنت غافلاً عنها ؟ أم أنّك انجرفت مع العُرف السائِد في مجتمعنا يوم ذاك، والذي يفرض على المرأة واجباتٍ لم يفرضها الله عليها. نكَّستُ رأسي ولم أتمكَّن من الدفاع عن نفسي، والتزمتُ الصمت ثم استأنفَت حديثها وقالت : كنتُ أفتقد منك العَون لي ببعض أعمالي في المنزل إذ كان تكبّرك يمنعك من ذلك، واستحيائك من الناس يحول بينك وبينها، ولا أعلم أيّ عيبٍ فيه.. ألَم يساعد إمامنا (عليه السلام) زوجته فاطمة (عليها السلام) في منزلها بأعمال الطبخ وتربية الأطفال وغيرها؟ ألَم تسمع قول نبينا (صلى الله عليه وآله) لأمير المؤمنين (عليه السلام) بعد أن رآه يُنقّي العدس، وفاطمة (عليها السلام) جالسة عند القدر إذ قال له : (( ما من رجلٍ يعين امرأته في بيتها إلا كان له بكل شعرة على بدنه عبادة سنة، صيام نهارها وقيام ليلها، وأعطاه الله من الثواب مثل ما أعطاه الصابرين )).(1) يا سعيد ، أين كنت من كل هذا الثواب وأنت الآن في أشد الحاجة إليه؟! وأراك تبحث عن الحسنة من هنا وهناك، ومن فلان وفلان . إحترق قلبي ألماً وحسرةً لِمَا ضيّعته من الثواب العظيم في الدنيا، ولما قصّرتُ به من حُسن العشرة مع الأهل والعيال.. ولم تكتفي آمنة من عتابها لي، بل استأنفت كلامها مرّة أخرى لتوقد شعلة الندم
والحسرة أكثر في قلبي فقالت: يا سعيد إن كل واحد منا الآن يتمنى لو أفدى بدنياه وما فيها مقابل أن تزيد حسناته ولو واحدة، أو تطفئ نيران سيئاته ولو للحظات، وأنت ضيعتَ الكثير الكثير، أين كنت من وصيّة خاتم الأنبياء لعلي إذ قال له: (( يا علي، خدمة العِيال كفارة للكبائر، وتطفئ غضب الربّ، ومُهور حور العين، وتزيد في الحسنات والدرجات)). (2) اعترفتُ لها بتقصيري معها، اذ لا مجال لنكران الحقيقة، أو التهرب منها، ولكني سألتها عمّا إذا كانت نادمة على خدمتها في بيتها طوال حياتها معي، فأجابت : إعلم يا سعيد إنني غير نادمة قط على ذلك، ولولا هذه الخدمات في البيت لَمَا كان نوري بالدرجة التي تراها الأن، بل إنني متأسفة على عدم المزيد منها، ونادمة على أني لم أتلقى بجد تلك الأحاديث التي كانت توعد بالثواب العظيم للمرأة التي تخدم زوجها، وأن هذه الخدمة تُغلق عنها أبواب النيران وتفتح لها ابواب الجنان(3) أو تلك التي توعد بالغفران للمرأة التي تسقي زوجها شربة ماء، وأن هذا العمل خيرٌ لها من صيام نهارها وقيام ليلها. (4) توقفَت عن الكلام، وجرّت حسرة طويلة، ثم قالت... ----------------------- (1) جامع أحاديث الشيعة ج17 (2) مستدرك الوسائل ج13 (3) كتاب ميزان الحكمة ، عن الإمام الباقر عليه السلام : أيما أمرأة خدمت زوجها سبعة أيام أغلق الله عنها سبعة أبواب النار ، وفتح لها ثمانية أبواب الجنة تدخل من أيها شاءت. (4) وسائل الشيعة، عن الأمام الباقر (عليه السلام): ما من أمراة تسقى زوجها شربة من ماء إلا كان خيرا لها من عبادة سنة صيام نهارها وقيام ليلها، ويبني الله لها بكل شربة تسقي زوجها مدينة في الجنة وغفر لها ستين خطيئة .
يتبببببع
أنت تقرأ
امواج القيامه
Spiritualتتكلم عن قيام الساعه ويوم الورود والحساب ودخول الجنه والنار وشفاعة اهل البيت الجزء الثاني من كتاب فوق اجنحة البرزخ للكاتب عبدالرزاق الحجامي