الجزء15

74 10 0
                                    

لم يبقَ شيءٌ من عملي، وكلامي، وحركاتي، وفكري، إلا وحُوسبت عليه، وفي جميع ذلك لم أكن أنكر أيّ تُهمة وُجهت إليّ، لأني أعلم بصحّتها، كما أنه لا يوجد أيّ مجال لإنكارها. وفي مقابل ذلك كان خلاصة أعمالي الصالحة، وبعض من تلك الأعمال، تقف موقف الدفاع عني بمقدار قوَّتها التي وهبتها أنا لها في عالم الدنيا، وكان يُؤخذ بدفاعها.. وكنت أشاهد البعض ينكر أعماله السيئة، ولكن هيهات من دوام هذا الإنكار، إذ سُرعان ما يُمنَع من النطق ليشهد الشهود كما قال الله تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} إنتهت العقبات وما كادت أن تنتهي لولا أعمالي الصالحة، وملَكاتي الحسنة التي كنتُ أستغيثُ بها عند كل شدّة وبلاء . أخبروني أن نتيجة كل هذه العقبات سوف تكون في آخرها، ولكني لا أرى شيئاً يدل عليها، تُرى أين أجدها ؟ سألت أحد الملائكة عن هذا الأمر، فقال: إنها سوف تظهر حين عبورك الصراط الذي يمر في وسط جهنم، وأنت الآن على مشارفه ، ولا يتخلف أي إنسان عن عبوره، حتى الأولياء والمؤمنين، فضلاً عن الكافرين والفاسقين، من كان مصيره الجنة يسلكه دون السقوط في الهاوية، وأما من كان مصيره النار فسوف يقع ويمكث فيها. إلتفتُ إلى عملي الصالح بعدما أصابتني رجفةٌ وخوفٌ عظيم، ورُحت أنظر إليه قلِقاً مضطرباً فقال: (( وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً )). عظُم خَوفي واضطرابي، وأمسكت بعملي الصالح ملتمساً إيّاه أن لا يتركني وحدي ، فإني أرى الصراط حاد كالسيف، وأرى جهنم سوداء مظلمة تحته. كنت أُشاهد العديد قد ركبوه بأمل العبور إلى الضفه الأخرى، ولكن انحرفوا عنه، وسقطوا في جهنم التي كانت تلتهم كل من يسقط فيها، فتأكله نارها، وتغمره ظلمتها، حتى لا نرى له أثراً إلا صراخه وعويله! وبين فترةٍ وأخرى ينادي المنادي لجهنّم : (( هَلِ امْتَلَأْتِ)) فتجيب ((وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيد)) في مقابل ذلك كنت أشاهد ايضاً أناس تمكّنوا من العبور الى الضفة الاخرى، ولم يزِّلوا عن الصراط، رغم تفاوت فترات عبورهم وصعوبة نجاتهم، فكان البعض تَلفَحه النار بعد مساسها له، وهم على الصراط وبعضهم من إحترقت أطرافهم فيصرخون، وبعض من يعبر الصراط بسرعة فلا يحس بتاتاً بحرارة ما تحته... وهكذا كان الحال لمن سبقوني، إذ كل حسب عمله ودرجته التي خرج بها من الحساب. تمَلّكني الخوف والقلق العظيم الذي أحاط بي، فجلست أبكي بكاءً شديداً، ورفعت يدي متضرعاً إلى الله ، داعياً إيّاه : "ربي ها أنا ذا بين يديك خاضعٌ ذليل، إن تُعذبني فإني لذلك أهلٌ، و هو يا ربِ منك عدلٌ، وإن تعفو عني فقديماً شملني عفوك، وألبستَني عافيتك، فأسألك اللهم بالمخزون من اسمائك ، وبما وارته الحجب من بهائك، إلا رحمْتَ هذه النفس الجزوعة، التي لا تستطيع حرَّ شمسك فكيف تستطيع حر نارك، والتي لا تستطيع صوت رعدك فكيف تستطيع صوت غضبك" .(١) جاءني النداء من العليّ الأعلى فكان معناه : "أي عبدي، إني خلقت الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي ، بمشيئتي كنتَ أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، وبإرادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد ، وبظلّ نعمتي عليك قويت على معصيتي ، وبسوءِ ظنك بي قنطتَ من رحمتي، لم أدَع تحذيرك ولم أكلّفكَ فوق طاقتك، ولم أُحمِّلكَ من الأمانة إلا ما قدِرتَ عليه ".(٢) إرتفع بكائي بعد سماعي خطاب الجليل لي، فناديته معترفاً بكل ما اقترفته من المعاصي والذنوب أن يا ربّي : "أنا الصغير الذي ربيته، وأنا الجاهل الذي علمته، وأنا الضال الذي هديته، وأنا الوضيع الذي رفعته، وأنا الخائف الذي آمنته... أنا يا ربّي الذي لم أستحيِك في الخلاء، ولم أراقبك في الملاء، أنا صاحب الدواهي العُظمى، أنا الذي على سيّده إجترى، أنا الذي عصيت جبّار السماء، أنا الذي أعطيت على معاصي الجليل الرُشا ،أنا الذي حين بُشِّرت بها خرجت إليها أسعى ، أنا الذي أمهلتني فما ارعَويت، وسترت عليّ فما استحيَيت، وعملت بالمعاصي فتعدَيت، وأسقطتني من عينك فما بالَيت"(٣) جاءَني النداء مرّة أخرى بما معناه : عبدي.. ماذا تريد مني ؟ قلتُ: ربِّ تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك، أريد النجاة من النار. تأخر الجواب هذه المرّة من العليّ الأعلى، فخشيت أن يكون قد أعرض بوجهه الكريم عني، فناديته : " إلهي لم اعصكِ حين عصيتك وأنا بربوبيتك جاحد، ولا بأمرك مستخف، ولا لعقوبتك متعرض، ولا لوعيدك متهاون، لكن خطيئة عرضت وسوَّلت لي نفسي، وغلبني هواي وأعانني عليها شِقوتي، وغرّني سترك المرخى عليّ ". فأحسست باطمئنان وقُمت من مقامي بسم الله الرحمن الرحيم، متوكلاً على الحَيّ القيوم، ملتمساً النجاة بحبي واتباعي للنبي وآله.. فتقدمت لأضعَ القدم الأولى على الصراط، فسمعت نداءً من عملي الصالح ينادي باسمي، ويقول : سعيد، إحذر أعمالك السيئة أن تزلّك على الصراط، فتقع في هاوية العذاب . إلتفتُ إليه و أجبته: إن شاء الله. وضعت القدم الأولى ولساني يردد:"يا محمد يا علي، يا علي يا محمد، إكفياني فإنكما كافيان، وانصراني فإنكما ناصران". فأصبحَت لي جرأة على التقدم والعبور، فوضعت القدم الثانية، وأنا أتلو الآية الكريمة: { وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } وضعتُ القدم الثالثة، وقدّمتُ الرابعة أملاً في المضي أكثر، إذ رأيت نفسي لا تزال بخير، ولم أزلّ عن الصراط حتى الآن ، ولكن.....! فوجئت بظهور القبيح الأسود أمامي.. آه إنه خُلاصة أعمالي السيئة يقف في مسيري، ولا مجال للفرار منه.. تقدم نحوي، ووقفت أنا في مكاني مثل خشبةٍ يابسة أنظر إلى الصراط فأراه شعرة في دقته، وسيف في حدته، وأنظر لما تحته، فأرى جهنم سوداء مظلمة ملتهبة، تنادي هل من مزيد؟! وصل بالقرب مني فسألته : ماذا تريد مني في هذا الموقف؟ أريد أن أوقعك في النار لتحترق فيها! أما كنت تعلم أنّ عمل السيئات يُدخلك النار، ألم يقل لك ربّك { وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } إذاً فلا تلُمني ولُم نفسك، وإنما معاملتي هي طِبق القانون التكويني الذي وضعه الله لخلقه ، وقد أرسل لكم في الأرض من يبلّغكم به، ويحذّركم منه. قلت : سبحان الله هذا من صُنع نفسي! قال: إنّ كل من يتعلق بالدنيا، ويعمل لأجلها، ظناً منه أنها دار مقرّ لا دار ممرّ، سوف يسقط في الهاوية، وتكون النار مستقراً له في الآخرة، ومقدار العذاب فيها إنما يتبع درجة تعلقه بي. قال ذلك ودفع بي حتى تحركت قدمي وزلت عن موضعها، وتحركت الأخرى، وخرجتُ عن الصراط لأسقط في هاوية النار... لحظاتٌ لا تنسى، إنها لحظات السقوط من الصراط متجهاً نحو جهنم.... نعم إنها لحظات الوقوع في النار، وقد بلغَت فيها حسرتي وندامتي ذروتها، وملامتي لنفسي قمّتها، فقلتُ لها يا نفسي : أما كنت تعلمين أن من تغرّه الدنيا وزينتها يكون مصيره الآن ما أنا سائرٌ إليه ؟ أمَا كان الأجدر بكِ أن تستثمري ساعات الدنيا القصيرة بما يُنجيك من ذلّة وعذاب مواقف القيامة التي مضَت، وما ينتظركِ أقسى وأمَرّ؟ يا نفسي ذُوقي عذاب النار، فما أصبرك عليها!! وصلتُ الطبقة الأولى من جهنم، فجرّني خزانها إليهم، وسحبوني نحوهم.. قيّدوا عنقي بالسلاسل ثم حملوني وسلكوا بي طريقاً طويلاً في جهنم ، وخلال ذلك شاهدت مناظر يشيب الرأس لرؤيتها، فكيف بمن هو مستقرٌ فيها. رأيتُ بِركةً تسمى ((ماء الحميم)) يُسمع من على بُعدٍ فوران ما فيها، ورأيت أناساً يشربون منها، فتتورم شفاههم العُليا حتى تغطي أنوفهم وأعينهم ، وتتورم شفاههم السفلى حتى تصل إلى صدورهم . وهناك أناسٌ آخرون يشربون من بِركة ، ذات رائحة نتنة عفنة مملوءة بعرق الكفار ودمائهم، تسمى ((غسّاقا)) . ومررنا من بعيدٍ على مواقع في جهنم، فرأيت ناراً عظيمة مشتعلة، وملائكة الغضب يُلقون الناس فيها وينادونهم ألَم يأتكم نذير؟! وكلما ألقوا فيها فوج ازدادت توقداً وسعيراً، وسُمع لها شهيقاً وزفيراً ، وبين مدّة وأخرى يُخرَجون منها وقد احترقَت جلودهم، فصارت كالفحم الأسود ، والنار ملتهبة في أحشائهم التي باتَت ظاهرةً بعد أن انسلخ الجلد منها . كنتُ أشاهد تَوسلهم بالملائكة حين يُخرَجون أن لا يلقوهم في النار مرّة أخرى، وأسمع صراخهم وندائهم أن يا مالِك لِيَقضِ علينا ربّك، فيأتيهم الجواب من خازن تلك النار أن لا فائدة من صراخكم هذا، إنكم فيها ماكثون. إزددتُ خوفاً واضطراباً حين شاهدتُ تلك المناظر المُرعبة والمشاهد المخيفة، فأنا لا أعلم إلى أيّ أمرٍ سيؤول مصيري... مضَينا حتى وقفنا عند مجموعة من الملائكة وقد اجتمعوا حول إنسانٍ يعذبوه. شاهدتُ عذابه وكيف كانوا يضربوه بمقامِع من حديد مُحمّر بينما كان ذلك الشخص يصرخ ، ويقول : أمَا ترحموني... فأجابوه : كيف لو قذفنا بك في نار جهنم التي لم تدخلها بعد! صرفتُ نظري عنه بعد أن أصابتني رعشةً في بدني من قساوة ما شاهدته، وشابَ شعر رأسي خوفاً من أن يكون عذابي مثله. لم يمضِ وقتٌ حتى سمعتُ ذلك الإنسان وقد صرخ صرخةً عظيمةً، فالتفتُ نحوه وإذا به قد قذفوه في أعماق النار... توجه أحد الزبانية الذين كانوا يعذبونه إلى الزبانية المأمورين معي وقال: لقد هوَى في العذاب سبعين ألف سنة ! فماذا عن صاحبكم؟ أجابوه: إنه من أمّة النبيّ الخاتم محمد (صلى الله عليه وآله) ونحن قد أُمِرنا بإيصاله إلى وادي عذاب الموحدين من أمٍته.. ---------------- (١) من دعاء الإمام زين العابدين في الرهبة (٢) من كتاب الجواهر السنية في الأحاديث القدسية ص 57 (٣) من دعاء أبي حمزة الثمالي
يتبببببع

امواج القيامه حيث تعيش القصص. اكتشف الآن