سكنَت الأصوات، وساد الصمت بين العِباد حينما سمعوا نداءً كان معناه : يا معشر الخلائق إن العزيز الجبّار يقول: يا بَنِي آدم إن صِراطي مستقيماً منذ خلقتكم وقد أمرتكم به، وقلت لكم أكثِروا من الزاد إلى طريقٍ بعيد، وخفِّفوا الحِمل فالصراط دقيق (1) فمن سار عليه في دنياه نجى عندي، ومن أعرض عنه، ووضع فيه العقبات فعليه اليوم أن يتجاوزها! كان لكل واحد من أهل المحشر أمل بتجاوز عقبات الوصول إلى جنّة الخلد، والذي زاد من ذلك أن الجنّة بدَت للجميع فرأوها، واشتاقوا لها. ولولا خلود عالَم القيامة لمات الجميع شوقاً لها! إنطلق الجميع أملاً باقتحام عقبات الجنّة وتجاوزها، وانطلقتُ أنا معهم... يا له من أمرٍ عجيب ! ومنظرٍ غريب ! جلَب أنظار الخلق أجمعين، دُهِشتُ أنا أيضاً ممّا شاهدته وسألت عملي الصالح عن أولئك الأشخاص ذوي الأنوار العظيمة الذين اقتحموا العقبات، ثم قطعوا الصراط كالبرق الخاطف في سرعتهم، ليقفوا على أبواب الجِنان، ثم يتعالون ويستقرون فوق أعرافها فقال: أول تلك الأنوار هو الرسول الخاتم (صلى الله عليه وآله) وتبِعه أوصيائه بعده، ثم الأنبياء أولوا العزم وسائر الأنبياء ثم أوصيائهم، وتلك سيدة نساء العالمين عليها السلام يُحاذي نورها نور خاتَم الأنبياء. وتلك مريم العذراء (عليها السلام) مع مجموعة من النساء اللواتي كُنَّ من أفضل نساء عالَم الدنيا في المرتبة بعد الزهراء البتول (عليها السلام) لقد أزالوا كل العقبات في دنياهم، ولم يتركوا واحدة تُعيقهم الآن من الوصول إلى الهدف والغاية من خلقهم، إلى رضوان الله وجنّة لقائه... إشتقتُ كثيراً للقاء تلك الأنوار، ولكن أين مقامي من مقامهم، وأنا لا زلت في أول الطريق. عدت ثانيةً إلى عملي الصالح متسائلاً: ما هذا المكان المرتفع الذي وقفوا فوقه؟ إنه مكان مرتفع من الجِنان، يُشرِف على الجنّة والنار، ويُقال له الأعراف... قاطعته مستغرباً: الأعراف؟! وماذا يفعلون في مكان كهذا؟ إنّه مقام وهبه الله لهم، وقد أوكل إذن ورود الجنّة لهم، فهم الشهداء على أفعال الخلق، ويعرفون ظواهرهم وبواطنهم.. أطرقت قليلاً، ثم سألته: أيكون هم من قال الله تعالى عنهم :{ٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ }؟ نعم، فهم الرجال الذين يعرفون أهل النار بسيماهم، و أهل الجنة بسيماهم، وهذه المعرفة إنما هي بحقائقهم وصورهم الباطنية ودرجات استحقاقهم للجنّة أو النار. وهل لهم حقّ الشفاعة في هذا الموضع ؟ نعم، في هذا الموضع تكون شفاعتهم، ولكن لا ينالها منهم إلا من ارتبط بهم في دنياه، وعرفهم وعرفوه، واتبع سبيلهم، وخطى بخطاهم. كنت أرى بعد الوجبة الأولى أناس يقتحمون عقباتهم بسهولة بالغة ثم يعبرون الصراط (2) فُراداً فُراداً، ويصِلون إلى الجنان، ولكن ليسوا بمرتبة رجال الأعراف. نظرت إلى نفسي وقايَستها مع أولئك، فرأيتها تعتصر ألماً، وتحترق حسرةً على ما فرطت في دنياها، تتطلع للجنان تارةً ولعقبات طريقها تارةً أخرى، أرى المسير وعِراً جداً ولا أعلم متى تكون نهايته، وإلى أين؟ أيطول عشرات أم مئات أم آلاف من السنين؟ والأسوَءُ من ذلك أني لا أعلم أن الوصول في نهاية الطريق سيكون للجنة أم للنار ؟ على كل حال، لا بد من البدء بالرحيل... كانت الصلاة أول عقبات الطريق، وقد مكثتُ في محطاتها عدداً من السنين حتى تمّ تحميلي بكل ما قصّرتُ بحقّها، كما أن صورة صلاتي الحقّة قد تجسمت وحضرت لتُزيل عني بعض أشواك طريق اقتحامها، وألقَت باللَوم عليّ أن لم أراعي أدائها في أوقاتها، ولم أستحي من ربّي حين الوقوف بين يديه فيها، إذ كان فكري يهرب منه هنا وهناك ! قلت للصلاة : كنت كلما حاولت أن أحفظ طائر الخيال في الصلاة أن لا يهرب مني لم أجد جدوى في ذلك، وما أشعر إلا وقد ذهب إلى أمر من أمور الدنيا، تاركاً بدني يُقيم الصلاة وحده، دون حضور القلب معه. أجابتني الصلاة وقد أنكرت عليّ كلامي، وأبطلت حجّتي : ❗️ إن القلب إذا تعلق بشيء وأَحبه، يكون ذلك المحبوب قِبلة لتوجه فكره حيثما كان، فإن منعه مانع وشغله شاغل عن التفكير فيه، والعيش معه، عاد مرّة أخرى ليطير شَطر محبوبه بمجرد إرتفاع المانع وقلّة الإشتغال، وأنت يا سعيد... قاطعتها قائلاً: إن محبوبي لم يكن سوى الله . قالت: من أحب الله لم يتركه وهو في حضرته وبين يديه، أليس كذلك؟ ماذا بوسعي أن أقول لها؟ لزِمتُ الصمت، ولم أجبها بشيء . قالت : كان حبك للدنيا أكبر من حبك لله وقد أنكرت على نفسك ذلك . كنتَ إذا حان وقت الصلاة وكبّرتَ تكبيرة الاحرام مستنفراً كل قواك لأن تكون مع الله، سرعان ما يطير قلبك إلى محبوبه وهو الدنيا، ليتعلق بها مرّة أخرى. وصلاة كهذه لم تقربك من مقام الحق تعالى، (3) ولم تُزيل عن قلبك الظلُمة والكُدورة التي كُنتَ تشكو منها. توقفَتْ قليلاً لتعطيني فرصة التعليق على كلامها، فسألتها: إذاً سبب فرار الفكر وطائر الخيال من الصلاة هو التعلق بالدنيا؟ قالت الصلاة: نعم. قلت: وماذا كان بوسعي أن أعمل كي أتخلص من حالةٍ كهذه. قالت الصلاة: كان عليك أن تخلع شجرة حب الدنيا بجذورها من قلبك، بالتفكّر والتدبّر في حقارتها، وزوالها مقابل عظمة الآخرة وأبديتها، وكان عليك أن تعرف الله، وتستحضر عظمة من تقِف بين يدَيه، وحقارة شأنك أمامه، وكلما ازددت معرفة بالله ازددت حباً له وتوجهاً إليه وتعلّقاً به، وكان تصديقك به صادقاً وتوحيدك له كاملاً، أما علِمتَ أن أول الدين معرفة الله، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له(4) تأسفتُ وندمت أشد الندم لتضييع الصلاة في الدنيا فيا ليتني أعود لأصلي لو صلاةً واحدة! ولكن هيهات من العودة.. فانطلقتُ إلى العقبات الأخرى، وكان عملي الصالح يصاحبني أحيانا ويرافقني أخرى، وذات مرّة سألته عن عقبة مساعدة الفقراء والمساكين .. فتعجب من سؤالي وقال: ما الذي يذكرّك بهذه العقبة؟ وما وجه سؤالك عنها من بين العقبات الأخرى قلت له: إني لم أحصي جميع العقبات، بل الكثير منها كنت غافلاَ عنها ولكن عقبة مساعدة الفقراء والمساكين ذُكرت في القرآن الكريم بقوله تعالى: { فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ* فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ } ما إن انتهيتُ من تلاوة الآية حتى قال العمل الصالح: لو تمعنتَ في هذه الآية، لرأيت أنها لم تُذكر فقط عقبة مساعدة الفقراء بل ذُكِرتْ عقبات أخرى وهي تخليص الناس من الرِّق والعبودية بمختلف أنواعها، والأخرى رعاية اليتيم وأداء حقوقه إبتداءً من ذوي الأرحام وانتهاءً بعموم يتامى المجتمع والأخرى مساعدة الفقراء والمساكين وسدّ حاجاتهم من الطعام وغيره، ثم ذُكِرت عقبة الإيمان، والصبر، والرأفة بالناس، حيث الآية التي بعدها تقول: { ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} علِمتُ أن العقبة القادمة هي عقبة صِلة الرحم، فاستحضرتُ علاقتي بأقربائي وأهل بيتي، وقلتُ لعملي الصالح: إنني كنتُ أصل رحمي، وكان لديّ برنامج تفقد القريب والبعيد منهم،كنت أساعد المحتاج منهم وأرشد من يلزم الرشاد. كنتُ لا أبخل عن مدّ يد العون إلى أيّ شخصٍ يطلبها مني... قاطعَ كلامي بقوله: إذا كنتَ كذلك فلماذا أراكَ قد اصطحبتَ الخوف معك، فهل كان يُخالِط أعمالك رياءٌ، وحبُّ سُمعةٍ بينهم؟ الله يشهدُ أني كنتُ مراقباً لنفسي في كل أعمالي هذه، وقد وبختها في كثيرٍ من مواقع صِلة الرحم التي كنت أحسُّ قد خالطها شيء مما تقوله، أو من الشعور بالمِنَّة والتفضّل عليهم. كنتُ أحادِثُ نفسي وأُصارعها، وفي آخر المطاف أُقنعها بأن الفضل أولاً وآخراً لله تعالى، فهو المتفضّل عليّ برزقه أن مكنني من مدّ يد العَون لهم، وهو الذي أعطاني العافية في الجوارح لعيادتهم وتفقدهم، وهو الذي وهبني العِزّة والكرامة بينهم، فأيّ فضلٍ لي عليهم؟ قال العمل الصالح: إذن لم تخبرني عن أيّ شيء يُخيفك في تجاوز واقتحام هذه العقبة. المشكلة أن الحساب هنا ليس كحساب عالم البرزخ، فهو دقيق للغاية، ولا يترك ذرّة إلا وأدخلها في المحاسبة والميزان، حتى دقائق الأفكار، وذرّات خواطر القلوب، وهذا ما شاهدته في العقبات السابقة، إذ واجهتُ صغائر أعمالٍ ما كنت أتصور يوماً أن أحاسب عليها! تقدمنا باسم الله لاقتحام عقبة صِلة الرحم... ولم أواجه بحمد الله مطبّات تعرقل مسيري فيها، ورأيت الكثير من الخلق قد تخلّفوا عني وحبسوا فيها. أكملنا جميع متطلبات العبور واقتربنا من الخروج منها و ..... يا إلهي ماذا أرى؟! ---------------- (1) الجواهر السنية في الأحاديث القدسية للحر العاملي ص 80: "...يا بن آدم أكثر من الزاد إلى طريقٍ بعيدٍ، وخفِّف الحِمل فالصراط دقيق، وأخلص العمل فإن الناقد بصير، وأخِّر نومك إلى القبور، وفخرك إلى الميزان، ولذاتّك إلى الجنّة، وكُن لي أكُن لك..." (2) الآمالي للشيخ الصدوق، ص 242، عن الصادق عليه السلام: "الناس يمُرّون على الصراط طبقات، والصراط أدق من الشعر وأحدّ من السيف، ومنهم من يمر مثل البُراق، ومنهم من يمر مثل عَدْو الفرس، ومنهم من يمر حَبواً، ومنهم من يمر مشياً، ومنهم من يمر متعلقاً، قد تأخذ النار منه شيئاً وتترك شيئاً.." (3) مستدرك الوسائل، عن النبي (ص): إن من الصلاة لَمَا يقبل نصفها، وثلثها وربعها وخمسها إلى العشر، وإن منها لَمَا يُلفّ كما يُلفّ الثوب الخلق، فيُضرَب بها وجه صاحبها، وإنما لك من صلاتك ما أقبلتَ عليه بقلبك. 42) نهج البلاغة، خطبة1.
يتبببببع
أنت تقرأ
امواج القيامه
Spiritualتتكلم عن قيام الساعه ويوم الورود والحساب ودخول الجنه والنار وشفاعة اهل البيت الجزء الثاني من كتاب فوق اجنحة البرزخ للكاتب عبدالرزاق الحجامي