دخل علينا الملائكة وهم في غاية الجمال قالوا جميعاً لنا { سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ } فرددنا عليهم السلام كان أحدهم يحمل طبقَين في كل طبق أربعة أكواب، وآخرٌ يحمل طبق فيه أنواع الفاكهة، وآخرٌ يحمل طبق فيه لحم طيرٍ مشوي، سألتهم من تكونون، فأجاب أحدهم : نحن خُدّام الجنة من الولدان المخلّدين . إلتفتُ الى زوجتي الحوراء وقلت لها: ما أَصْدَقَ وعد ربنا حينما قال: { يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُون* بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ * لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } وضعوا كل ما أتوا به وانصرفوا، فأحسست بعظيم نِعم الله التي أعطانيها، ماذا فعلت خلال عمري القصير حتى أُجازَى بكل هذا، وأُعطَى كل هذه الكرامة من عنده ؟ ناديتٌ ربّي نداء العبد لمعبوده، والفقير إلى المُنعم عليه : يا ربّي (( تقدسَت أسماؤك، وعظمت آلاؤك، فأيّ نعمك يا إلهي أحصي عدداً وذِكراً، أم أيّ عطاياك أقوم بها شكرا، وهي يا رب أكثر من أن يحصيها العادّون، أو يبلغ عِلماً بها الحافظون)). جرَت على خدي دموع المقصّر المعتذر من ربّه مقابل عظيم نعمه، وتنحَيتُ جانباً من الغرفة ، ودعَوت ربي متذللاً خاشعاً : يا إلهي (( لو حاولتُ واجتهدتُ مدى الأعصار والأحقاب لو عُمّرتها، أن أؤدي شُكر واحدةٍ من أنعمك ما استطعتُ ذلك، إلا بمنك الموجب عليَّ به شكرك )). إستغربَت الحوراء حالي بعد أن تركتها مع ما لذّ وطاب من الطعام والشراب .
فلحقتني وجلسَت جنبي لِتَهب لي الطمأنينة والسكون ثم قالت : عزيزي سعيد ، ليس أنت الوحيد الذي يشعر بتقصيره أمام خالقه، إن الله تعالى متفضّلٌ على كل مخلوقاته، وما من أحد له المِنّة عليه في طاعته ، ولو حاسب الله الجن والأنس بعدله ما نجا أحدٌ منهم قط.. فهم أطاعوه بالجوارح التي وهبها لهم، وذكروه باللسان الذي منحه إليهم، وأعطوا الصدقة والخُمس والزكاة من المال الذي وكّلهم عليه، فأي مِنّة للخلق على الله ؟ لكنه مع ذلك يهَب من أطاعه كل هذه الجنان والنعيم ! صحيحٌ يا عزيزتي، ولكن ألا يستحق ربنا العشق من عباده ؟ وهل يغفل العاشق عن معشوقه ؟ أو يهدأ الحبيب عند فراق محبوبه ؟ وأنا أشعر الآن بالتقصير أمام ربي أن عبدته وأطعته في الدنيا خوفاً من ناره وطمعاً في جنته، لا حباً له وشكراً له على أنعمه... وعاد الدمع يجري لأناجي ربي هذه المرة بلسان العاشق له : (( إلهي لو قرنتني بالأصفاد ، ومنعتني سَيْبك من بين الأشهاد، ودللتَ على فضايحي عين العباد، وأمرتَ بي إلى النار، وحُلتَ بيني وبين الأبرار، ماقطعت رجائي منك، ... ولا خرج حبك من قلبي )) فكيف وقد أدخلتني الآن جنتك، وأغرقتني في نعمك التي لا تفنى ولا تزول... لم يمضِ وقتٌ طويل حتى جاءني رسولٌ، فدخل علينا بعد الأستئذان وقال : (( إن الله يحب خلقه منذ خلقهم، وأراد لهم الجنة، وعرّفها لهم، وأنار لهم طريقها عبر الأنبياء و الرسل، وضاعف لهم أعمالهم، فجعل الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها، كي تثقل موازينهم.. وقبِل منهم يسير الطاعة، وغفر لهم عظيم المعصية، كل ذلك كي يدخلوا الجنة، ويتنعموا بنعمه، وقد رضِيَ على كل من دخلها ، وكُتبت له الأبدية فيها )). كان كلام الملك لي كالماء البارد الذي صُبّ على قلبي الملتهب ، وأحسست بتمام السعادة وكمالها حين علمتُ برضا الرب عني . كما عزز ذلك الرضا أن جاءني ألف ملك بعد أن استأذنوا مني، وفُتحت لهم الأبواب، ودخل كل واحد منهم يحمل باقةً من ورود جنة المليك المقتدر . أَخبَرَني كبيرهم بعد أداء التحية والسلام أن : العليّ الأعلى قد أرسلهم لتهنئتي ، والمباركة بزواجي من الحور العين... رغم كل هذه النِعم ولذّاتها، لم يغادر فكري أمر مولاي الحسين عليه السلام، ورغبته في زيارة جنّتي... كان الجميع متشوقاً لساعة اللقاء، ومتلهفاً لرؤية من كان منبع نوره، وعنوان وجوده، ومتعطشاً لسماع حديث صاحب الشهادة العُظمى، والمنزلة العُليا والدرجة الرفيعة، إنه ابن بنت خاتَم الأنبياء صلى الله عليه وآله... واقترب موعد اللقاء، ودعَوتُ أصحاب بقيّة الجِنان ممّن كانوا في مرتبتي، كما دعَوتُ أختي للحضور مع زوجها الذي لا ينقص عنها في النور والجمال، وسألتها عن ذلك الأمر ، فقالت: خيّرني ربّي بين اختيار زوجي الذي كان في الدنيا، وهو أقل مرتبة مني، وبين اختيار زوجٍ آخر، فاخترتُ زوجي الذي كان في الدنيا، لِمَا رأيتُ فيه من النور والبهاء، ووفاءً لإخلاصه معي، وها أنت تراه وقد رفعه الله إلى مرتبتي. وحان الموعد واللقاء... وجاء الشهيد في موكبٍ من نور على نور، وساد الصمت إذعاناً للحق إذ جاء، ولا تقُل صِفْ لي المجيء، وكيف يستطيع من هو ذرّة من شعاع الحسين أن يصِف الحسين ....! جرَت مراسِم الإستقبال والترحيب، ودارَ الحديث، وسألته عن مسائل عدّة، كان منها عن سبب تكريمي بزيارته لي في جنتي، فقال: نحن الشهداء على أعمال الخلائق في في الدنيا والآخرة، فمن زارَني في الدنيا عارفاً بحقّي، مُخلصاً لربّي، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وشهدتُ له يوم القيامة بالخير، وزرته، وكنت شفيعه فيها. قلت له : سيّدي، وما حكمة البكاء عليك وأنت في نعمةٍ ومقامٍ يغبطك به الأولون والآخرون ؟ ولماذا يُثيب الله من بكى عليك، وأنت قد حلّقت إلى ربّك في جنته يوم سالَت دمائك الطاهرة على أرض الدنيا ؟ أجاب سيد شباب أهل الجنة، فقال : البكاء دليل علاقة الحبيب مع محبوبه، والفقيد بمفقوده، وكلما زادت رابطة الحب بينهما، زاد البكاء لفقده ومصيبته، ونحن ندعوا إلى كل ما يدعم هذه العلاقة التي إن ثَبُتَت ثَبُتَ معها السَير على طريق المحبوب، والإقتداء بسلوكه . توقف قليلاً، ثم استأنف كلامه، وقال : وإنما يُثاب الزائر لي، والباكي على مصيبتي إذا كان عارفاً بحقّي، مُخلصاً في عمله هذا لربّي، أما بدون ذلك فقد لا تناله شفاعتي يوم الورود على الحقّ المتعال.. قام أحد المؤمنين، فسأله قائلاً : وما معنى أن يكون الزائر لك في الدنيا عارفاً بحقك ؟ ولِما جعلتم هذا الشرط علامةً لزُوَّاركم ؟ قال : إن أيّ شخص تزوره ولا تعرف قدره، ومنزلته السامية، وكمالاته العالية، لا يتعلق قلبك به، ولا يكون حبك صادقاً له، ونحن أهل بيتٍ لا يعرفنا شخصٌ حقّ معرفتنا إلا أحبّنا واتّبع سبيلنا، وسلك طريقنا، كما إنه من عرفنا فقد عرف الله، ومن عرف الله أحبه، ومن أحبه أطاعه، وأخلص له، ومن أخلص له نجا من النار، وفاز بجِنان العزيز الغفّار . كان الجميع ينصِتُ لكلامه، ويقتبسُ من أنوار حديثه، وبعد توقفٍ قليلٍ توجه نحوي وقال : قد شفعتُ لوالدتك، وهي الآن تقضي بقيّة عقبات الصراط وسوف تصِلُك إن شاء الله فيما بعد . سررتُ كثيراً لهذا الأمر و شكرت إمامي على ذلك، ثم قادني طمعي إلى سؤاله الشفاعة لوالدي ، فقلت له : سيدي، إن والدي كان في الدنيا يقيم مجالس العزاء على مصيبتك، ويمشي راجِلاً إلى مرقدك ويصرف من أمواله الكثير في خدمة زوارك، فهل له نصيبٌ من شفاعتك ؟ أطرق الإمام قليلاً ثم قال: إن على والدك المرور ببعض الاهوال قبل الحصول على شفاعتي. ولماذا يا مولاي لا يصِل إلى شفاعتك قريباً؟ صحيحٌ أن والدك كان يُقيم مجالس العزاء ولكن همّه الأول والأخير كان إبكاء الناس وإضفاء حرارة قُصوى على مجلسه، و إن كان ذلك بعرِض مآسي مفتعلة، وأكاذيب مختلفة تُهين الحسين ونهضته.. كان يعلم بكذب القارئ فلماذا يدعوه؟ ولماذا يصرف الأموال له ويُكرمه؟ كان يمشي راجلاً أياماً طوالاً لزيارتي لا لشيء إنما ليقول الناس عنه أنه مُحب للحسين. ولم يجعل لله نصيباً في نيّته وعمله هذا.. والوَيل لِمَن يعمل للمملوك ويترك المالك المُطلق.. توقفَ قليلاً ثم أضاف: إذا كانت المدرسة مُشوهة بالأكاذيب، فكيف يمكن للأمة أن تَنهل منها؟ وإذا كانت محجوبةً بظلام التزوير، فكيف تستنير الأجيال بأنوارها؟ إننا أردنا أن تبقى مواقف واقعة عاشوراء حيّة إلى الأبد تُنادي: ( ألَا ترَون الحق لا يُعمل به، وأن الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقاً )، وأردنا من نهضة عاشوراء أن تعلم الأجيال كيف يكون الإخلاص لله، والعشق للقائه في ظروف المأساة، وتكالُب الأعداء، وقتل الأبناء والأحبة. أردنا أن يبقى جواب زينب لابن زياد خالداً ما بقيَت الدنيا، يطرق أسماع أهلها: (ما رأيتُ إلا جميلاً)، يُعلمهم كيف تكون المرأة عزيزة أمام الطُغاة بطاعة الله، وأن كل مصيبة ومشقة جميلة في الله. أردنا أن تعرض مأساة كربلاء كما هي في كل عام أمام الأنظار، كي يقتدوا من خلالها بالمواقف الحقّة لأصحابي وأهل بيتي، لا بالقصص المفتعلة علينا في بعض مجالس العزاء، ومن فوق منابرها. نظر مولاي إلى الحشد العظيم الذي ساده الصمت والسكوت، ثم التفتَ نحوي وقد بدا عليه أثر تأسّف عميق، ثم قال: إنني أتأسف كثيراً على والدك وأمثاله الذين جرّتهم حبائل حب الدنيا إلى اصطناع القصص الواهية علينا، أملاً في جذب الناس لهم، ورغبةً لأن تكون مجالس عزائهم مملوءة بالبكاء والنحيب...(١ ١) طالَ اللقاء، ولا أحد يرغب في نهايته وقُدِّم للحاضرين ما شاء ربّي من نعيم الجنة ومأكلها ومشربها، وارتفعت درجات العديد منّا بشفاعته.. ثم غادرَنا.. أجل غادرَنا ودموع الحاضرين تسيل أسفاً على فراقه، وشوقاً للقائه مرّةً أخرى... مضى وقتٌ طويل، ونحن ننتظر قدوم والدتي إلينا، حتى جاء خبرها أنها في الطريق، وسوف تصل إلى مكان ( مُلتقى الأحبّة ) عند جنة من جِنان الخُلد. توجهتُ مع زوجتي إلى ذلك المكان بعد أن أعلمتُ هُدى بالأمر. وصلنا المكان المقصود، فكانت جنة من أوسع الجنان، تفوق جنتي بكثير، وفيها أصناف من الملائكة أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع، وفيها من الخدم والجواري ما يزيد على مملكتي بكثير...
#يتبع غدا مع الحلقة الأخيرة
لم يكن نص هذا الحوار مع الإمام الحسين (ع) منقولا بالنص عن رواية أو كتاب معين، بل بالمعنى الذي جمعناه من مصادر معتبرة
يتببببع
أنت تقرأ
امواج القيامه
Spiritualتتكلم عن قيام الساعه ويوم الورود والحساب ودخول الجنه والنار وشفاعة اهل البيت الجزء الثاني من كتاب فوق اجنحة البرزخ للكاتب عبدالرزاق الحجامي