متنساش النجمه يقمري ★♥
الحلقة ( 43 ) - مقابر ! - :
داخل سيارة "توفيق علام" ..
و طوال طريق العودة إلي منزله ، كانت "هانيا" الجالسة إلي جانبه في السيارة تعتمد الصمت التام ..
كانت شاردة .. غارقة في حالة من الكدر و الوجوم ..
حتي أعادها صوت عمها الهاديء إلي أرض الواقع:
-ايه يا هانيا يا حبيبتي ! .. مالك بس ؟ ساكتة و متضايقة كده ليه ؟؟
رغما عنها ، ترقرقت الدموع بعينيها ... إنما إستطاعت أن تجيبه بصوت مهزوز:
-ده اصعب اسبوع مر عليا يا انكل .. بجد اسوء اسبوع مر عليا في حياتي ... في الاول مشيت و سيبت عاصم ، و فجأة سافر و مش عارفة أوصله .. و بعدين خبر موت هنا ، و داده قوت .. داده قوت اللي ماعرفتنيش يا انكل .. انا حاسة إن كل حاجة بحبها بتضيع من ايدي ، مابقتش فاهمة حاجة خالص !!
و إنفجرت بالبكاء ..
تنهد "توفيق" متضايقا و مشفقا عليها .. فأوقف سيارته علي طريق جانبي ، و إلتفت إليها ..
وضع يده علي كتفها ، و شد بصرها إلي عينيه الدافئتين و هو يقول برقة:
-يا حبيبتي اعذريها .. دي كانت بنتها الوحيدة و اللي جرالها ماكنش قليل.
رد بصوت مختتق:
-كان نفسي تحس بيا .. تتكلم معايا ، كنت عاوزة اخرجها من المستشفي اللي هي فيها دي و اجيبها تعيش معايا !
-معلش يا هانيا .. هي اكيد من مصلحتها تقضي فترة في المستشفي لحد ما حالتها تستقر ، و بعدين محدش سايبها .. الظابط خطيب بنتها الله يرحمها مارتحش الا اما دور عليها و عرف طريقها و بيزورها كل شوية .. و احنا كمان مش هنسيبها هنزورها بردو كل شوية و ان شاء الله هتبقي كويسة و هتخرج و هتيجي تعيش معاكي زي ما انتي عايزة.
-كان نفسي تحضر الجلسة بكره و تشوف بعنيها الحيوانات اللي دمروا بنتها و هما بيتعاقبوا قدام الدنيا كلها !
مسح علي شعرها بحنو ، و قال:
-معلش .. يمكن مصلحتها في كده يا حبيبتي مين عارف ؟؟!
ثم أضاف مبتسما في هدوء:
-كله هيبقي كويس .. و حياتك هترجع احسن من الاول يا هانيا ، اوعدك !
إبتسمت إبتسامة مرهقة باهتة لم تصل إلي عينيها ، فربت هو علي خدها الناعم بلطف ، ثم عاد يشغل محرك السيارة و ينطلق بها مجددا في إتجاه المنزل ...**********************************
القبور ...
يتذكر أنه ما كان يفضل الذهاب إلي هذه المساكن الموحشة بتاتا ، رغم أنها تضم كل أحبابه ..
والديه ، عائلته بأكملها .. و لكن عندما باتت حبيبته من أهل تلك المساكن ، بات هو أيضا يستحسن الذهاب إليها ، و يوميا ، صباحا أو مساءً علي عكس طبيعته السابقة تماما ..
إذ لم يعد بداخله أي خوف الآن ، حتي الخوف المعتاد الذي يسكن كل إنسان .. قد إختفي من داخله ...
سار بخطي ثابتة بين المقابر و هو يحمل في يده باقة ورد كبيرة مختلفة الأنواع و الألوان ، و أيضا زكية الرائحة ..
ظل ماشيا قاصدا طريق مدافن عائلته ، نعم .. فهو أصر علي دفنها هنا حتي تكون بجواره حينما يموت و يلحقها ..
وصل أخيرا .. فتح باب المدفن ، و تقدم للداخل ..
وقف أمام مقبرتها ، فلمعت عيناه بالدموع حين قرأ أسمها المنقوش علي ذاك اللوح الرخامي .. و تاريخ ميلادها أسفله تاريخ وفاتها ، و تلك الآية القرآنية القصيرة ..
سحب "إياد" نفسا عميقا و زفره علي عجل محاولا كبح مشاعر عنيفة تجيش بصدره ، و عوضا علي ذلك ، بدأ يحدثها كعادته ..
فألقي عليها السلام برقته المعهودة في التعامل معها:
-صباح الخير يا حبيبتي .. وحشتيني اوي يا هنا ! شفتي جبتلك معايا ايه !!
و رفع باقة الزهور عاليا و كأنه يريها إياها ، ثم قال و هو ينحني ليضعها داخل هذا الوعاء الخزفي بدلا من تلك الباقة القديمة التي ذبلت:
-جبتلك الورد اللي بتحبيه .. عشان اصالحك ، انا عارف انك زعلانة مني و اني بقالي كام يوم مابجلكيش .. بس و الله غصب عني ، ماكنتش بقدر اجي عشانك بردو ، كنت بوفي بوعدي يا حبيبتي .. كنت باجيبلك حقك و كنت بدور علي مامتك !
و صمت قليلا .. ثم واصل بنبرة قوية صلبة ، مفعمة بالحقد و الغضب:
-بكره يا هنا .. بكره هيتعاقبوا كل الكلاب اللي حرموني منك ، بنت عمتك فلتت من إيدي للأسف و نهت حياتها بإيديها ، آااه .. كان نفسي اقتلهم بإيديا دول واحد واحد ، بس وحياتك عندي اذا ماقدرتش اجبلهم اعدام .. لو انطبقت السما عالأرض محدش هيحوشني عنهم ، و بدل ما يتعدموا علي ايد الحكومة هعدمهم أنا بنفسي !
ثم لانت ملامحه تدريجيا و هو يستطرد بلطف هذه المرة:
-اكيد دلوقتي عايزة تطمني علي مامتك ... اطمني يا حبيبتي ، انا لاقيتها .. كانت في مستشفي امراض نفسية مش اد كده يعني ، بس ماتقلقيش انا نقلتها لمستشفي تانية احسن بكتيير و بزورها كل يوم زي ما بزورك كده .. اوعدك عمري ما هبطل ازورها ، و لما تتحسن شوية هبقي اجيبها و نيجي نزورك انا و هي .. مش هنسيبك لوحدك ابدا ، انا لو بإيدي كنت افضل قاعد جمبك هنا علطول.
و خانته دموعه فجأة ، و هطلت غزيرة علي خديه ، ليتمتم من قلب محروق:
-وحشتيني اوي يا هنا .. وحشتيني ، مش عارف هقدر اعيش عمري اللي باقي ازاي منغيرك ؟ .. بس اللي مصبرني اني عارف كل يوم بيعدي بتقل المسافة بينا و هجيلك في الاخر .. و يا رب ، يا رب يكون قريب يا حبيبتي !