العنف الأسري

19 11 0
                                    

بقلمــي: وجــدان العــامـري

يُشَكِّل جسد المرأة نقطة صراع بين الشعوب المختلفة منذ عصر المجتمعات القديمة، فأن تمتلك جسد المرأة يعني امتلاكك إنتاج قوة بشرية ترجح كفة قوتك بين الممالك.

لذلك نجد أغلب الحروب في أساطير الحضارات القديمة تشتعل بسبب امرأة، فلقد تحول جسدها إلى شرف يجب الزود عنه وكذلك التحكم فيه، فالمرأة لا تمتلك جسدها وليست حرة في اختيار مصيره.

أتاح ذلك للرجل أن يمارس انتهاكات متعددة لجسد المرأة الواقع تحت وصايته، فأصبح من الطبيعي أن يضرب الزوج زوجته لتأديبها أو إخضاعها له، وأصبح الجنس فعل مخصص لمتعته وحده، والمرأة مجرد وعاء لتفريغ رغبته.

ثم انتقلنا لمرحلة أن تُعاقب المرأة على اغتصاب جسدها، فإذا ما تعرضت لزنا المحارم مثلاً، تُقتل للحفاظ على سمعة العائلة ويبقى مغتصبها طليقاً يمارس حياته بمنتهى الأريحية.

تحولت المرأة إلى مجرد شيء، يُقمع ويُحبس، وسيطروا عليها بقوانين وُضعت بمعزل عنها، فإذا ما خرجت عليها عُوقبت بعنف، وإذا ما انتهك الرجل القانون الذي وضعه بنفسه عُوقبت هي أيضاً.

ورغم التطور الذي شهدته الإنسانية في القرنين الماضيين، ووصول الإنسان في العالم إلى أفكار عادلة تساوي بين الجنسين، وتحرر الفكر الإنساني بشكل عام من الأخلاقيات المعلبة، والتي تضع البشر جميعاً في قوالب جامدة محددة، إلا أننا حتى الآن ما زلنا نكافح العنف ضد المرأة، الذي ينتشر حتى في الشوارع وليس فقط وراء الأبواب المغلقة.

لعل قصة الفتاة الفلسطينية إسراء الغريب التي صدمت المجتمع العربي كله لأكبر دليل على أننا لم نتحرك نحو الأمام كثيراً، وأن الكثير من الفتيات في مختلف الأعمار يعشن مهددات بسلاح الشرف الذكوري العائلي.

دفعت إسراء عمرها بعد أن تعرضت للتعذيب الوحشي المتهم به إخوانها الذكور، لمجرد أنها نشرت صورتها مع خطيبها على موقع التواصل الاجتماعي إنستجرام.

الانتهاكات الجنسية والتعذيب لا يقتصر على الفتيات الناضجات في مجتمعاتنا، فحكاية الطفلة المصرية جنة ذات الأربعة أعوام هزت عرش المنطق لدى الجميع.

تعرضت هذه المسكينة إلى التعذيب المتكرر من جدتها، ما أدى إلى تدهور حالتها الصحية وبتر ساقها اليمنى ثم موتها، وراج في مواقع التواصل أن سبب ذلك أن الجدة حاولت أن تداري على اغتصاب ابنها للفتاة. ويقف الخال والجدة في قفص الاتهام حالياً.خلف الأبواب المغلقة
رغم رحيل إسراء وجنة المأساوي، إلا أنهما تبقيان ضمن المحظوظات، فعلى الأقل لم يضع حقهما هدراً وانكشف أمر من جنا عليهما ويخضعان للمحاكمة الآن، لكن هناك آلاف من القصص المأساوية التي تحدث كل يوم وتُدفن مع ضحاياها تحت الثرى، فالمجتمع للأسف متواطئ ويُقر العنف ضد المرأة ضمنياً حتى وإن أعلن العكس.

وكما ذكرت سابقاً، هناك الكثير من الحكايات القابعة وراء الأبواب المغلقة، فأنا لن أنسى أبداً عندما اتصلت بصديقة توفى زوجها فجأة، كي أعزيها، لكنها بدت غير متأثرة نهائياً بفقدها لرفيق عمرها، وعندما ألمحت إلى كونها تتقبل هذا الرحيل المفاجئ بقوة، قالت ببساطة: “الحمد لله إنه مات وأنا ما زلت أتمتع بكامل صحتي، الآن فقط أستطيع أن أعيش مرتاحة في منزلي”.

لقد عاشت هذه الصديقة عشرين عاماً من القهر مع هذا الزوج الذي فرضه أبوها عليها، لم تكن تحبه ولم ترغب في الزواج منه، لكنها نزلت على رغبة والدها بعد أن حبسها في غرفتها، إما أن تموت متعفنة داخل الغرفة أو تتزوج، فتزوجت من رجل يكبرها بخمسة عشرة عاماً لا يربط بينهما أي مشاعر أو توافق فكري.

قالت لي: “عشرون عاماً من الاغتصاب لجسدي بورقة وقع عليها والدي دون إرادتي”.

حكت لي كيف لم تستمتع بالنوم الهادئ طوال هذه السنين لأنها، رغماً عنها، يجب أن ترضخ لرغبات زوجها الجنسية في أي وقت، وإذا ما حاولت الامتناع اتهمها بأنها تخونه من وراء ظهره، ويضربها أو يتصل بوالدها ليمارس سلطته الأبوية عليها لإخضاعها له.

بمرور السنين استسلمت ونست أحلامها وطموحاتها وعاشت تربي ولديها في صمت، وكان انتصار القدر لها بأن مات زوجها وهي كما تقول “ما زالت قادرة على الحياة”.

حرب دائمة

مقاومة العنف ضد الإناث في مجتمعاتنا حرب ضروس تحتاج إلى الصمود من أجل تطوير القوانين لتكون أكثر عدالة وتحقق الاستقلال التام للمرأة لتمتلك بالفعل جسدها وتكون حرة في اختيار مصيرها، بعيداً عن سلطة ذكور عائلتها أو زوجها فيما بعد.

لكننا نحتاج في البداية توعية المرأة نفسها بحقها في تقرير مصير جسدها ومصيرها بشكل عام بعيداً عن رغبة العائلة، لأن الكثير من الفتيات يؤمن بالقوانين الذكورية القمعية لأجسادهن.طالما سمعت من النساء المُعنفات من قبل أزواجهن أن ضربهن حق له، ولكنهن يتمنين لو كان ضرباً رحيماً لا يعرضهن للعاهات المستديمة، ما يجعل مهمة إقناعهن بتبليغ الشرطة في حالة الاعتداء على أجسادهن مهمة صعبة تحتاج إلى خطة طويلة الأمد، خاصة بين نساء الطبقات الشعبية.

لذلك لا بد من ترسيخ مفاهيم بديلة لدى الفتيات تجعلهن يؤمن بأنه ليس من حق الأب أو الأخ أن يضربهن، وبالتالي فسيكون من الطبيعي عدم قبول ضرب الزوج.

وتهتم الجمعيات النسائية بالفعل بنشر أرقام لخطوط ساخنة للتبليغ عن الاعتداءات التي تتم ضدهن، وإن كان ذلك يحتاج إلى توفير دور لإيواء النساء المعنفات والتي تشكل توفير إقامة لهن بعد مغادرة بيوت عائلاتهن عائقاً كبيراً أمام مقاومتهن للعنف، فرفضهن للاعتداء عليهن يعد خروجاً على الأعراف السائدة وبالتالي لا يمكنهن العودة إلى المجتمع الذي خرجن عليهإن المرأة مضطرة لقبول الاعتداءات والإهانات لاحتياجها للعائلة من أجل الإنفاق، أما لو تمكنت من كسب قوتها فسيكون سهلاً اتخاذ قرار الرحيل. لذلك لا بد أن يكون الاستقلال الاقتصادي خطة مبكرة لدى المرأة ويكون ذلك حلاً بديلاً لها على الدوام.

ولكن يظل الحل الجذري هو تغيير النظرة المجتمعية السائدة تجاه المرأة، وذلك من أجل القضاء على العنف الأسري الموجه لها، وبدون هذا التغيير، وبدون تعديل القوانين التي تُكرس لمفهوم الجسد/ الشرف، سنظل ندور في دائرة مفرغة من المسكنات التي لا تضع حداً نهائياً لهذه المأساة. 

قصة قتل حيث تعيش القصص. اكتشف الآن