ما طواه الماضي

5.6K 170 451
                                    

في ذلك الليل الحالك حيث انزوى قمره ضيقاً و حزناً مما حدث ونجومه قد خفت ضوؤها باخلةً به في غضب ورياحه باتت باردة مُثلجة روحَ من تمرُ به... وتحديدًا في تلك البقعة المكروهة... في مركز شرطة تلك المدينة الهادئة.. يجلس ذلك الشاب وحيدًا...يهز قدميه في عصبية بوتيرة متتابعة...يطالع الباب ببندقيتيه كل دقيقة وكأنه ينتظر ولووج أحدهم في هيبة..

دار مقود الباب ليلتفت ذلك الجالس بكل حذر نحوه...يتضح من إرتجاف يديه وتشابك أصابعها خوفه الشديد.. وكيف لا يخاف وهو لم يلج تلك الأماكن قط؟!.. وهو إبن الغنى والدلال ولم يعرف سوى الرفاهية والترف.. هو حتى قد درس كل تلك السنوات وحصل على أعلى الدرجات ليصبح فردًا منهم.. ليس لأن يجلس على ذلك الكرسي ويصبح هو المتهم..!

اقترب الشرطي منه بملامح جامدة...سحب الكرسي بعنف بدى طبيعيًا بالنسبة لطبيعة مهنته جالسًا عليه... يطالع عينيه مباشرة قائلًا في صرامة "إذًا يا وسام.. لماذا فعلت هذا؟!"

حاول وسام إظهار عكس ما يبطن ولكن إرتجاف صوته بدى جليًا وتلك الابتسامة الساخرة قفزت فورًا إلى وجهه ليهمس قائلًا " لأجل أنس! "

قبل ساعات فقط من تلك اللحظة كان وسام غارقًا كعادته في قراءة كتبه.. هو عادة ما يقضي يوم أجازته كله في غرفته المرتبة بشكل أنيق ومنظم... يلتهم حروف مكتبته في نهم.. هو لم يحب سواها ولا يؤنس وحدته في هذا المنزل غيرها..كل الأماكن حلوةٌ رحبة إلا منزله قاتم موحش.. ربما لأنه يشعر أن كتبه تسحبه إلى عالم آخر.. عالم ينسجه عقله هو...ينسجه كما يتمناه فقط!

يقلب صفحات كتابه في ضجر...لأول مرة يرفض عقله فهم أي كلمة يحويها كتابه.. ربما تهيأ لما ينتظره تلك الليلة ولذا إنتابه شعور بغيض بعدم الراحة..

تأفف ناهضًا بعد إغلاق كتابه وحمله يود إرجاعه إلى المكتبة.. وقف أمامها هنيَّة من الزمن لتظفر عيناه بحرف الكاف الذي يبحث عنه.. أرجع كتابه في ضيق لعدم إنهائه ولكن ابتسامة باهتة ارتسمت على شفتيه فور لمحه لذلك الكتاب القصصي.. كليلة ودمنة
فقد اعتادت أمه أن تروي له كل ليلة قصةً منه...لازال صوتها الدافيء عالقًا في ذكراه.. يغمض عينيه سامحًا لصوتها بالعودة إلى أذنيه بقوة وتلك الابتسامة تتسع شيئًا فشيئًا في رضى..هو سعيد جدًا لبقاء صوتها معه طوال تلك المدة..

جلس على طرف سريره ومدَّ ذراعه فاتحًا أحد أدراج مكتبه.. أخرج منه صورةً عزيزةً إلى قلبه.. تأمل والدته وابتسامتها العذبة.. هو أحب شعره الكستنائي فقط لكونه نفس لون شعرها.. لم يحظى هو بعيناها الخضراوتين بعكس شقيقه الأصغر ولا حتى ببشرتها البيضاء فهو حنطيٌ كوالده... قلبَّ الصورة يقرأ ما كتبه بالخلف منذ أعوام مضت.. " وأحن لحضن يؤيني...بحنان ينسيني همي "

تساقطت دمعة متمردة من عينه ليمسحها بسرعة خشية إفساد صورته الحبيبة.. ربما هي آخر ما يُذكره بنفسه القديمة...قيمتها بالنسبة له لا تقدر بثمن..!

لأجل أنسحيث تعيش القصص. اكتشف الآن