مكيدة

1.1K 105 92
                                    

أحيانًا تعجز الحروف عن إسعافنا في مواقف نرغب بقول الكثير والكثير فيها.. ولكن العيون دومًا لا تخذلنا وتتولى هي زمام الأمور وقد تكون دونما مبالغة أكثر بلاغة وإيصالًا للمشاعر..

هذا ما شعر به أنس وهو يقف عاجزًا عن ترتيب حروفه وقد أبى جسده تلبيه طلبه بالإندفاع ومعانقة والدته.. ربما لإن عقله أدرك أنها ليست سوى سرابًا سيتلاشى ويختفي فور لمسه لها...لذا رأف بحاله مع إصرار قلبه على مواصلة رؤيتها...

"أمي؟!" عاد يردد كلمته الوحيدة التي حُرم منها منذ خروجه إلى الدنيا..عيناه مُعلقة بخاصتها في إلحاح ولهفة لسماع صوتها...لكلمة تلهفت روحه وبشدة لسماعها.. لتأكيد كونها أمه رغم تأكده بذلك!

ابتسم في تردد وهي تقترب منه أكثر.. أغمض عينيه في تربص ولا يعلم حقًا لما فعل ذلك...ولكنه فتحهما على اتساعهما ويدها الحانية تلمس كلا وجنتيه وابتسامة عذبة زينت ثغرها ولأول مرة يصل صوتها الدافئ إلى مسامعه وهي تقول في حب افتقر هو إليه كثيرًا "طفلي.. صغيري.. حبيبي"

عادت دموعه تنهمر مبللة يديها وشعور بالسرور يغمره حتى أنه شعر أن قلبه سيتوقف لفرط سعادته.. شعر بأن فرحه كثير عليه وأن قلبه لا يسعه..ولكنها إلتفتت ناحية الباب قائلة "بُني...ألن تفتح الباب لشقيقك؟!"

اخترق صوت الدقات المتتالية وبقوة عقله ولتوه ينتبه لوجودها.. صوت وسام الذي صدح من خلف الباب والذي بدا القلق جليًا في كل خلجة من خلجاته وهو يقول "انس.. هل أنت بخير؟!.. افتح الباب!"

نظر في تردد نحو الباب ولكنه حسم أمره بسرعة ولم يحرك ساكنًا بل هزَّ رأسه نافيًا رافضًا وبشدة تركها له مجددًا لتعود هي قولها في حنان " هيا بُني.. افتح الباب.. وسام ينتظرك "

عاد صوت وسام يصدح وهو يردف في قلق اكبر وبنبرة أعلى " أنس!.. إن لم تفتح الباب سأدخل "

مدَّ يده في قلق نحو والدته راغبًا في التشبث بها.. عانقها ولذهوله لم تختفي.. شعر بها تعانقه وتستنشق رائحته...ضمها بقوة بكلتا ذراعيه وابتسامته تتسع شيئًا فشيئًا.. ولكن الباب فُتح.. أو بمعنى أصح كُسر وتلاشى فجأة كل شيء.. كل شيء..

اندفع وسام بكل قوته إلى داخل الحمام ليشهق في فزع وهو يرى شقيقه مُغطى بالمياه والبخار يملأ الحمام لدرجة جعل الرؤية ضبابية...تحرك بسرعة مُنتشلَا أنس من المياه ولسانه يردد دون وعي وبكل الهلع "لا.. لا.أنس.. لا"

حمله ولا يدري كيف واتته القوة لتحمل آلام قدمه وهو يثقل عليها...وضعه مستلقيًا على ظهره على أرضية الغرفة وأسرع مُحضرًا فوطه كبيرة لتدفئته ولسانه يردد يارب بين أنفاسه اللاهثة..

غطاه جيدّا وأخذ يهزّ كتفيه وهو ينادي بصوت مرتجف" أنس!!...أنس!!.. إستيقظ يا أنس هيا! "

لم يجبه ووجه الشاحب جعله يُسرع بتحسس نبضه...حمد الله وشعوره بنبضه زرع الأمل في قلبه...وضع يده أسفل أنفه ليثب قلبه بين ضلوعه في عنف..ليتمتم في توتر وهذيان "لا يتنفس..لا يتنفس!"

لأجل أنسحيث تعيش القصص. اكتشف الآن