الفصل الثاني

111 6 0
                                    

من داخل الفيلا الفخمة، التي أخذت من عمره سنوات من الكد والتعب، تساؤلات لا تنضب، إجابات متجاهلة سابحة بين جدرانها غير قادر على قرائتها.
ينتظر في بهو الفيلا الفخم، وعينيه تتعلق بصورة العمة منيرة التي توفاها الله قبل تركه للعمل بوقت قصير، تلاها جد خلود بعد أن قدم له صنيع ظل يأسره في سنوات استقلاله المجهدة.
أشارت له الخادمة بالتقدم نحو غرفة الطعام، رائع أن يدعوه طارق إليها، فقد اكتسب ثقته لأعوام تلت سجن كمال وخروجه من حياته بلا رجعة.
يتقدم منخفض البصر، يصدر همهمة تعلن قدومه واقترابه من مكانهم.
فقابله طارق بسماحة وجه لم يعهدها كثيرا أثناء عمله.
بينما التقطت عينيه ترتيب خلود لحجابها الغير محكم، شال قطني ثبتته فوق شعرها لتخفيه عن عينه.
وصوت يوسف الذي بلغ العاشرة من عمره يقول
-من هذا يا أبي؟
صافح طارق عبد الرحمن بود ظاهر، يجذب كفه نحو الطاولة
-تفضل يا عبد الرحمن، سيأتي نصيبك حالا من الطعام.
ثم التفت إلى يوسف يجيبه بهدوء
-صديق قديم يا يوسف.
تتطلع إليه وهو يظهر امتنانه لشخص ما، كم هي فخورة بما وصل إليه، سعيدة بتعبيره عن مشاعره تجاه من حوله.
-شكرا لك سيدي.
قاطعه يرفع كفه
-لقد دخلت عالم الأعمال وبت تنافسني، فامتنع إذن عن تلقيبي بسيدي.
جلس عبد الرحمن ولازال بصره منخفض تجاه خلود، يخرج شيك من جيبه ويمده نحوها بأدب
-تفضلي سيدة خلود، لقد جئت أرد الدين القديم.
امتنعت عن استلام الشيك
-وربي لن آخذه
تتماسك مغالبة دموعها التي التمعت بعينيها
-لن يسامحني يا عبد الرحمن، لقد استحلفني عند موته بأن لا أقبله عندما تعود لرده
-لقد كان يعلم!
دفقات هائلة من الإثارة تصب في قلبه فتمنحه ضربات أعنف، لقد كان يثق فيه..يعلم بعودته، رغم أنه منحه ذاك المال دون التلميح لاسترجاعه.
لطالما دعمه وتقبل لحظات إحباطه المعدودة ورمم فيه ما كسر، وخفف عنه ما كان يحمله من ثقل أخته وابنها وضيق رزقهم.
يشعر بالحرج من الجميع يشعر بعيونهم المراقبة.
قال طارق يربت على كتفه يخطفه من أفكاره
-جدها كان ثاقب الرؤية، لطالما رآك رجلا يعتمد عليك، وها قد صدَّقت على كلامه بفعلك
تكمل خلود على كلمات زوجها
-هذا إرثك منه يا عبد الرحمن لا ترده، لقد كان حصيلة راتبه على مدار سنوات من العمل بدار المسنين، ولا تشعر بأننا أصحاب فضل عليك، أنت صنعت نفسك واجتهدت، عليك أن تفخر بذلك
يصارع عبراته المحتبسة بين عينيه، يتنحنح يجلي صوته المحتقن بعاطفته، لقد منحه ماله وكان يعلم بأنه سيعود، لطالما كان يفهمه ويمده بطاقة الخير والصبر، يدفعه نحو الأفضل والأنجح.
-شكرا لكم.
يلملم شتات نفسه يهم بالمغادرة، فاستوقفه طارق يلطف الأجواء المشحونة بالحنين
-كيف حال العمل؟.
قال بدون تفكير في مغزى سؤاله، ولازالت صورة الجد تلازم عقله
-بخير.
يبتعد طارق عن طاولة الطعام بجسده يصبغ على حديثه العملية
-لقد انضمت عاليا إلى الركب، انفصلت عني ومنحتها موافقتي فهل تراها ستفلح؟
تتهاوى صورة الجد عن رأسه فذكر عاليا بسوادها لا تتفق مع صورة الجد المنيرة.
-لقدر رأيتها مرة واحدة في نهاية مزاد اشتركت فيها شركتانا ولم يدر بيننا حديث، أظنها ستفلح فهي من نسل الرشيد جبلت على القوة والتحدي.
ضيق طارق عينيه وقال وكأن الهموم تتثاقل عليه
-اهتم بها يا عبد الرحمن، هي ترفض أي تدخل مني في عملها، لا نصائح ولا متابعة..
هو لن يكمل ما تبقى من حياته في مراقبتها، يكفيه ما رآه منذ كان سائقا تحت امرتهم
لقد كان شاهدا على سوء عالمهم، وبالأخص عالمها هي، المتمردة، الجامحة، لقد كان شاهدا على انهيارها يوم لقائها بعمتها بالقبو ليُكشف وجه جديد لعاليا الساخطة، وجه أذاب قلبه وهو يراها طفلة بحاجة ليد تملس على شعرها ويد أخرى حانية تربت على قلبها
أشفق عليه من حيرته
-هذا أمر ودي يا عبد الرحمن، أنت لا تعمل معي الآن ويمكنك الرفض، لكني في الحقيقة لا أثق بأحد سواك، صدقا.. أنا لا أثق بأحد سواك على الإطلاق، لقد كنت أحد خساراتي عندما أخترت الإبتعاد عن فيلا الرشيد.
لم ينسَ دمائها التي وسمت فيلا الرشيد بالدنس، دماء سقطها التي لوثت ملابسه وهو يحملها ركضا نحو المشفى وقد تمنى وقتها لو كان هو من قتلها على فداحة إثمها
-أنت تعلم سيد طارق أني استقليت بعملي بناء على طلب جد السيدة خلود، ولولا إذنك لما غادرت.
يلتقط طارق أنفاسه يتحدث على مهل
-أنت تستحق بداية جديدة، حياة تبدأها ببساطتها لتكبر وتتذوق طعم النجاح، لقد رأى فيك جدي ما لم أراه أنا.
تبع جملته بضحكة بسيطة ليردف
-وربما طمعي فيما تملك من أمانة وحسن خلق، جعلني أرمي بثقل مهامي عليك في سنواتك الأخيرة معي.
أيخبره أنه بات يفهم في صنوف البشر بعد طعنته ممن استأمنه، أم يخبره بسعادته عن حفظه لأسراره التي عاصرها معه يوما بيوم دون تطفل أو تدخل.. منفذا لأوامره بطيب خاطر دون تساؤلات،قاطع أفكاره صوت عبد الرحمن المتردد
-سيد طارق.. انا ممتن لكلماتك تلك، لقد أعطيتني قدرا أكبر من قدري..لكن...
يتذكر تساؤلاته التي طمرها في صدره عن أسباب مارأي، كاد أن يجن وهو يرى طارق يسجن عمته في القبو، حقد كمال عليه لدرجة انتقامه من أخته بتلك البشاعة
سلمى ابنة كمال التي لم يغلق جفنيه لشهر كامل حتى تناسى ما حدث معها
يمسح وجهه بكفه الطليقة بتعب، واجترار هذه الذكريات المؤلمة باسترسال مضني أرهقه
-أنا أوكلك أخ لها في عدم وجودي، امنحك السيطرة كاملة على أفعالها، لا أريد تقارير أو نقل أخبار.. تعامل معها كأنها أختك الثانية.
يكره الحديث عندما يكون ودي فيحاصر بلين الطلب من أناس لازال جميلهم يطوقه، كيف يهتم لمصلحتها ويراقبها وهي أبغض البشر إلى قلبه..
قام هذه المرة ليغادر بالفعل، فلا يمنحه الموافقة على قوله ولا الرفض، هز رأسه بتأدب يمنحه ابتسامة امتنان
-بالإذن.
كانت تعلم وهي تتلصص على غرفة الطعام بأنه سيأتي في يوم ما.
هكذا أخبرها جدها وهكذا وثقت به، تثق في كل كلامه عن عبد الرحمن وتشربت تلك الكلمات إلى أن أصبح هوسها.
تستدير إلى سلم الفيلا الداخلي تصعده إلى غرفتها، ولم تنسَ أن تحين منها إلتفاتة نحوه، لكنه لم يرها وهو متخم بالأفكار المقيتة التي تخصها.
أكملت طريقها وكلمات طارق تتسابق إلى أذنيها
-أخبريني عبد الرحمن عليه أن يشعر بماذا؟
بالكاد صوت خلود  تسمعه
-بالفخر
خرج يوسف فور شعوره بها، يصعد خلفها، ووالديه مشتعلين بنارهم
-وما شأنكِ أنتِ أن يفخر أو يجتهد يا خلود؟
احمرت حنقا، هي تعلم بغيرته، ماذا دهاها لتقول ما قالت
-لقد أشفقت عليه يا طارق، ألم ترَ شوقه وترحمه على جدي، أنت لا تملك مشاعر لتحس به.
قال بسخط
-وماذا أملك؟ أليست تلك اللعينة التي تشعل غضبي الآن؟
قالت مستفهمة
-مشاعرك؟
كاد أن يطيح بالصحون في وجهها لولا
لمسة يديها، ما هدأت العالم من حوله، وكلماتها التي صبت على نار غيرته ثلجا بردها
-صدقا أشفقت عليه يا طارق، الرجل فقد أمه منذ وقت قريب، وجدي كان يعني له الكثير بنصحه وصداقته، لقد كنت تراه متلهفا دوما للذهاب إليه ومتابعة عمله، أنا لا أرى ولا أسمع ولا يملأ عيني سواك رجلا، كف عن هذا الغضب الطفولي المستمر.
تمكنت منه، ألجمت غيرته  بعطف محبتها متمة حديثها
-لم يكن من الجيد الحديث عن عاليا اليوم، قد يفهمها أننا تركنا له المال مقابل تلك الخدمة، الأمر محرج يا طارق.
فكر موافقا لحديثها
-فقط وجدت الأمر ودي، لم أقصد أن يبدو هكذا.
استحسنت إعترافه فقالت
-هو أيضا ابن بلد ولم يمنحك موافقته.
لم يغار هذه المرة بل أعجبته رؤيتها.
ثم قالت برفق
-تثق مجددا في أحدهم
يبتعد عن السفرة متوجها نحو أريكة البهو الواسع فتبعته
-لقد وثق فيه جدكِ قبلي.
جلست جواره تحتضنها ذراعية، تستمع لخافقه بأذنيها الملتصقة بصدره
-نفوس البشر تتغيير يا طارق.
-ليس أمثالكم.
ابتعدت عنه تعقد حاجبيها فيردف بجدية
-هناك أصناف من البشر تمنح دون أن تأخذ، تحمي بدون مقابل، تخاف من الله أكثر من خوفها على لقمة العيش والمال، اعطيني سببا واحدا لعودة عبد الرحمن بالمال بعد أن ضاعفه ليرد دين جدكِ.
تنصت إليه بفخر
-عبد الرحمن كما قال رحمه الله.. رجل..وقد ندر الرجال في زماننا هذا.
تفرد ذراعها حول خصره، تقترب منه بحميمية عاشقة
-وماذا أيضا يا سيد الرجال؟
-تفسدين حديثي الجدي في كل مرة يا خلود.
يطالعها بجنون
-ألن ينتهي عشقي لكِ.
مالت نحو أذنه
-ولماذا تريده أن ينتهي
يلامس خده الخشن بوجنتها الناعمة
-على الأقل يثبُت، أشعر وكأني متزوج حديثا..كلما مرت السنوات زاد حبي وشغفي بكِ، هل سحرتني!
تومئ بنعومة خدها على وجهه
"نعم.. فأمثالي.. بارعون في السحر"
تكسر عود من أعواد الإسباجتي إلى قطع صغيرة، ترتبها وتحتويها بين سبابتها وإبهامها
وتحركهم يمينا ويسارا، تشعر بتلك المتعة التي تمنحها إراحة أعصابها في تمرير القطع بانسيابية وكأنها تضغط على كرة الأرز المهدأة للأعصاب، حسنا هي مكرونة فليس الفارق بكبير.
تمنحها هذه الحركة راحة، تنفث بها عن أفكارها التي ملأت رأسها.
تسمح لدمعة شحيحة بالمرور عبر أهدابها وقد استيقظت لتجد كافة ذكرياتها التي لم تعشها حتى معهم سراب وكأنها لم توجد من الأساس.
لقد تركوا لها مجرد صورة تطل عليها بمسحة حزينة من الماضي.
لمسات أمها وترتيب شعرها، أحضان والدها الدافئة التي تذكرها منذ كانت طفلة بضفائر قصيرة.
تشعر بالخوف من الجلوس وحدها بينما أخواتها كلتاهما في عملهما، تخاف الظلام، الوحشة، يلقي إليها عقلها بوساوس لا نهاية لها منذ تركتها أميرة لعملها الجديد، والخالة فوقية لم تمر عليها اليوم فاشتدت هواجسها.
أن يحرمك الله من شيء فترضى تمام الرضى، لكن لا يمنعك خوفك من ذلك النقص.
ترى تدحرج قلمها الرصاص ليسقط عن الأريكة دون أن تهتم بامساكه، فاقدة للشغف سواء للرسم أو المذاكرة.
ترى ظل قصير أمام بابها، فتقترب بتمهل لتعرف من..
فتحت شراعتها لتجدها الخالة فوقية وقد أتت للجلوس معها ففتحت لها
-آسفة يا إيمان لتأخري عليكِ، عمكِ سلامة لم يتركني إلا الآن.
يرن هاتفها فتجد المتصل أميرة
-مرحبا خالتي، كيف حال إيمان؟
تنظر إليها وهي تمرر قطع الإسباجتي الصغيرة بين أصابعها فقالت
-أظنها متوترة قليلا.
-أرجوكِ يا خالتي لا تتركيها حتى آتي، فلقد تخلصنا من كافة الأشياء التي كانت تستعملها أمي ومحتفظة بها، الأمر بات متعبا مع اختفاء الحشرات خلفها، لقد نظفنا أنا وأمينة اليوم أثناء نومها.
تنظر إليها فوقية بعد أن جلست على الأريكة، وأمسكتها لتسقط رأسها فوق فخذها وتبدأ بترتيب شعرها
-حسنا يا أميرة لا تقلقي، أنا موجودة لحين عودتكِ.
لحظات من تمسيد شعرها وكانت إيمان تغط في النوم، تلك الصغيرة ذات الثامنة عشر، شعرها الأشقر القصير الناعم، يثير بداخلها عطف وحنان لا تعلم من أين أفرز بين أصابعها وداخل قلبها، تنظر إليها من علو، تملس على بشرتها فتمنحها إيمان ابتسامة ناعمة من بين شفتيها المنمقة ونومها الهاديء، تبارك الله فيما خلق، هذا الجمال النائم على ساقيها، ماذا ستفعل في الرجال عندما تتخطى العشرين.
ما إن شعرت بالأمان الذي تمنحه فوقية لها، حتى تناغم جفنيها ليعزفا لحن النوم، تتناسى قسوة قلوب أختيها وجريمتهما في حق قلبها، فقد إكتفوا بترك صورة فقط، وكأن ما حملته أمها يوما وخزنته يعد الروح لتلك الصورة الباردة.
-لقد كانت المقابلة باردة يا خلود، وأسئلتها ليس لها علاقة بالمهنة، وكأنها تحتاج سكرتيرة صورية لتكون واجهة لا أكثر.
قالت خلود بصوت خفيض وكأن عاليا جوارها ستسمعها
-المهم، هل قبلتكِ في العمل أم لا؟
قالت أمينة بسعادة خفية
-لقد قبلتني.
سعادتها نابعة من راتب مجزي يكفيها وأخواتها شر الحاجة
-قومي بمهامكِ يا أمينة، أعانكِ الله على مصائبها.
تبعت قولها بسلام هاديء، ملتفتة لذاك الذي اقتحم الغرفة وكأن أحدهم يلاحقه
-هل نام يوسف؟
قال كمن أنجز عمل ضخم
-لقد شاهدت معه كارتونه المفضل إلى أن نام، لا أنكر أني شعرت بالملل قليلا، فابنكِ كلما غفى يقوم بإعادة ما فاته، حتى نام تماما.
لقد اتفقا على تربيته سويا، ليتمتع يوسف بحنان أبيه المفرط، وحزم أمه المتوازن.
لقد التقطت أذنيه بعض الكلمات قبل دخوله
-هل تصدقين بأن عاليا لم تعِ بأن أمينة ستنقل أخبارها اليكِ؟
تجذب كرسيها تلصقه بكرسيه لتقرب منه العشاء
-وكيف ستعرف؟
يضحك فتجاريه، تتأمله بحب، لكم تحب ابتسامته ومزاجه الرائق
-الأمر واضح للعيان يا خلود، أمينة ممرضة أي زميلة لكِ ونفس مهنتكِ، لا تفهم في أمور السكرتاريا أنتِ حتى لم تتركِ لها الوقت لتتعلم قليلا طبيعة عملها، والأكثر من ذلك فتاة خام لا تجيد الكذب والمراوغة.
تتناول قطعة الطماطم تلوكها وتقول بذكاء
-هل سمعت عن الحرامي الذي خبأ غنيمته بالقرب من قسم الشرطة،هو أبعد مكان عن عيونهم،مستحيل الشك فيه، أنا أعمل بمبدأ دس الشىء أمام الأعين لن يلفت النظر إليه
-إلى الآن لم تفهمي عاليا، هي أذكى بكثير مما تخططين يا خلود، إن اعتبرنا ان تلك الخطة تتسم بالذكاء أصلا.
تركت طعامها غاضبة
-هل تقصد أني غبية؟
يضم كفها إلى صدره
-لم أقصد، أنا أعني أن إستراتيجيتكِ هذه المرة لن تؤتي ثمارها.
-وبماذا تفسر قبول عاليا بها طالما بهذا الذكاء؟
ترك طعامه يفكر
-أنها لم تجد أحد يتقدم لوظيفتها،أو أراحت نفسها من محاربتكِ ورضخت للأمر.
رفعت أحد حاجبيها باهتمام
-أو ستحتاط أمام أمينة، وتفعل ما يحلو لها بعيدا عن محيطها.
تنهدت من كثرة التفكير وأردفت
-عموما عبد الرحمن من ناحية أخرى يقوم بحمايتها، أليس كذلك؟
بلع ريقه بشرود
-أتمنى ذلك
استيقظ مبكرا عن موعد عمله، فتلكأ يتمطى على سريره، يتنعم بدفء أغطيته، يتثاءب بكسل.
يهز جسده وكأنه يهدهد روحه ويدللها لإقتناص دقائق أخيرة من النوم.
يذهب بذكرياته الغافية حين كان في العاشرة من عمره وقد اعتاد الاستحمام وحده، وقد رأى شعر قصير متعلق بصدره، فركض إليها قبل أن ينهي حمامه
-انظري يا أمي، لقد نمى لي شعر صدر.
يستمع لضحكتها وكأنها الآن وليست ذكرى محفزة لخلاياه، يتذكر نظرتها المدققة فوق صدره، تحاول كتم ضحكها وهي تمسك الشعر الخفيف فوقه وتقول
-أعتقد أنه شعر رأس أبيك وقد علق بملابسك يا محمد.
-لا، إنه شعر صدري.
زادت في ضحكاتها مع إصراره، فنظرت له بلوم مرح، فصدقها وشعر بالحرج وهي تمرر الشعرات الرفيعة أمام عينه، فهو لم يشعر بوجع نزعها لو كانت حقيقية.
يتذكر قبلتها، ومساعدتها له في إلباسه ثوبه الداخلي
-أراك تتعجل الكبر يا صغير، غدا تتذكر ما تفعله الآن وتضحك، وتتمنى لو ظللت صغيرا.
لم يشعر بنفسه وقد تقلب ليصبح نظره متعلقا بالسقف فوقه، لا يضحك مع ذكرياته كما قالت، لكنه تمنى لو عاد صغيرا تحت جناحها، تمنى لو لم يكبر ويفهم ويلاحظ ويغضب، ليته ظل صغيرا.
لم يشعر بنفسه وقت تسللت يديه أسفل كنزته يعبث بتلك الشعيرات الكثيفة التي كست صدره، لقد تحققت أمنيته بالكبر، وياليته ما فعل.
وجب عليه بعد حديثه مع والده أن يعمل، ليس لأنه اقتنع بكلمات أبيه، لكن بعدا عن زوجة أبيه ووردتها اليافعة، لا يريد زيارته على فترات متقاربة ولا وصل الود، هو قاسي لكن ليس على من يهتم لأمرهم، لايريد كسر قلب تلك الجعداء، ولا تعلق زائد من زوجة والده.
يذهب إلى الجامعة مرتين في الأسبوع، وقد قرر أن ينجح هذا العام، وينهي المواد العالقة من سنته الفائتة أيضا.
ترك مهنة إيصال الطلبات بعد أن شعر بأنها ليست مهنته، أتته رسالة من رسائل التوظيف كتلك التي تعلن عن العقارات والعمل بنظام شبكي وما شابه، لقد اعتاد تلك الرسائل.
لحظات من إعداد نفسه، ركب دراجته متوجها إلى العمل الجديد.
-صباح الخير يا محمد، سأكون معك لعدة ايام أشرف على تدريبك حتى تكتسب الجرأة والخبرة في إستقبال مكالمات العملاء.
ينظر إلى تلك الفتاة التي تملؤها الحيوية، وتفيض عينيها بلمعة براقة متوهجة، تنضح بالأمل والبهجة فور وقوع عينيه عليها، قام يمد يده يصافحها
-محمد.
لقد نادته للتو باسمه فهي تعرفه، لكنها لم تمانع من  طريقة التعارف التقليدية، واصبغتها بتجاهل مقصود ليده وهي تتشاغل بما تحمل
-أميرة.
مر اليوم على خير، قضى ساعات عمله كاملة بصحبتها، تعلمه بطريقتها الخاصة كيف يتعامل مع العملاء، تعلمه أرقام وأكواد عليه حفظها لينجز الأعمال سريعا دون التلكؤ بالنظر أو البحث عنها كتابيا.
لم تملي عليه أوامر كثيرة، لكنها منحته الوقت لتأملها، ومتابعتها عمليا وهي تتحدث إلى عملائها.
مكتبه مقابل لها، لكنها منحته موقع جوارها  ليتابع شاشتها بدقة.
يحاول مجاراة المعلومات وتثبيتها داخل عقله، فالعمل هنا أمر منهك، يحتاج ذهن صافي لمتابعة أسئلة المتصل وأداء خدمته  على أكمل وجه.
يتقدم العامل يضع كوبان من العصير فتشكره، وتتوجه بحديثها إلى محمد وهي تضع العميل على قائمة الانتظار.
-هذه المرة فقط سأدفع لك، أنت ضيفي.
تكسوه البلاهة فلا يفهم قولها، فكررت
-اليوم سأعزمك على هذا العصير، ولكن لا تعتاد على ذلك.
يبتعد بجسده عن مكتبها يفرد ساقه ليمد يده داخل جيبه، يخرج النقود ويضعها أمامها
-أنا لا أقبل العزائم، ولا أقبل بالخدمات وردها، ولولا تعليمك لي من قبل الرؤساء ما قبلت بتدريبك من الأساس.
ذهلت من حديثه الجاد وهي التي تتكلم معه بود، تفتح المكالمة بينها وبين العميل تكمل عملها، دون أن تتفوه بشيء له، ولم توجه له كلمة واحدة حتى انتهى اليوم.
في اليوم التالي استقبلته بابتسامة بشوشة لا تعكس ما حدث بينهم بالأمس، فالأمر لم يأخذ من تفكيرها لحظات.
وبمجرد جلوسه جوارها قالت له بحسم
-عد إلى مكتبك، دونت لك الأكواد التي عليك حفظها، وكتبت لك بعض الإرشادات، وللتعلم مني راقبني من مكتبك.
رفعة حاجبين، وهزة رأس تحثه على القيام لتنفيذ ما قالت، فنفذ على الفور، وبينما يقلب في الأوراق وجد عملات معدنية، حملها في يده وحركها فأصدرت صوت رنين جعلها تنظر نحوه، وتجيبه بصوت مرتفع
-باقي عصير الأمس، أربعة جنيهات كاملة، احتفظ بهم.
رفع أحد حاجبيه بغيظ
-إنه غالي بالمناسبة، أنا أفضل الشاي على كل حال.
قالها وملامحه الرمادية تزيده رهبة في عينيها، تخاف من مجرد النظر إليه، تخاف منه وتدربه، تضاد منفر لكنها تقبلته لأجل لقمة العيش، التي تفرض عليها التعامل مع صفات تكرهها في نفسها وليس في غيرها فقط، تعلق عينيها بشاشتها، تقوم بعملها، لكنها منتبهة جيدا لخياله الذي يفرك أمامها، عليه تحمل الوقت هكذا بلا عمل، فقط المراقبة، فعمله الحقيقي سيتسلمه بعد أيام.
شعره المهذب من الجوانب يوحي بأنه شخصية منتظمة، بينما طول المتبقي منه من المنتصف يثير في نفسها عبثية مفرطة.
شاربه الخفيف مع لحيته المنتصبة، تعطيه طابع بري مقيت، بروز أسفل فكه يشبه حجر عاثر نافذ بحلقه.
تلك الملاحظات خطفها عقلها وسجلها دون النظر إليه مباشرة!
تمر الساعات عليه ثقيلة، وهو الذي يكره الانتظار، يبغض التعامل معه وكأنه كتلة غير مرئية ستهاجمه وهو غير مستعد، يصارع فكرة انسحابه من هذا العمل اللعين، الذي يضعه لقمة سائغة بين أسنان تلك المتحذلقة.
أسنانها مستوية بشكل مستفز، وجنتيها الممتلئتين المرتفعتين بابتسامة مستفزة يبغضها تخبره بلامبالاتها نحوه.
شتمها في سره، متحاملا على نفسه، حتى تنتهي تلك الساعات الرتيبة.
يقف مع عامل البوفيه، يقتطع دقائق من الملل الذي كاد أن يفتك به في مراقبتها بحجة التعلم، يثرثر العامل بكلمات ضج بها رأسه، وعرج على اسمها فانتبه ذهنه
-من حسن حظك أن الآنسة أميرة هي القائمة على تدريبك.
-قل من سواده.
تعجب العامل من قوله
-هل قمت بمعاكستها.
امتعض وجه محمد وهو يرتشف شايه
-وهل هذه يمكن معاكستها؟
قال الرجل بإعجاب مندفع
-لأنها كالسيف، لا تتمايع ولا تعقد صداقات في العمل، في حين أنها بشوشة الوجه حسنة الخلق، هي في العشرين من عمرها، لازالت تدرس.
أسر في نفسه
-ومن هذا الذي ينظر لها بتلك السحنة الغير مبالية.
لقد صدق الرجل بأنها تبدو صغيرة، فقال
-ولماذا تعمل وهي في هذا السن؟
-لا أعلم، هي لا تتحدث مع أحد، ولولا طلبها  لتبديل موعد دوامها مساء لأن امتحاناتها قد اقتربت لما عرفنا أنها تدرس.
تهللت أساريره والاخبار المبهرة بدأت في الظهور، حسنا، هي في الفترة الصباحية وهذا وضع مؤقت.
زفر حامدا ربه، فهو لن يتحملها زميلة يومية يرى وجهها كل يوم.
ناول كوبه للعامل وعاد إلى مكتبه، لم تكن عادت بعد من استراحتها، لمحها تدخل بوجه مستاء وكأن أحدهم وبخها، شعر بالشماتة لوهلة، عقبها لا مبالاة اكتسحت قلبه، حتى انتهى اليوم الأخير على تدريبه، ربما هي مستاءة لفراقه، ضحك في سره، ولمعت ابتسامة باهتة على شفتيه، ينظر إليها شزرا، لتزداد ملامحه القاتمة رهبة وحنق.
يضغط على أسنانه مستندا إلى كرسيه برأسه يفرغ عقله من تزاحم الأفكار.
كان على يقين بأن لعنتها ستصيبه رغم احتماءه الجيد بعيدا عن أنظارها.
عاليا تحاربه، هو بالأخص دونا عن الشركات الأخرى.
-إنها المرة الثالثة التي يرسى عليها العطاء لصفقة كنا ننتظرها، لقد أصبحت كالحوت الذي يبتلع أي شيء في طريقه.
يلتفت إلى سالم الذي بدأ الأمر يقلقه، فلو استمر الأمر على هذا الحال لأستمرت خسائرهم.
-ماذا عن مزاد أجهزة الكمبيوتر؟
قال سالم بضيق
-لقد رسى عليها هو الآخر، أنت لم ترَ ذاك التحدي الذي تتسلح به
يقول بشرود كاذب
-ربما تثبت نفسها في مجال الأعمال
-في كل صفقة ندخلها؟
يرفع وجهه متأملا سقف مكتبه بغيظ، يستند بمرفقيه على المكتب، تستشري الهموم داخله
-والحل يا سالم؟
يمسك سالم رأسه مفكرا
-لا أعلم.
طرقات سكرتيرته قطعت حديثهم
-هناك زائرة بانتظارك في الخارج سيد عبد الرحمن، لم تفصح عن اسمها.
متعجبا من هذا الكتمان، أشار لها بأن تدخلها.
تبادل وسالم النظرات حتى دخلت إليهم بسمتها الرسمي وحجابها المتواضع، ألوان متناسقة بسيطة، تقدم نفسها بوجه طلق مبتسم
-أمينة، سكرتيرة السيدة عاليا.
لقد نالت إحترام سالم فهي رسول عاليا التي عبثت بقناعاته منذ رآها.
بينما عبد الرحمن يطالعها بترقب لما تحمله.
يشير نحو الكرسي المقابل لسالم يدعوها للجلوس، منتظرا البداية
-لقد أرسلتني السيدة عاليا لأحدد موعد كي تتباحث معك أمور بشأن العمل.
قال بصوت متزن وهو ينظر إليها مباشرة تعكس عينيه الرفض
-وأنا لا أريد التباحث معها في أي شيء.
انتفض سالم من تلك اللهجة الرافضة، هو دوما يحب المفاوضات، وإلا لماذا رماه عبد الرحمن في ذاك القسم، يتسع صدره للأخذ والرد، يحب الثرثرة وكثرة الحديث.
أتى الفراش يحمل كوب من عصير الليمون يضعه أمام أمينه التي رتبت حجابها وقالت بود
-شكرا لك.
ثم التفتت إلى عبد الرحمن تستشعر كرهه لعاليا في كل كلمة تقطر من فمه، بغض لا يحتاج لإخفاءه ولا تتردد هي في فهمه، توجه إليه حديثها
-استمع إليها أولا ربما تحمل عرض فيه نجاتك.
من تلك الأمينة التي تلمح لغرقه، قالت وهي تقرب العصير من فمها تحت نظراتهم المتسلطة، منتظرين ابتلاعها لرشفتها حتى تتابع حديثها.
عينيه ثابتة فوق شفتيها بعداء متعجل فأردفت
-أظنه سينال رضاك.
قال سالم يفرض وجوده لتلك التي تتجاهله
-امنحينا نبذة عن ذاك العرض يا أمينة إذا سمحتِ
قامت تفرض الغموض على حديثها وكأنها ملقنة بذاك العرض وتدربت عليه كثيرا، تخرج من حقيبتها الصغيرة كارت صغير تضعه فوق مكتبه
-غير مسموح لي بالحديث عن أي شيء خاص بذاك اللقاء حتى حضوركم، هذا عنوان الشركة، سننتظركم غدا العاشرة صباحا، قبل المزاد الذي  اشتركت فيه كلا من شركتينا، أتمنى أن تأتيا باكرا لعله يكون من نصيبكم.
يستند إلى كرسيه، يضع ساعده فوق أحد أذرعته
-إلامَ تلمحين؟
كان قول عبد الرحمن الصارم.
فردت بلباقة
-كما قلت يا سيدي، غير مسموح لي بالحديث، بالأذن.
ثم غادرت ببساطة هيئتها وغموض عرضها، تغلق الباب خلفها بهدوء
-هل تظن بأن عاليا تريد منا أموال لتترك لنا المزاد.
-فرضا هذا ما فهمنا، فماذا عن باقي المشتركين، نحن لا نملك تلك الأموال التي إن أكلتها لن تنفد كي نحظى بالمزاد ونراضي الجميع للانسحاب.
يحك ذقنه بقوة، كان يعلم، يقسم بأن نظرتها له تلك المرة التي رآها فيها كان يعلم بأنها عائدة من أجله، لحظِه الأسود هي تعرفه، مجنونة، لا آخر ولا منطق لجنونها.
-هل سنذهب إليها غدا؟
-وهل لديك حل آخر يا سالم؟
**

بطل الحكايةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن