الفصل الأول

298 7 0
                                    

الفصل الأول.

تتسابق الطيور في سرب منظم كأفكارها، ترفرف بجدية فتمنحها نسمات الهواء المعبأة بحسن التوكل، فتسحبها مبتسمة تملأ رئتيها بحلاوتها وعذوبتها في هذا الوقت المبكر من الصباح.
تصلها رسالة فتفتحها بسرعة محملة بشوق الانتظار، لتتسع إبتسامتها بامتنان وسعادة.
-خلود..
تبدلت ملامحها وغلفها التوتر، تغلق سريعا تطبيق الواتس آب بتردد فهي غير معتادة على إخفاء شيء عنه، لمحه وهو يغلق الباب مقتربا منها.
-ماذا تفعلين؟
تضع هاتفها على الفراش متفادية عينيه الثاقبتين، تحمد الله في سرها أنها تخلصت من كاميرات الفيلا كلها، و منحت الجميع الثقة لترى مردودها في هدوء حياتها معه.
-لاشيء مهم، أتحدث إلى صديقة.
ساعدها على كتمان مشاعرها، منحها الإقتناع الظاهري وداخله يعي جيدا أنها ستأتي إليه وتقص ما تخفيه لكن في الوقت الذي تحدده هي.
-لقد استيقظ يوسف ويسأل عنكِ.
تلف إليه وقد منحها تغيير الموضوع هدنة صغيرة، وثبات جعلها تضع عينيها بعينيه.
-وعاليا؟
يجاري شعورها بالفوز منشغلا بحديثها
-لابد وأنها استيقظت، تعلمين أنها تستعد لأمور كثيرة بت لا أعي ترتيبها.
قالت بعملية وهي تتأبط ساعده متوجهة معه نحو غرفة ابنهم
-لا تقلق، ولا تقحم نفسك داخل عقلها، ودعها تتصرف كما تريد، لانريد تكرار أخطائنا، الماهر هو من يتعلم من أخطاءه.
يمشي بثقة معها إلى أن دخلوا غرفة يوسف، فيتركها ملقيا بجسده فوق سرير الصغير
-حسنا، هذه كلمات هامة لبدء حياة جديدة، لكني مللت منها يا خلود..
حكت شعرها القصير بأظافرها تبحث عن جملة جديدة مما تحفظ وهي تقترب من يوسف تقبله
-ما رأيك في من جد وجد ومن زرع حصد.
هز رأسه رافضا..
-فلتكن ما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا..
حمل يوسف إلى الخارج متمتما
-لا فائدة.
يمر من أمامها يرفع صوته
-نحن بالأسفل بانتظار الإفطار.
تحاول مجاراة خطواته الواسعة على الدرج..
-انتظر يا طارق..خذ آخر واحدة..ضربني وبكى وسبقني واشتكى...
***
-مرحبا يا وردة، هل أبي موجود؟
يعلم بوجوده، لكنه السؤال الذي يمنحه إذن الدخول إلى المنزل عوضا عن التحديق به ببلاهة متناهية.
لا يعلم كيف واتت أمها الجرأة لتسميتها بهذا الأسم، فالورد الذي يبهج العيون بألوانه، وينعش القلب برائحته، لا يمت لهذه الصبارة أمامه بصلة.
-هل أعد لك الشاي، أم أوقظ أمي ونعد العشاء يا محمد؟
تنحنح بسماجة، يكسر خاطرها والتماعة عينها الضيقة
-لقد تعشيت.
انصرفت من أمامه مطأطأة الرأس، ليتنفس حامدا ربه بأنها لم تزد في ثرثرتها.
-ألن يرق قلبك لتلك الملائكية يا محمد.
انتبه لصوت والده فيدير رأسه نحوه، ولا يقم من مكانه
-يكفيها رقة قلبك.
جلس والده أمامه، يحتوي عصبيته، ويقول بمرح
-البنت تريدك.
-وأنا لا أريدها، أخبرني بالله عليك، كيف سيكون نسلها، ألا ترى شعرها الأجعد، عينيها التي يهرب بؤبؤها كلا في ناحية، أم لدغتها في حرفي الزاي والسين.
يقاوم أبيه نوبة ضحكه، هو يعلم بأن ما يقوله مستحيل، لكن لا يمنعه ذلك من إثارة غضب ولده.
-ما سبب تشريفك الكريم؟
يحك كفيه ببعضهما وقد أتى أبيه على ذكر المهم.
-أريد مبلغا من المال.
-كم؟
يهز حاجبيه بمكر
-لن أضيق واسعا، هب أنك ستعطيني أكثر مما أطلب، فلمَ أقطع رزقي؟
-إلى متى ستظل تمد يدك لي يا محمد، تجاوزت الرابعة والعشرين يا ولدي ولا زلت في الجامعة، من هم في سنك عونا لأهلهم.
حك شعره بلا هدف فأردف والده
-أنا لا أعفي نفسي من مسؤوليتك، وأنت تعلم ذلك، فإيجار شقتك أدفعه، ومصروفك الشهري تأخذه، لكن حرصي على رجولتك ما يدفعني للكلام معك.
يقول بسخرية
-الآن، بعد مرور تلك السنوات؟
لون الحزن مقلتيه مجيبا
-كنت تحت رعايتي بعد طلاقي من أمك يا محمد لا تنكر.
-ما بال تلك الوصلة لا تنتهي، أنا آسف لقدومي ولطلبي.
استقام يهم بالمغادرة، فأجلسه والده، يضع يده فوق فخذه مؤنبا له على إمتعاضه الدائم.
فتنهد محمد بصبر
-أعرف أنك تحاملت على نفسك كثيرا لأجلي، صبرك على أمي ونوبات غضبها، تنفيذك لطلبها الطلاق بعد سنوات طويلة من الزواج المضني، وتحملك لمطالبي بعد موتها، أشكرك حقا، لكني بحاجة إلى المال حقا، ولا أريد أن اسمع كلمات عتاب وتأنيب، وأنا لا أميل إلى الشكوى كما تعلم، فلماذا لا تعطيني المال وأذهب.
-يا ألف مرحبا بالغالي، خطوة عزيزة يا ولدي، يا وردة، حضري نفسكِ لصنع العشاء، فوالله لن يغادرنا محمد على معدة فارغة.
انتفض على صوت زوجة أبيه الرفيع، الذي يتسلل لأذنه فيثقبها، تصيح بابنتها عندما لمحته مع زوجها، فمال عليه أبيه قائلا
-وربي أمك لها الجنة، يكفيها بأنها ما فزعتني يوما.
يخفض صوته ويقول
-كانت تفزعني أنا بشجارها الدائم معك، هي لم تكن لك من الأساس.
رغم الوضع الساخر الذي يجمعهم دوما بوجود زوجته، إلا أنه تعجب من صدق نبرة ابنه، دوما ما يتسائل عن سبب تحامله على أمه بهذه الطريقة، حتى عند موتها لم يذرف الدمع عليها، موتها الهاديء الذي أفزع الجميع، سيدة في الأربعين من عمرها، تبتلع مجموعة من أقراص المهدئ لتتخلص من حياتها، لم يكن هناك وقت للتساؤل، فقد تكتم على الخبر وابنه، ولم يتناقشا بعدها بخصوص الأمر، وكأن كلا منهما يرفع يده حتي لا يدينه الآخر.
لحظات ونصب العشاء، تتقرب منه بكرسيها تمده بالخبز، وتقرب منه طبق الزيتون، ينقصها وضع قطع الجبن في فمه.
عين والده تتابعه بشرود، فمحمد دوما ما كان التخلي يقضي مضجعه، لا يتمسك بالأشياء، ولا الأشخاص، يعي جيدا بأن كل شيء مفارق، فلا يهتم بتوطيد علاقة بصديق، أو أقارب، أو أشياء.
-فلتبيت ليلتك هنا يا محمد، البرد قارس بالخارج، وربما تمطر.
لم يكن كبني جنسه، أو من هم في سنه، لا يشرب السجائر، ولا يدمن أيا مما يرى ويسمع، يبتعد ويراقب، ويتعلم.
يستمتع باللحظة، فقط اللحظة التي يعيشها بلا تعلق.
-تعلم بأني أحب المطر، أنت لا تقنعني بالمكوث هكذا.
تضحك زوجة أبيه وهي تدفع كتف ابنتها وتقول
-ناوليه كوب العصير يا وردة.
فتناوله إياه، يشعر بالدفء هنا، رغم المحاولات الظاهرة بتوريطه في زواج فاشل كزواج أبيه وأمه، لكنه يسعد بلحظات الإهتمام الزائلة.
وحده يعلم سبب انتحار أمه، لكنه سيظل بصدره، لا يمكن أن يفجع والده بالسبب، وما يقهره أنه لم يستطع مواجهتها بأفعالها، فقط الهجر والمخاصمة، كان يرغب بالانفجار فيها يوم جاءته بأمين الشرطة متهمة إياه بالسرقة.
لقد كان سارقا بالفعل، لكن ما كان بوسعه وهو يستمع لأمه تتمايع مع أحدهم كل يوم ليلا، دمرت أسرتها لأجل آخر، ماتت خائنة، فاجرة، لا تستحق حتى طلب الرحمة من شفتي أبيه.
-حمدا لله.
نفض يديه وذقنه منهيا طعامه وأفكاره، يزيح الكرسي بكفه بتمهل
-شكرا على العشاء، استأذنكم.
تنحنح والده فخطفت زوجته الكلمات
-انتظر أحضر الشاي سريعا، لم العجلة؟
رغم قبح ابنتها، إلا أنه يشعر بالامتنان نحوها، يكفيها أنها تريح والده ولا يشتكي منها، أو ربما والده كتوم، فكل جنسهم مؤلم، ومنهك كلا بطريقته.
يضرب على صدره شاكرا لها، يقترب منه والده يمنحه المال، مربتا على ظهره
-إن احتجت لشيء هاتفني.
يلمح زوجة أبيه توخز ابنتها كي تقوم بتوديعه، فسلم على والده سريعا قبل أن تقترب منه، وفر هاربا.
***
تباعد المسافات بين قطع الأثاث، وتجمع الأشياء القديمة التي خزنًّها لضيق وقتهم في فرزها لرمي الغير مفيد والإحتفاظ بالباقي.
تحب أن ترى كل شيء مكشوف أمامها، لا أكياس مليئة بعلب وزجاجات فارغة تحت كرسي الصالون المتهالك، ولا حقائب من أزل الآزلين لازالت إيمان تحتفظ بهم بحجة أنهم من رائحة والديهم.
-أمينة، هل أرمي هذه؟
تضع فوق حملها حقيبة أخرى
-وتلك.
ثم انحنت تلتقط بعضا من العلب الفارغة التي يعاد تدويرها في وضع توابل، أو تخزين مياة، أو ماشابه.
-نحن لا نبتاع الكثير من التوابل فنتركها في كيسها، والثلاجة صغيرة الحجم يكفي مبردها خزين الخبز لأسبوع واحد، لن نستفاد منهم على الإطلاق، هيا يا أميرة، ضعيهم على الباب لآخذهم وأنا مغادرة ألقيهم في صندوق القمامة القريب.
نفذت أميرة ما طلبته أختها وعندما عادت سألتها وهي تزيح التراب عن الكراسي الخشبية التي فرقتها أمينة منذ قليل
-سيكون الأمر مرهق لكِ يا أمينة، عملين في وقت واحد، لن تجدي الوقت للراحة، كما أنني والحمد لله التحقت بعمل أخيرا.
تنفض الوسائد بيديها بقوة لتزيل التراب الرفيع العالق بأقمشتها
-احمدي الله على موافقتي، فلولا كلمات الخالة فوقية عن ضرورة اعتمادكِ على نفسكِ لما وافقت.
تزم أميرة شفتيها بتذمر
-حمدته وشكرت فضله، وشكرت الخالة فوقية التي أنجزت في جلستين ما جف ريقي وأنا ألح عليه، والله إنها بركتنا.
ردت عليها بحزن
-لولا كبر سنها ومعرفتي بأن الأمر مستحيل، لدعوت لها بالذرية الصالحة.
تنصرف لتغسل وجهها وتترك باب الحمام مفتوح
-لقد كانت نعم العون لنا، يكفي بأنها تهتم بإيمان في غيابنا، ولولا وجودها لما تجرأت على قبول عمل آخر بجانب التمريض.
ناولتها أميرة المنشفة
-الله يعلم بحالنا، ماذا أفعل بتلك الصور؟
جففت وجهها وعلامات الأسى ترتسم فوق وجهها، إنها صور والديها، تلك الصور التي تمنحها القوة في مجابهة الحياة بصعابها من أجل أخواتها.
-اتركيهم كما هم، فإيمان لن تمرر تخلصي من تلك الفوضى، فلنمنحها شيء يسكت تذمرها وتتعلق به.
-لم يكن من الممكن الإحتفاظ بتلك الأشياء، لقد ضيقت الشقة أكثر ما هي ضيقة.
ترتدي ثيابها على عجل، فموعدها قد حان مع صاحبة الشركة..
تقول بتعجل
-ادعي لي يا أميرة، فعاليا تلك صعبة الطباع، ليت قلبها يلين لي وتقبلني.
قبلت وجنة أختها سريعا والتقطت حقيبتها الصغيرة وهي تقول
-لا تنسي احتواء إيمان وتحمل تذمرها فور استيقاظها
***
بمحاذاه الأهرام يسير، تقف بشموخ وإباء يثير دواخله، يحمل هاتفه بشغف مصور تاريخي يبحث عن اللقطة العبقرية التي ستمنحه الرضا، وستجلب له العديد من اللايكات على موقع التواصل الإجتماعي.
ينتظر لحظة غروب، أو شقراء فاتنة تمنح ذاك الأثر التاريخي عصرية وحداثة بشورت ساخن أو كنزة تظهر مفاتنها، أو..
لقد وجدها..ليست لحظة الغروب، إنما الفاتنة.
بنطال جينز وحذاء مرتفع شفاف، بلوزة تظهر رقبتها الصارخة وأكتافها البيضاء التي انزلق فوقها ضوء الشمس على استحياء فلم يماثل ضيها، مؤكدة على حلاوة طقس بلاده شتاء بهيئتها المتخففة.
سلسلة ذهبية تضفي لمعتها على عينيها البنية الواسعة وهي تقترب لتجلس على أحدى درجات الهرم من الخارج.
بينما عطرها المسكر يتسرب إلى رئتيه فيذكره بنسمات الربيع المبهجة.
مكثت دقيقتين كانتا فارقتين في التقاط صورته التي ستشعل مواقع التواصل، وستجلب له العديد من التعليقات التي ستشهره بالتأكيد.
منحته ابتسامة عندما تلاقت أعينهم، فبادلها الابتسامة بانفراجة فم، وبساطة وجه مقتربا منها.
-سالم.
ضحكت ساخرة بداخلها، تهز رأسها دون أن تجيبه، فهي تعرفه جيدا، بل أتت لأجله.
قامت تصافحه بيديها الرخوة، وحالما انفصلت أيديهما، منحته ابتسامة أخرى من شفتيها المكتنزتين.
لتمضي في طريق آخر مدعية اللامبالاة.
لم ينتظر حتى يعود إلى منزله، بل قام بمشاركة الصور عبر حسابه على الفيس بوك فانهالت عليه التعليقات الجريئة من الشباب، أما كبار السن والمتزوجون اكتفوا بلايك لربما يعودوا للصور وقت الحاجة.
ما لفت انتباهه رسالة ممتعضة من عبد الرحمن على الخاص.
-يوم أجازتك تمضيه مع الفتيات، حسنا، لا أجازات بعد اليوم.
يكتب إليه بملل
-بينما يوم أجازتك أنت تتصفح الفيس بوك، حتما هو فارق السن بيننا، فلازلت في عز شبابي وأنت تتجاوز الثلاثين.
-شكرا لتذكيري بسنوات عمري يا سالم، وكذلك أنا أذكرك بمزاد هام غدا، لا تجعل الأجانب يسلبن عقلك.
يرسل إليه صورة خاصة احتفظ بها لنفسه، مقتربا بكاميرته من تلك الشقراء، صورة بشعرها الأصفر يلفحهه الهواء، وعينيها البنية متوهجة بأشعة الشمس
-حتما يسلبن الروح، انظر لتلك، أعتقد أنها أجنبية ملابسها توحي بذلك كما جمالها.
بينما عبد الرحمن يتأمل الصورة ويتمعن في تفاصيلها يكذب نفسه، لازالت الجرأة تسري في عروقها بلبسها الفاضح، ولا زالت نظراتها جريئة يشعر بأنها تجرده من حلمه ورأفته..
لازالت فاتنة، بل تفشت فتنتها اللعينة مع مرور السنين.
يضع كفه على فمه يقطب حاجبيه، يكتم اسمها بداخله
-عاليا!
***
يقف بالخارج يستند على دراجته البخارية، يتابع تلك بنظراته، ويستمع لضحكات هذه لصديقتها، ينظر لمن يغطي شعرها الحجاب، ولمن تركته مسترسلا بلمعانه خلف ظهرها.
الشتاء يزهر روحه، ندف البرد ينشط خلاياه ويمدها بالطاقة، ينهي كوب الشاي الورقي الذي اشتراه من القهوة المجاورة لمحل عمله.
-تفضل يا محمد، العنوان مرفق بالطلب، فقط هاتفهم عند وصولك فالباب مغلق من أسفل.
يضع الطلب في صندوق خلف دراجته، بعد أن قرأ العنوان، يودع هؤلاء الجميلات اللائي يلتففن حوله وهو ينتظر خارج المحل لتوصيل الطلبات.
اعتلى دراجته، يرتدي خوذته، ويتوجه نحو العنوان.
إنه يوم الحب، الشوارع حمراء، مصبوغة بلون الهدايا والورود، الأيادي متعانقة، والوجوه مقتربة من بعضها، يتعجب المعنى، والهدف، وما يرجوه المحبين من تلك المشاعر الباهتة.
لقد كفر بالحب صغيرا مع كل مشكلة تواجه والديه، مع كل ضحكة أصمت أذنيه لأمه وهي تتحدث إلى عشيقها، مع تركها له يواجه ما يواجه من حزن وغضب منها وعليها.
كانت تجنبه دوما المشاكل، تدفعه نحو غرفته عند بادرة أي صراع ستنشأ بينها وبين أبيه، لكنه كان يخاف.
السائل الدافيء على فراشه ليلا كان مرآة خوفه، عادة لازمته حتى البلوغ، لا يعرف كيف ومتى تخلص منها، تبا للصوت العالي والصراخ والنزاعات التي أودت بطفولته إلى الجحيم.
يندفع بين سيارتين بدراجته الرياضية ويزيد سرعته إنجازا للوقت، يلعن يوم الحب الذي زاد من الزحام، متمتا
-هذا ما جنيناه من الحب والميوعة.
***
استوفى الشروط للمشاركة في هذا المزاد، لا يحتاجه لكنه أتى لدراسة عدد من الشخصيات المشاركة، لا بأس من الالتزام بالإجراءات والشروط ودفع المال للتعلم.
لم يستمع لكلمات عبد الرحمن عن أنه هام ولابد أن تكسبه شركتهم، فسيرى ويحدد.
يجلس على كرسية يخفض ساقه عن الأخرى وقد اتخذ وضعية رجل الأعمال صغير السن وسط هؤلاء الرجال الذين عجنتهم الخبرة واستقووا بأموالهم التي تدفع من تحت الطاولة.
يخفض بصره نحو تلك اللائحة التي يحملها، تشمل أسماء الشركات المنافسة، ألقى نظرة استحسان على بعض الأسماء التي جمعه بهم لقاء من قبل سواء دفعوا له للانسحاب أو العكس.
لكن هناك أسماء جديدة، جاء اليوم لدراسة وجوههم وانفعالاتهم
-مرحبا سيد سالم.
يقف يصافح أحدهم بحرارة، فيندفع الآخر في توسل مغلف
-أرجو بأن تكون مشاركة تشخيصية، أنت تعلم كم هي مهمة تلك العملية بالنسبة لي.
يهز سالم رأسه بعملية وهو يقول
-لم أكن أعلم أنك تريد هذا المزاد، لم يزرني وكيل أعمالك.
يقترب من أذنه هامسا
-انسحب ولك ماشئت سيد سالم.
رغم فارق السن بينهم إلا أن الرجل يخشى سالم منذ آخر مزاد لم يعره اهتماما واغتر بصغر سنه وإذا به يرفع السعر حتى انسحب وقد كبده الكثير من الخسائر.
أخرج سالم ورقة من جيبه يكتب فيها شيئا ثم ناوله للرجل الذي تغضنت ملامحه
-هذا كثير؟!
يغلق سالم قلمه ويضعه في جيب سترته الرسمية، ينظر للمشاركين في المزاد بتمعن، يرمي كلماته المهددة بلا اهتمام
-ليس أكثر مما تكبدته من قبل.
يضغط الرجل على أسنانه بغيظ، رغما عنه سيدفع، إن كانت تلك الصفقة غير مهمة بالنسبة لسالم، فهي من أهم الصفقات له بعد خسارات متكررة لشركته.
-سأحول لك المبلغ فور إنتهاء الجلسة.
ثم هم مغادرا فأمسكه سالم من ساعده بحزم
-بل الآن، لازال هناك بعض الوقت حتى يكتمل المشاركين.
يشهد الجميع بصلابته وقوة تعاملاته في السوق، بل ويشهدوا بأنه خلق لصنع المال وزيادته، يعرف أين هو ويزحف كالدود الذي يعرف أماكن العفن فتتسائل من أين أتى؟
يمنحه رقم حسابه البنكي ويغادر الرجل منهمك في تحويل الأموال، في وقت دخول فتاة..امرأة..
هي ذاتها صاحبة أكبر تعليقات حظي بها منذ أنشأ حسابه على الفيس بوك، لكنها اليوم مختلفة، لا يظهر منها سوى شعرها الأصفر المفرود بعبثية فوق كتفها يرتاح بطوله فوق سترتها المحتشمة، وبنطالها المتناسق يخفي سيقانها التي تغزل فيها من قبل.
تعلقت عيون الرجال بها، لم يكن أحدهم مهتم ببدء المزاد لينتهي يوم باكر مكتظ، بل تمنوا تأخر مدير الجلسة ليتطلع إليها الجمع أكثر ويملوا أعينهم منها أكثر.
وليس بأفضل حال منهم وهو يتابع شفتيها المكتنزة يعلوها مرطب شفاه يعكس لونها الوردي.
رفع عينه عنها ومشاعر مبهمة تضربه، وغرائز بوهيمية تسكنه فيسرح بخياله في جمالها الذي رآه كاملا بالأمس.
توجه ببصره نحو مدير الجلسة، يبدو أن العدد اكتمل وهو حتى لم ينتبه للشخصيات التي أتى لدراستها..ينظر نحوها وهي تعلق حقيبتها بطرف الكرسي الذي تجلس عليه..هامسا لنفسه
-إلا شخصية واحدة.
بدأت الإجراءات، وتناوب المشاركين في رفع السعر وهي صامته..
لابد وأنها أتت للتعلم مثله، وربما جاءت لتقبض نصيبها من أحدهم.
لكنه من مراقبتها طوال الوقت، لم يقترب منها أحد.
يستمع لصوت رسالة من هاتفه فيفتحها ليطمئن على نصيبه من صمته وتمرير المزاد للرجل.
وصوت مدير الجلسة أوشك على إعلان اسمه كفائز بها..يلتفت إليه الرجل ليحني سالم رأسه له في ثبات مؤكدا على وصول المال..
بينما تنتهي الجلسة، وقفت تلك الفاتنة تزيد فوق الزيادة، بصوت صلب لا يتناسب مع تلك النعومة المفرطة.
يبدأ الرجل في التعرق ويزيد قليلا، فتزيد هي بجنون ثابت وكأنها اعتادت المشاركة في تلك المزادات.
تنحي شعرها المجنون جانبا وترفع أصبعها وذراعيها تتحدث بإصرار
يهمس في سره وقد تعدت مشاعره المؤشر الطبيعي لرغبته في امرأة وهي تضم شفتيها السفلية بأسنانها
-اوووف
صيحات الرجل هي ما جعلته يستفيق من شروده، يغمض عينيه مستحسنا قدومه اليوم، فلولا حديثه مع عبد الرحمن بالأمس لما أتى.
ابتسامة نصر جعلت عينيها تضيق، وحاجبيها يرتاحان من تلك العقدة التي تلبستها في وقتها الأخير العصيب..
تقف وتحمل حقيبتها لتنهي أوراق المزاد الذي ربحته، بينما الرجل الخاسر يعترض طريقه بقسوة
-أعد إلي المال يا سالم، كما ترى لقد خسرت.
يخفض يده بهدوء عن كتفه
-لست سببا في خسارتك، ولم أضربك على يديك لتدفع لي، هذه نقرة وتلك أخرى.
ثم يتركه مغادرا، يبحث بعينيه عن تلك الجنية التي ظهرت له فجأة واختفت فجأة.
فلم يجد لها أثر.
***
يحتضن الوسادة ويضمها بشدة، لقد كان يوم طويل، والعمل على قدم وساق، فكل المعاتيه الذين لا يحتفلون بالشوارع بعيد الهالووين المسمى بعيد الحب كانوا يحتفلون في منازلهم بطلب وجبات سريعة دلالا للشريكة.
لا يشعر إلا بارتداد أنفاسه الساخنه، وكأن الوسادة لا تتحمل زفيره فترده إليه، ألا لعنة الله على الحب وسيرته.
تنقبض يديه فوق وسادته يتذكرها، قبل طلاقها من أبيه كانت تمنحه حنانا غزيرا يطيب روحه، لكنه ليس كافيا لينسى نهاية قصتها معه.
يبلع ريقه الجاف مع نبضة خافته من قلبه، تخبره بأنه اشتاقها، وكِبره يمنعه حتى بالإسرار بتلك الوحشة دونها.
شعور بالخسارة اكتنف عالمه يوم طلاقها وانفصالها جذريا عن والده، وكأن الكون سقط تحت مقصلة الفناء، ليختفي عالمه الهش بذلك الطلاق.
يقلب جسده للناحية المقابلة للنافذة فيرى الضوء عبر زجاجها، يتذكر آخر ليلة بينهم.
عند دخوله إلى الحمام وجد ثيابها متسخة تفوح منها رائحة نفاذة، ليلتها عادت من الخارج ولم يراها ليفاجئ في الصباح بانتحارها.
لقد كان طفلا حبا في الله، خمسة عشر سنة تفصله عن الطفولة بعام أو اثنين، يرى أمه ميتة، وهو وحده، يواجه الفقد والغضب والفراق، صدمته كانت أكبر من حزنه وقتها، فلم يعي شيئا إلا وصديقتها المقربة تطرق الباب بفزع دون قدوم ابيه، متسائلا عن كيفية معرفتها بالأمر.
نظرات فزعة حدجته بها ولم تتوجه نحوه بالعزاء، أو بالحديث، حتى انتهى العزاء وغادرت في صمت.
يسند ذراعه على جبينه، ياله من عيد حب دميم ليقلب عليه هذه الذكريات
-اللعنة
قالها وهو يقوم من رقدته، مشرعا نافذته، بعد أن أكحل السهاد عينيه.
***
يستند عبد الرحمن إلى سيارته في انتظار خروجه، فناداه من بعد
-سالم.
انتبه إليه فسار نحوه، مذبذب الأفكار حول تلك الفتاة التي ظنها أجنبية.
قال بشرود
-إنها مصرية، تخيل.
قال عبد الرحمن مستفهما
-من تلك؟
-الشقراء، في الصور.
يتابع خروج الرجال من غرفة المزاد فيقول متجاهلا هذا الخرف
-هل رسى علينا المزاد؟
يفتح هاتفه ويقربه من عبد الرحمن
-بل تسلمت تلك الأموال من أحدهم للتنحي عنها
قال بحدة
-لقد اتفقت معك على نيله يا سالم، لابد وأن تلك الشقراء لهتك عن تنفيذ أوامري.
التفت إليه بملامح يتخللها الغضب
-لقد كانت بالداخل تناطح ذلك الرجل لتسرق منه عمله وقد فعلت، لقد رفعتها لسعر لن أدفعه فيها وإن كانت ستربحني الكثير من المال، الصفقة لا تستحق، ثم إنني عائد إليك بربح فيكون هذا جزائي.
يضع يده فوق صدره يهبه التمهل
-من..من تلك التي كانت بالداخل؟
-الأجنبية.
تنهد بنزق وأردف مصححا
-تلك الشقراء التي جمعتني الصور بها، لقد كانت من ضمن المشتركين في المزاد بشركتها، لقد زايدت على الرجل و..
وجده يعيد كلماته فقاطعه
-حسنا، فهمت.
لم يكد يترك لعقله المجال للتفكير وهو يراها على بعد أمتار قليلة تدخل سيارتها، تمنحه نظرة مقصودة، تلوح له بالسلام وهي تحمل نظارتها، ثم تغلق سيارتها وتغادر.
عاليا الرشيد دخلت عالم الأعمال الذي يجمعه وسالم، تزاحمهم في أشغالهم..
هذه المرة سرقت من أحد الشركات صفقته، والمرة القادمة..قد تسحب البساط من تحت أقدامهم.
لقد أصابت سالم ثابت الخطى بالتذبذب والتوتر منذ رآها بالأمس، وأصابته هو برصاصة الإنقباض فتوسطت قلبه، فعاليا الرشيد لا تظهر، إلا وكان إندلاع الجحيم وشيك.
***

بطل الحكايةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن