الفصل الخامس

52 4 0
                                    

تتعلق عينيها بيافطة المتجر الشهير لبيع الحلويات، تدفع بابه وتدخل فتلفحها رائحة الحلوى والمخبوزات الطازجة، مزيج الفواكه التي تزين قطع الكيك، ورائحة الشوكولاتة الذائبة وجوز الهند.
خليط من الروائح أعادتها سنوات للوراء، مصروفها الذي كانت تنفقه على كيك المربى وبسكوت الفراولة.
تتخيل صورة إيمان أمامها تصحبها بين الأرفف تدفعها لاختيار ما تريد.
لهذا السبب أتت، لأجل مفاجئة الصغيرة، ٠لم تنسَ تلك النظرة التي لاحت منها لعلبة الحلوى التي قدمها لهم سالم في سيارته، لقد لاقت استحسانها عندما تذوقت حلواه، كان حتما عليها تلبية نظرة الاحتياج لهذا النوع تحديدا وهذا المذاق.
تود لو تعطيها من روحها وتعوضها ألم الفقد والحرمان من متع الحياة، تذكرتها وهي تتعلق بساق أبيها وبحروف تخرج بمشقة تطالبة بحلواها الخاصة.
ترجع خطوة غير محسوبة للخلف ظنا منها أنها بذلك تسيطر على نفسها وقد تاهت في ذلك المتجر الكبير، الذي على ما يبدو سيلتهم كافة راتبها..
خطوة أخرى مبتعدة لتصطدم بظهر صلب لم يتأثر باصطدامها به، فقط إلتفاتة من رأسه يتفقد بها من مر خلفه.
شهقة بسيطة وأسف من صوت يعرفه جعله يلتفت كليا نحوها
-آسفة..لم أقصد..
قال بوجه ودود متغاضيا عن أسفها
-أمينة..كيف حالكِ؟!
قالت بقلق من ارتفاع نبضاتها، لقد ارتطمت به للتو، لامست ظهره، تنحنحت بحرج فخرج صوتها مبحوح
-بخير..أنا بخير..أنا آسفة.
يهز رأسه بتسامح
-لا عليكِ، لم يحدث شيء، يبدو أني التهيت بجوعي ووقفت في منتصف الطريق، هل تحتاجين لشيء؟
أشار للعامل أن يتبعها حتى يتخذ قراره في شراء ما يريد.
انزوى لركن بعيد مدعيا انتقاء حلواه بينما حقيقة نظراته كانت موجهة نحوها.
تخفض بصرها تشير بخجل لما تريده، تلتقط عينيه عدد ما تختار..
أربعة قطع!
أصابعها خالية من الخواتم..
بنطالها الضيق مغطى بفستان طويل مفتوح من الجانبين وحذاء قريب من الأرض.
لا تستخدم يديها كثيرا ولا تتكلم كثيرا، محددة في طلبها.
مشى نحوها عندما رآها تخرج محفظتها لتدفع ثمن ما اشترت..
حال بينها وبين ذلك، متوجها بصحبة العامل نحو مكان الدفع وقد انتهى من شراء ما يريد.
وقفت تتابع خروج محفظته، عده للمال، تقديمه للمسؤول عن أخذه، تغمض عينيها بإحراج فهي أول مرة تدخل محل فخم كهذا فلا تعلم كيفية التعامل.
يعود بباقي المال لمحفظته بيد بينما الأخرى تحمل العلب متوجها نحوها، يهديها ابتسامة رائقة لتتبعه إلى الخارج ، وقد منحته سترته الزرقاء وشعره المرتب مظهرا جذابا.
رأته اليوم رجل..
بعيد كل البعد عن رجل الأعمال..بعيدا عن الحزم والأمر، جانب إنساني منه يأكل وينفق ويدعم ويعتذر!
وقفت على عتبة المتجر من الخارج، تناوله المال
-سيد عبد الرحمن اعذرني، أنا أملك المال، إنها أول هدية لأخواتي أرجوك دعني أدفع ثمنها.
تابع السير يسألها
-كم عددهم؟
-اثنتين.
قال مشفقا عليها من موت أبيها أو أمها، حتما أحدهم متوفي ليصبح عددهم أربعة.
-أولا ليس بيننا عمل فلا داعي لزيادة لفظة سيد تلك لحديثك، ثانيا امنحيني صفة رجل، وأي رجل سيفعل ما فعلت للتو ولن يترك امرأة يعرفها تخرج مالها أمامه وتقلل من شأنه.
لازالت يدها ممدودة بالمال فتجاهلها مقتربا من سيارته.
تبعته وهي تعيد المال لحقيبتها فهي تعلم جيدا أنها محاولة خاسرة وأنها تضيع وقتها فحسب، تحاول مجادلته
-وهل تدفع لكل امرأة تعرفها؟
اتسعت ابتسامته لينعكس بريق سوداويتيه نحوها، يجيبها بمرح
-في الحقيقة لا تتقاطع طرقي مع أي امرأة، فلم يحدث أن قابلت سيدة بنت عم ربيع في متجر كهذا لأدفع لها، ربما لطيفة ابنة الخالة كوثر، دفعت لها ذات مرة في ميكروباص كانت ذاهبة لمدرستها وأنا لعملي.
عذبة..
ابتسامتها عذبة..
وردية الوجنين..
دافئة الحديث…
لم يراها إلا مرات معدودة وجميعها صدف وكل مرة تثير بداخله شيء لا يعرف مصدره.
يفتح سيارته يضع فيها العلب..
-هيا لأوصلكِ.
انحسرت ابتسامتها، وانقلبت ملامحها الرقيقة
قالت بحسم تدس يديها داخل سيارته تخرج ما يخصها
-شكرا لك سأغادر وحدي، أشكر لك صنيعك حقا لكن لا يصح أن أركب سيارتك وأعرض سمعتي للقيل والقال.
هذه التربية من دواخل حارته الأصيلة  جعلته ينتفض ويقطب حاجبيه، رغم إعجابه بما فعلت إلا أنه شعر بأنها سددت لكمة أعلى بطنه فشعر بالغثيان.
تحركت عينيها بقلق فشعر بأنه أهانها للتو، لقد كان سيدعوها للحديث بالخارج وتناول المخبوزات الساخنة.
-أنا آسف يا أمينة لم أقصد ما فهمتِ، يبدو أنني..
يدس يده داخل سيارته يتخلص من حرجه، يخرج منها علبة اشتراها لها، يضعها فوق ما تحمل
-أربع قطع من الكرواسون الساخن تقبليهم مني واقبلي اعتذاري حقا لم أقصد.
منذ متى لم ترَ من هم في شهامته، لم يغيره عالم الأعمال والطبقة التي أصبح ينتمي لها فإنه إذا ذُكِّر تذكَّر.
وعندما ترفض لا يجادل ولا يبرر.
سؤاله باغتها
-لمن القطعة الرابعة؟
رفعت حاجبيها المتيبسة وانفرج وجهها معربا عن ابتسامة وهي تفهم كلامه، كان يراقبها!
-إنها للخالة فوقية، جارتنا، هي كأمي ترعى إيمان في غيابنا أنا وأميرة.
تقول بمرح وهي تقدم له علبة حلوى مما اشترت فيقول
-لا أحب الحلوى.
لفظته تنافت مع نظرة الإعجاب التي شملها بها كحلوى شهية واحساسه بالشفقة نحوها يتزايد وهو يفطن إلي موت والديها.. كلاهما.
هزت رأسها بتمهل، تتابعه بعينيها يخرج هاتفه يعبث به، وما إن أوشكت على المغادرة استوقفها بإشارة من يده، وحالما أعاد الهاتف لجيبه كانت سيارة حديثة تقترب منهم، دفعها نحوها ونقد السائق المال..
مشيرا بيده دون أن يترك لها فرصة للحديث
-مع السلامة.
استند على سيارته يتناول قطعة مخبوزات من علبته، يتابع اندماج سيارتها مع الركب، حتى بعدت عن عينيه بانتهاءه من طعامه..
يدخل سيارته والأفكار الشهية تذوب داخل رأسه كالسكاكر.
يزداد تعلقه بها يوما بعد يوم، يحصي الساعات ليأتي يوم مواعدتها فوق المقطم ليلا، يستمتع برؤية الأنوار والتجمعات، يستمتع برؤية المحبين ..ويشغله همسات المتزوجين..
التقارب سمة المقطم..والود..والحميمية.
كل من أراد الجموح أتى إليه..
وكل من أراد الخلوة..رحل إليه ..
من أراد الهواء العليل صيفا، ونسمات البرد المنعشة شتاء..فر إليه صاغرا..
-كيف غادرتِ الفيلا في هذا الوقت؟
ترتشف من العصير وتجيبه
-أنا لم أعد بعد
تشم هواء الليل كالمدمنين، هواءه يحيي روحها
-كيف يترككِ طارق هكذا؟
كرمشت وجهها
-كيف هكذا؟
لا يعرف كيف يوصل إليها ما يريد دون أن يجرحها،ألم يكن يعجبه تمردها!
-تخرجين وتعودين متى شئتِ؟
ضحكت عاليا
-هو مجبر على ذلك صدقني.
لم يضحك، يضايقه غموضها، رغم خروجهم المنتظم وحديثهم عن أي شىء وكل شيء إلا أنها تحتفظ بأسرارها لنفسها
يقرب علبة المياة الغازية من فمه ويقول
-لقد سألني عبد الرحمن عنكِ بالأمس، بعد أن شاهد صور تجمعنا على موقع التواصل.
تجمع شعرها بيديها في ناحية واحدة متصنعة عدم الإهتمام
-وما شأنه، هل يسألك عن كل نزهة، يظنك طفل يتطفل على أخباره؟!
ابتسمت بخبث مردفة
-أم يغار عليك مني!
يتفحصها عن قرب، يسكت هذا الهاجس بداخله بأن عاليا تكره عبد الرحمن، بل وتؤجج غضبه عليه كمن يصب على البنزين نار، قال يغالب أفكاره متصنعا المزاح
-ولماذا لا أغار عليه أنا من أمينة؟
اسود وجهها منذرا بجحيم قادم يخرج من حروفها
-خالك يحب أمينة؟!
رفع عينيه إلى السماء بلا مبالاه، يقوس شفتيه لأسفل ويهز رأسه مؤكدا حديثه.
تهز ساقها بعنف وهي تتراجع في كرسيها، تسدعي الكلمات المخطوطة في ذلك التقرير الذي وصلها بلقاءه مع أمينة في محل الحلوى، لم يكن عبثا؟!، لقد كذبت نفسها وهي تراهن على رجاحة كفتي المال والجمال لديها فلم تنتبه إلى أن النفس تميل لمن يشبهها وتألفها، وأمينة قد يألفها عبد الرحمن، لقد خانها ذكائها هذه المرة واستهانت بذرة رمل أوشكت أن تفقدها بصرها.
-هو يريد أمينة اذن..  
قال بقرب خطير
-وأنا أريدكِ أنتِ يا عاليا
قالت بنبرة أودعتها غضبها
-أنا لست لأحد يا سالم.
أذابته بانحناءة رأسها وانطلاق شعرها، يذوب مع ذلك العرق الذي يتوسط جبهتها بخضاره الملائم لبياضها الناصع، وكيف لايريد هذا الجمال البري!
كالفرس هي منطلقة، لا يستوقفها شيء.
تلفحها رائحة الباميا الشهية حالما دخلت إلى المنزل، ما بالها اليوم تعول على أنفها في معرفة الأشياء، تقترب منها إيمان تختطف العلب من يديها تقفز ببهجة صاخبة.
فتمنحها أمينة العلب برضا، وعائدها المعنوي بسعادتها قد فاض حدود قلبها وأسواره.
تتفقدها بسعادة غامرة مربتة على شعرها بحنان، بينما الأخيرة لم تهتم بموعد غداء ولم تتقيد بأن تلك الحلوى التي تلتهمها بعدها صحن باميا بالليمون والشطة، فقد عميت مراكز الإحساس لديها حالما نالت ما تريد.
تستمتع بدغدغة جوز الهند لأسنانها، وذلك الصوت الصادر عن مضغها له يمنحها الانتشاء بالتلذذ.
هو من عرّّفها تلك المتعة مع أول كرة شوكولاتة تناولتها من علبته، فلم تفتأ أن نالت الأخرى، ولولا النظرة التي منحها لها وفسرتها على أنها ستنهي علبته لإلتقطت الثالثة.
نهرها بنظرته التي أرخاها لها برأفة لم تزعجها وشفقة أحبتها طالما ستحوز هذا الطعم المغري الذي شغل كيانها.
تتذكر نظراته المتلصصة نحوها عبر المرآة، عين على الطريق والأخرى فوقها، منحها إبتسامة مترددة بنظرات متفحصة يختلسها من بين رموشه فتدعي انشغالها بمافي يديها، لم يشغله الزحام وطول الطريق محسنا لضيافتهم في سيارته..
قاطعت أمينة أفكارها وهي تراها تتذمر
-يبدو أن غرف الطعام اليوم مهمتي، حسنا..دقائق وتصل أميرة المتعجلة التي ستفعل مثلكِ فمن الأفضل أن تأتي والطعام جاهز.
تركت حقيبتها متوجهة للمطبخ..
بين الأواني صورته المرحة وهو يتحدث عن ابنة كوثر والميكروباص، ومع لمعة السكين تظهر صورته وهو يسألها عن القطعة الرابعة..
تقطع الليمون فتنحسر صورته ليتجلى ظلا في الملعقة التي تناولتها لتتذوق الصلصة..
منذ متى لم تستند على ظهر صلب مثله، لقد اختبرت ظهره حرفيا اليوم، شعرت بخجل من تذكرها ملامسته بالخطأ.
منذ متى لم ينفق أحدهم قرش لأجلها لو استثنت أسماء صديقتها في النوبتجية الليلية التي تدفع لها ثمن شطائر الفول ليوم فتردها أمينة في النوبتجية التالية.
لقد دفع لها، بل وأهداها..
إشترى شيئا خصيصا لها..
تملأ صدرها برائحة الباميا والسعادة تغمرها رضا باكتفائها ماديا..
وسعادة أخرى هو مصدرها وهو يدفع عنها أجرة السيارة..لا تستطيع نسيان حلاوته، ولا كفه الرحب وهو يودعها.
منذ متى وهي حالمة لهذه الدرجة، دوما ما تنعت نفسها بالواقعية حد الألم، أما اليوم..فتمنح لنفسها حبلا رفيعا تسير فوقه برشاقة مرتدية لبس راقصات البالية، مغمضة عينيها تتخيل رقصها الأنيق بسعادة..
مهلا..راقصات بالية، تسقط بنظرها إلى جسدها وتهمس
-لا أعتقد انه مناسب لتلك الرقصة.
-أنا جااااائعة.
صرخات أميرة بالخارج جعلتها تجمع الأطباق سريعا وتخرج  قبل أن تلتهمهم أميرة بصوتها..

بطل الحكايةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن