الفصل التاسع

57 3 0
                                    

يراجع أوراق الحسابات لهذا الشهر، ينهي أوراقه، ويلملم متعلقاته من مكتبه..
يخرج ليصطدم كتفه بكتف خاله فلم يتوقف عن طريقه، ولم يلتفت إليه حتى..
يدخل المصعد وملامحه البشوشة تحولت للصرامة وكأنه لم يضحك أبدا.
سالم الذي يسخر من كل شيء وأي شيء..العابث..الغير مراعي لأحد..
بمزاج أسود، بملامح جامدة ساخطة على الكون..
يعترض على شروق الشمس ويتمنى لو ساد الليل بظلامه..
يعترض على الضحك ليستولي الحزن على مقاليد الأمور..
ينحي العمل والجد والاجتهاد، ليتسلم الفشل القيادة..وغواية الاسترخاء تسود.
يصل إلى المرآب، يضع ما يحمل داخل سيارته، وينطلق.
عاليا ..هالة السعادة في يومه انتهت..
من كان يستيقظ لأجلها، يرتب للنزهات معها، يحيك القصص للحديث معها قبل كل لقاء..انتهت، وخرجت من حياته بلا رجعه.
غير شعور الملل الذي يرافقه..
هناك شعور بغيض بالانتقام يسيطر عليه..استبدل كل المشاغل بفراغ الانتقام..
يتفادى سيارة في طريقه..
لقد طلبت منه إعداد سيارة خاصة بها لتشترك في السباق الذي سيقام العام المقبل..سيارة يقوم باختيار آلياتها بتناسب مع السباق..خفة وثبات على الطريق، سرعة..كماليات وموتور قوي..
يضرب المقود بعنف..
لقد انقاد لها كدمية خاوية لتتلاعب بها..
لقد أحبها بكل حواسه فاستبدلته بمن هو أكبر وأغنى، كعادة النساء اللاتي يبحثن عن فرص..
يهديء من سرعته وهو يقترب من حارته التي لن تمر سيارته عبرها..فيركن بالقرب منها..يصفع بابها بعنف تاركا كل الأوراق بها، ليس بمزاج لمراجعة أي شيء حتى ولو حقوقه..
يسير نحو ضوضاءه..
يركل الكرة التي اصطدمت بركبته إلى ذلك الصبي على اليسار بملل..يعلق تفكيره في عاليا بتساؤلات أخيرة..
هل عاليا ككل النساء تبحث عن الفرصة..؟
وما هي فرصتها في عبد الرحمن؟
***
تمسك بورقة بحجم عقلة أصبعها، مطوية بحرفية، تقوم بإدخالها بطريقة معاكسة لورقة أخرى تماثلها..
منذ تعلمت فن الاوريجامي وهي تشعر بإفراغ شحنات سلبية كبيرة عن مخها..تبدل بين هوايتها تلك..واليوجا..لاستعادة صفائها الذهني..كانت تعمل على هذه الأوزة منذ أشهر..
واقترن اكتمالها، باكتمال خطتها بالزواج من عبد الرحمن..واليوم..يوم الحنة..أي أنها ساعات قليلة تفصلها عنه ليصبح زوجا لها.
تقوم بوضع الأقماع الورقية داخل بعضها بطريقة هندسية لينتهي الشكل وتبدو كتحفة فنية ورقية..
تتأنى في حركتها..لتحصل على الشكل الذي تريده..
كما تأنت في دراسة شخصية عبد الرحمن جيدا لتعلم ردود أفعاله..
قرأت في كتب لغة الجسد، عن الفراسة وبدأت في تعلم أصولها..إلا أنها لازالت تخطيء في الكثير من الأحيان معه..
ليست تدري هل العيب في الكتب النظرية، أم في عبد الرحمن الذي يشكل ظاهرة فريدة بذاته!
تضع القمع الأصفر على وجه الأوزة، الذي يختلف كليا عن لونها الابيض..لتضحك بفرح طفولي، تحركها يمينا ويسارا فوق مكتبها بغرفة نومها..
الذي لازال يحمل ألوانها، وأوراقها البيضاء، وكراسات التلوين التي عمدت في استخدامها في أول مراحل علاجها كطفلة..
تسخر من نفسها على لفظ طفلة، منذ متى كانت؟
لا تسمح لأفكارها بالتنغيص عليها سعادتها، فتهز رأسها لتبعدها.
لقد انزعجت من رؤية أمينة على هذا الحال، لكنها لا تستطيع إنكار سعادتها بالفوز به منها، هي من قاتلت لأجله، هي من ثابرت وتحلت بالحكمة لنيله، أما أمينة فقد ترقرقت عينيها بدموع باهتة لفراقه، هي لا تستحقه بالتأكيد.
ترى خلود وهي تدخل وفي يدها فتاتين خبيرتين في رسم الحناء..
-هيا يا عالية..، استعدي واتركي نفسكِ للفتيات.
أخرجت إحداهن هاتفها تعرض عليها الصور التي اشتغلنها من قبل..
فلم يعجبها شيء..
صورة حناء كإسورة تلف الذراع من أعلى..
وأخرى رقيقة فوق إحدى النهدين..على الكفوف..الأرجل ..
تهز رأسها نفيا، لا يعجبها شيء..فأسقطت خلود كتف بلوزتها وتقول
-ما رأيكِ في هذا؟
تشير برأسها باسف..فقالت خلود
-لقد أتين لأجلكِ يا عاليا، كيف أرسم أنا وأنتِ لا!
تمط شفتيها بملل، تفكر قليلا
-حسنا..أريد كلمة ما..هل يمكنكن كتابتها هنا؟
قرنت فعلتها وهي تقف تزيح بنطالها لأسفل، تشير أسفل بطنها.
تعلقت أعينهن بها، وكذلك خلود وقد ألجمتها الفعلة..
والبنات ينتظرن الكلمة، هو عملهن..وأحيانا ما يخضعن لطلبات أكثر إثارة من ذلك..
غضت خلود بصرها عنها تخرج لتتركهم على راحتهم..خائفة من جرأتها..لربما نفرت عبد الرحمن منها دون قصد.
***
تمشي نحو غرفتها إلى أن اصطدمت بطارق، الذي حاوطها بذراعيه، فتندفع نحوه تلف يديها حول عنقه..تدفن مخاوفها
-فيم تشردين؟
تمسك كفه لتدخل غرفتهم..
-لا شيء..
يشير برأسه نحو غرفة عاليا
-هل حدث شيء؟
-لا..الفتيات لديها ليرسمن الحنة لها.
يشاكسها
-ونصيبي منها؟
تضحك وقد أنستها مشاغبته ما حدث، تخرج كتفها من بلوزتها
-هذا.
يقول بعنجهية
-هذا فقط؟
تفتح بلوزتها قليلا تريه نقش آخر أعلى صدرها
-وهذا.
يتأوه، يحاول لمسه، يمسك بطرف بلوزتها يحاول نزعها
-دعيني أراهم جميعا وأحكم على مهل.
تضرب كفه
-لا يوجد شيء آخر.
-كاذبة..
يتبع قوله بالعبث بها
-ابحثي هنا، أو هنا يا خلود، لا تغضبيني.
هل جن!، أم أنه يظن بأنها ستفعل مثل عاليا وتعري نفسها للفتيات ليرسمن فوق جسدها
تهمس له تشير إلى بطنها
-عاليا سترسم شيء هنا.
يعطيها ظهره يشرع في تبديل ثيابه
-تعلمي منها، محظوظ عبد الرحمن هذا.
تساعده في تحضير ملابسه، وتقول بقلق
-أنا خائفة من جرأتها يا طارق.
انتبه لما تقول..يلتفت إليها فيرى قلقها واضحا
-أخشى أن ينفر من جرأتها..نحن حتى الآن لا نعرف هل تخلصت من مازوشيتها أم ماذا؟
أجابها شاردا
-لقد أخبرني عبد الرحمن بأنه يعرف كل شيء عنها، ولا بد وأنه مقدر ما عانته يا خلود، أرجوكِ حبيبتي لا تقلقيني أكثر، ولا تحمليني فوق طاقتي، أنا متعب..أتناسى بالعمل..والقرب منكِ، لكني خائف..أكثر منكِ يا خلود..،أنا بحاجة لمن يطمئنني الآن ويخبرني بأنه يحبها ويريدها لأنها ..لأنها..
هو لا يجد حسنة وحيدة في أخته تحض عبد الرحمن للزواج منها..جامحة، تسابق السيارات، معطوبة، مازوشية..
لقد ضغط على وتر حبها، فدفعتها رأفتها به لضمه إلى صدرها، تعلم ما يحمله وما يقلقه، لكن لا بديل..حتى وإن طلقها عبد الرحمن فستطمر فضيحتها للأبد..بأنها كانت متزوجة..
أنفاسه الباردة تلفح صدرها
-أعلم أن عبد الرحمن يجب أن ينال شفقتنا جميعا ودعمنا، لكني أجده رجلا يعتمد عليه..هو من أتى وحده يا خلود..لطلبها.
تعقل كلماته..هكذا يقنعها..فما الذي فك عقدته هو "طارق" إلا الحب
-ربما انحلت عقدتها هي الأخرى به يا خلود.
يعمل على قراءة أفكارها منذ تعرفت عليه..اقنعها..واخرسها..
فهي خير من يثق في الحب..أنه يثمر..ويغير..يمنح الامل ..كل الأمل.
***
اليوم زفافه، على عاليا، تضع ظلال العيون بيديها بلون يتناسب مع سواد ثوبها، صحيح أنه لامع ببريق فضي يسحر من ينظر إليها رغم إحتشامه، إلا أنه لازال يحتفظ بقتامة لونه.
حجاب فضي بذات اللمعة فوق فستانها، أضاف لبشرتها البيضاء نقاء مضاعف، وشفافية ناعمة، أحمر شفاه بلون فاتح يزيدها سحرا.
فتخرج من أمام المرآة وكأنها عروس، وحده من يعلم جرحها هو من سيقرأ صورتها جيدا.
اليوم سيبتعد، لن تفكر فيه وإلا ستعد خائنة، سارقة، مذنبة.
أخواتها يطرقن بابها، وقد تزيَّن مثلها، فكانت أميرة كالأميرات في ثوبها الذي لا يرتبط بمناسبة واحدة، بزينة وجه أبرزت وجنتيها، وملمع خفيف أظهر استواء أسنانها وصغرهم، حجابها الذي يحكي احتشامها وقد اقتنعت بكلام  أمينة والخالة فوقية عن ضرورة حجب شعرها الذهبي عن الأعين منذ فترة.
تتعلق عينيها بحزن أختها التي أغلقت على نفسها وأوصدت باب قلبها فلم تبوح بما تشعر كعادتها، انطفأت بعد توهج أيام دخلها عبد الرحمن. 
-لا أريد الذهاب، كيف نذهب إلى فرح هذا الوغد الذي وعد ولم يوفي؟!
تستدير إليها أمينة وبريقها السائل يتجمع بحدقتيها حزنا وضيق
-أجل، سنذهب.
-حقا نحن ذاهبون لتهنئته على خذلانه لكِ، اذهبي أنتِ وصافحيه وهنئيه يا أمينة إن شئتِ.
انفلتت دموعها بسواد زينتها، تشهق بوجع أمامهم دون أي حديث.
رق قلب أميرة لها، تقترب منها بوجل معتذرة عن فظاظتها
-أنا آسفة، لم أستطع مسك لساني وأنا أكن له هذا البغض، لم أرد أن أجرحكِ ولا أن أجدد جراحكِ، آسفة، سامحيني يا أمينة .
تربت على كتفها وإيمان تقبل وجنتيها في صمت وهي تشعر بتوتر الموقف.
لحظات وهدأت لتنزع حجابها لتعدله، وترتب لها أميرة زينتها التي فسدت، لتبدو أجمل من ذي قبل.
تعلقت إيمان بيد أميرة وقد اقترضت زينتها بالكامل، ورغم ذلك لم تتطابق ملامحهن.
فبدت بعينيها الناطقة حية، وحاجبيها الثقيلين المنمقين كلوحة محكمة التفاصيل، يخط عينيها الكحل، وشفتيها بدت طبيعية  شغوفة.
يطالعنها بشفقة صامتة، وحدها التربيتات الحانية، والاحتواء المبالغ فيه، ضمتهم بين يديها ليتوجهن إلى الخارج، فتصلي وتسلم الخالة فوقية، التي لولا عدم معرفتها للعرسان لذهبت معهن.
تودعهن بعين باردة، تقرأ المعوذات، وتدعو لهن بالحفظ والستر
رغم حزن عيني أمينة إلا أنها كالبدر يوم تمامه، تحمد الله أنه لم يتركها بعد زواحه منها هذا النذل عبد الرحمن، ولولا تماسكها الآن لما وافقت على حضورها فرحه هذا اللعين. 
***
زغاريد آلية تنطلق عبر مكبرات الصوت في القاعة الفخمة، فقد صدقت وأنفقت لأجله الغالي والنفيس.
تعانق ذراعه متمسكة به بتملك، تخشى هروبه منها رغم إتيانه منذ دقائق لاصطحابها طوعا، صوت الموسيقى يلامس جنونها فيجعلها تتمايل بسعادة، تهز جسده المشدود باهتزازها.
يسير بخطى ثابته نحو الساحة الكبيرة ليتجمع كل ثنائي حولهم، فتدفعهم الموسيقى إلى الرقص الهادئ.
اختارت فستان أبيض ضيق حتى نهايته، كي لا يعيقها وقد ألصقت جسدها به، تفتح أزرار سترته بخبث، تتسلل بأصابعها أسفلها نحو ظهره، ثم بسطت كفها عليه تتحسس عظامه وتعدهم واحدة تلو الأخرى
-ماذا تفعلين؟!
صوته المتحشرج من صمته الطويل لامس قلبها، تعشق خشونته وحدته معها
-أرقص!
يشعر بجسدها الذي لا يفصله عنها سوى قماش بذلته وفستانها الضيق، يشعر بليونة جسدها المتمايل، جريئة حد السفور، يضم خصرها بقوة بساعده يكاد يزهق أنفاسها من قوته، مغتاظ مما تفعل
-توقفي عن هذا العبث.
تقرب خدها شديد النعومة من وجهه، تتمسح في ذقنه الخشنة بقوة احمرت معها وجنتيها دون أن تشعر.
تعرف بأنه سيبتعد عنها فور توقف الموسيقى، إنها لحظات قليلة تستمد منه دفء يشحن قلبها لتكمل ما بدأته معه.
تقرب أنفها من مقدمة قميصه، تشم جانب عنقه متأوهه..
-لحظات العبث تلك ما تبقيني على قيد الحياة، أنا أحبك يا عبد الرحمن.
يحمد الله أنه لا يراها، يكفي أنها بين ذراعيه، يريد أن يطبقهما حولها لتلفظ أنفاسها ويرتاح
-أسلوب رخيص للتقرب مني أمام الناس، تضغطين علي، لكن يكفيني أنكِ تعلمين جيدا أني أكرهكِ، وأكره الهواء الذي يجمعنا الآن.
-لقد رددت لك أموالك التي خسرتها، وتوقفت عن فعل كل ما يضايقك، لماذا تكرهني إلى هذا الحد؟
يجيبها ببرود فرضه على صوته القاتم
-بل..لماذا أحبكِ، امنحنيني سبب واحد يجعلني افعل.
-سأمنحك فيما بعد أسبابا كثيرة، ليس الآن.
يضحك ساخرا من ثقتها في نفسها وخلطها للأمور، يسحق خصرها بدلا من أسنانه وهو يقول بغضب
-هناك بعض الديون لن تستوفيها مهما فعلتِ، جعلي نذل في نظر من أحببت، وديوث في نظر ابن أختي، أخبريني يا عاليا كيف ستصلحي تلك الأمور، كيف ستحسني صورتي أمام الناس وأنا في نظرهم جميعا شبه رجل.
يدوس على قدميها بقصد متعللا بجهله لتلك الرقصات
-إن كان هناك باقي مخططات لسرقة قلبي فأرجوكِ لا تحاولي حتى، فكرهي لكِ ملأ أركانه.
لازالت تمسد ظهره بامتلاك، وكلماته لا تزيدها إلا حبا وإذلالا.
تملأ رئتيها برائحته، وأصابعها بصلابته، تنزل بيدها نحو خصره تذوب مع حركته الراقصة، رغم قسوة حركاته وكلماته إلا أنها في عالم آخر لطالما حلمت به وبخطواته.
فليدعي كرهها كيفما شاء، وحدها تعلم كيف ستخضعه لها وتريق رجولته التي يتشدق بها أمامها الآن .
-قربني منك أكثر.
التقت عينيه بعيني أمينة في استدارته، تنفلت منه خفقاته وهو يراها بهذا الفستان الأسود فحققت أمنيته مع عاليا التي تتلحف بالبياض، الأمر معكوس وهو في المنتصف بقلب نازف حالما رآها، لماذا لم يمنحها الكآبة بلونه الباهت، بينما حجابها الفاتن وبياضها المشرق لم يستطيعا إخفاء حزن عينيها الذي ينهره على ما يفعل، وموج من الأسئلة يعصف به
كيف أتت إلى الحفل؟، هل أقلتها سيارة أجرة، حتما لم تأتِ مشيا على قدميها، يشتم في سره لخسارتها الكثير من المال لتبدو بهذا الثبات، والجمال.
فعل ما طلبته عاليا كي لا يبدو كالأحمق أمام الجميع..يكفيه حمق واحد داخلي يقتله..
-ارفعني عن الأرض ودر بي.
-لن يحدث.
تلامس مؤخرة عنقه بأصابعها، ترفع وجهها إليه بهدوء..يتنفس شذاها بغيظ..فكرر
-لن يحدث يا عاليا..لن احملكِ وألف بكِ كعاشق فاز بأميرته..لأنكِ لستِ أميرة.
على قدر ثقل كلماته، على قدر سماكة جلدها..
ابتلعت إهانتها ولم تكرر حديثها معه..إلى أن انتهت الرقصة.
***
يراقب سالم كل شيء..قربهم ..همساتهم
يرى بريق عينيها من مكانه وهو يلامس قدميها..
عاليا تحبه..كيف لم يلاحظ تلك الشرارات..هل حقا عاليا ليست بكر؟..هي من دفعته للزواج منها رغما عنه ..
يشعر بغباء منقطع النظير وهو يحسم حربا ضروس للإتيان إلى هنا.
كان يريد أن يرى..
أن يشحن بغضه وحقده نحوهم فيسن أسلحته للانتقام.
يهم بالمغادرة من على أعتاب القاعة..
يصطدم ب..أمينة..التي تجذب معها فتاتان ما يميزهما البراءة التي لا تليق بهذا المكان..
يدوس بحذاءه على طرف فستان إحداهن دون قصد فتنظر إليه بغضب وكأنه أهانها..
فيسمع صوت أمينة من جهة اليمين
سالم..كيف حالك..لماذا تغادر مبكرا-
غمامة رفيعة من الدموع تلف بياض عينيه..لكزته إيمان بعنف مشيرة نحو فستانها ويديها تعصف بإشارات عصبية أمام وجهه، وسالم لا يعي أيا مما يحدث حوله
سالم..عذرا ..الفستان-
فيخفض بصره تائها ..يرفع قدمه عن فستان أختها ..ودون حديث بتقطيبة حاجبيه..غادر..
تقول بهدوء لإيمان التي انحنت تنظف فستانها..
لم يحدث شيء  يا إيمان..لم يتسخ. –
لتجذب أختيها وتدخل إلى قاعة العرس..
تراه يعانق كفها في رقصة بطيئة..ساعدت خافقها على التجمد..وانحباس أنفاسها بداخل صدرها..
انسلت اختيها من جانبها..يخترن طاولة فارغة لينتظروها..بينما هي تتابع بتعب انجذاب اجسادهم ..وتناغم حركتهم..
كانت تعلم بأنها ستحترق غيرة عليه..
لكن الإعتذار عن حضور فرحه لم يكن متاح..خاصة أنها أتت بدعوتين من عاليا وخلود..فاحتمت بأخواتها وأتت بصحبتهن لتواجه مشاعرها الصاخبة نحوه..بمشاعر الأمومة نحوهن.
تتذكر حديثها الباهب، وعينيها الحادة تخبرها
-هذه دعوتكِ يا أمينة، حتما سأنتظركِ، لا تنسي نقل الأوراق والمعاملات لشركة عبد الرحمن، فهو يصر على عدم تسريح أحد العاملين عندي، كما تعلمين أني سأترك العمل لأتفرغ لزواجي.
تتذكر جيدا النيران التي اشتعلت بأحشائها وهي تدير لها ظهرها بكبرياء أخرسها فلم ترد بموافقة أو رفض.
تكره غطرستها وتملكها وهي  تفرض عليها ما تريد.
تجلس في محاولة للسيطرة على مشاعرها المتقدة، تتشاغل بعينيها بأجواء العرس.
بينما وقعت عيني أميرة على العروس فتسارعت أنفاسها غضبا، إنها الفتاة التي أتت لتصحب محمد، اتسعت عينيها كثيرا وهي تتذكرها ذلك اليوم بملابس رياضية، اختلفت  عن هيئتها كثيرا اليوم لكنها هي.
هل تخدع عبد الرحمن أم محمد!
تهز رأسها بتوتر ملحوظ، تحاول التغلب على عبوس وجهها.
تسب نفسها بسبب تجاهله المتقصد لها.
الآن تحاول ربط الأحداث، من الذي ضربه، ربما عبد الرحمن دفاعا عن خطيبته!
اغلق الباب بعنف خلفهم، وملائكية هيئتها تصيبه بالجنون، تلك الآثمة أمامه تتلحف بالأبيض بينما النقية الأخرى ترتدي السواد معلنة الحداد الذي يحاوط أسوار قلبها.
***
-ما تلك الجراءة أمام الناس؟!
تكمل سيرها إلى غرفة النوم، تمسك حقيبة صغيرة وضعت فوق السرير ولا تجيبه.
فيسير خلفها بثورة عارمة
-أنتِ لا حد لوقاحتكِ أقسم بربي.
تخرج ملابس شفافة من تلك الحقيبة وتهم بفتح سحابها لتخلع فستاتها أمامه، فأمسكها بقوة وصوته يخرج من جحيم قلبه
-هل ستقومين بإغوائي كما فعلتِ في الحفل.
تقرب وجهها من وجهه تسيطر على ألم كتفها تحت وطأته
-أنا قبَّلت زوجي.
-أمام الجميع!
-وماذا في ذلك؟
-تعلمين جيدا ما أقصد..
قالت بميوعة تلفح أنفاسها وجهه
-أه، تقصد أمينة؟!
اهتزت مقلتيه ببؤس متهالك أمام كلماتها فلم تمنحه هدنة ولا فرصة للحديث
-لازلت تحسب لها حساب، لقد انتهينا يا عبد الرحمن، انا قبلت بوجودها في مقابل أن أحظى بك.
يعلو صدره بغيظه غير قادر على الرد، هي تفقده صوابه، هكذا كانت الصفقة وهكذا وافق.
تشعر بالراحة من تردده، وصمته يؤازرها في صدق حدسها، هي ستزعزع أمانه وتهد أسواره، كلما عاد عادت وليس هناك نهاية لإغلاق القوس.
نفض يده عنها بعنف ما بداخله.
يستدير عنها نحو الباب، يخرج ويصفعه خلفه، تاركا إياها في تلك الليلة المشؤومة بمفردها.
***
يمسح وجهه بكفه بتعب، لقد استنزف تلك الليلة كثيرا مدعيا الثبات والصلابة بينما قلبه يلفظ أنفاسه الأخيرة مع كل نظرة من عين أمينة المنهزمة أمامه، كرِه ضعفه أمامها وهو يترك نفسه لعاليا تفعل به ما تشاء.
لم يرضها الالتصاق به لتخبر الجميع أنها تزوجت ممن مال له قلبها، بل أتمت الزفاف بقبلة من شفتيه شهقت لها أمينة وغضت بصرها بحياء عنهما.
يمسح شفتيه بقرف يزيل عنها قبلتها الفجة، هي لا تخجل، لقد أثارت غيظه اليوم بأقسى الطرق وأخزاها.
يضرب على الكرسي الخرساني جواره، وقد خلا الطريق من المارة في ذلك الوقت.
لماذا لم يدفعها عنه؟!
لماذا لم يصفعها على هذه الجرعة المكثفة من العبث؟!
لقد رأته؟!
يمسح على شعره يفسد تصفيفه اللعين..
أمينة رأته؟!
يعلم ذلك..
لقد رأى ارتجافتها!
لقد شاهد من تلك المسافة دموعها المتلألأة تحت الأضواء؟
لقد غادرت بخجل وكسرة هو السبب فيها..
يزفر أنفاسه المشتعلة بقوة علها لا تحرقه.
يقف متوجها نحو سيارته عائدا لمنزله، فلا مكان له غيره، حتى سالم لن يستطيع المرور من تحت منزله.
دخل شقته ليواجهه الظلام، توجه إلى غرفته متعبا دون أن يبحث عنها، متمنيا هروبها أو عودتها لأخيها.
يبدل ثيابه في الضوء الخافت ويلقي بجسده فوق السرير، يقذف تلك الحقيبة لتصطدم بباب الغرفة بصخب.
يراقب دخولها غرفته بنصف عين، هي لم تنم، وهو سينام في سريره ولو شاءت هي فلتذهب إلى الجحيم، هو لن يضحي براحته لأجلها.
لحظات مرت فاستسلم إلى النوم مستعينا به على قهر قلبه.
لم يشعر بانخفاض سريره، ولا باندساسها جواره وتعلق عينيها به..حتى استسلمت هي الأخرى إلى النوم.
***
يعبث بهاتفه وهو مستلق على سريره، وشر مستطير يحلق حوله، يرتب الأفكار برأسه، نقطة ضعف عبد الرحمن الآن هي أمينة، وستكون الضربة موجهه لها، ليس هي بالضبط لكن لأصغر أخواتها.
التي بمراقبة بسيطة، شغل وقته الفارغ بها، علم أنها صاحبة عاهة تعيقها من السمع أو الحديث.
لقد رآها ترتاد مدرسة للصم والبكم، وبحيلة بسيطة حصل على رقم هاتفها.
يحاول أن يكون مؤدب كما خطط وهو يراسلها
-كيف حالك يا إيما؟موجودة؟
وصلتها رسالته ورأتها، تدفع بشعرها الثقيل إلى الخلف لتتمكن من رؤية ما يرسله جيدا
-أردت الاطمئنان عليكم، هل تحتجن لشيء؟
رسالة من رقم غريب، تفحصت الصورة..عرفته جيدا فهو ذلك الرجل الذي أوصلهم من قبل وأيضا دهس فستانها بالأمس القريب..
ورغم تعرفها عليه لم تجبه، يعلم بأنها ترى رسائله، لن ييئس من تجاهلها فستكون هي سلاحه وعليه التحلي بالصبر.
يعلم جيدا أنها لن تنجذب نحوه بمراسلة عامة على تطبيق الواتس، إنما عليه توطيدها بأشياء أخرى
تراه ينسحب من التطبيق، متسائلة عن سبب رسالته، لماذا لم يرسلها لأمينة، ومن أين حصل على رقمها؟
***
جاء مبكرا عن موعد عمله، قبل انتهاء الدوام الصباحي ليراها وهي تغادر المصعد بينما هو في انتظاره، وقف ليصافحه زملاؤه، وفعلت مثلهم
-كيف حالك يا محمد؟
يرد باقتضاب حاد
-بخير.
لا يعلم كيف خرج صوته حادا هكذا، ولم يعي أثره إلا وقد شاهد الحزن على وجهها.
لقد أتى مبكرا ليراها حبا في الله، ماذا يفعل؟
انطفاء بنيتيها، وزمة شفتيها كانت خير دليل على فظاظته، لماذا مسحت الرسائل وقد علمت أنه رآها؟
لابد وأنها شعرت بتأنيب الضمير
-كيف أنتِ؟
رفعت عينيها نحوه، تقذفه بلهفة الشوق، ممنونة لاهتمامه
-أنا بخير، آسفة لو كنت أزعجتك برسائلي، رغبت الاطمئنان عليك.
-لم تزعجيني يا أميرة، أنا فقط شعرت بالتشوش من فعلتكِ، بت لا أفهمكِ حقا.
لم ينتبها بأنهم لازالوا أمام المصعد، فاعتذرت مغادرة تلاحقها كلماته
-ليتكِ تجيبيني ليلا، سأراسلكِ.
ابتسامة نابضة تسللت لشفتيها لم تواجهه بها وهي تعطيه ظهرها ولا تجيبه.
تغير مزاجه برؤيتها، يفتقدها في الحقيقة أكثر من أي شيء.
يتوجه نحو عمله، يعد الساعات، يتحرى الوقت الذي سيعود فيه إلى منزله.
ليلا، مع دقات منتصف الليل، كان قد أعد كوب من السحلب الساخن يدفئ به يديه، وهو يكتب لها
-مستيقظة؟
فتجيبه سريعا
-أجل..
لا يضع لنفسه قيد في الحديث معها، وقد توصل إلى أنه لا يهتم لتوعد هذا الضخم، ولن ينفذ كلمات عاليا بالابتعاد، هو سيقترب، وليرى إلى ماذا سيصل، تساؤلات نحوها، ومشاعر يحملها، ولابد له من تفسير.
-لقد أتيت اليوم باكرا لأراكِ
اختلجت أنفاسها بتعبير جديد عنها، ترفع الغطاء حتى رأسها فلا تثير ضجة حولها وهي تحدثه.
-أنت  لم تجب علي عندما تحدثت إليك
-أخبرتكِ بأني محتار من ردود أفعالك.
ترددت عينيها فوق الحرف وهي تكتب
-شعرت أن من واجبي الاطمئنان عليك كأي زميل يا محمد، لقد رأيتك مضمد بكدمات تملأ وجهك.
لم يستاء من تعبيرها فكتب متباطئا
-كان مجرد شجار.
انتظرت قليلا ليخبرها السبب، فلم يفعل فأرسلت له علامة استفهام، فقال متجاهلا
-مكثت عند والدي بعض الوقت، لم أستطع خدمة نفسي.
فطنت لتهربه فكتبت ساخرة
-عند تلك الجعداء؟
يضحك وهو يرفع عينيه عن الهاتف، ثم يعود ليكتب
-أخيرا هناك من يصدقني.
يتبع كلماته بأنفاسك الضاحكة مرسلا وجوها ضاحكة فتجد نفسها تبتسم مثله.
-يريد أبي أن يزوجني بها.
توقف عينيها قليلا فوق الشاشة لا تعلم ماذا تكتب فكتب لها
-أنا حتما لن أضحي بجيل كامل من أطفالي وأحفادي يحملوا نفس صفاتها.
رغم تنمره وعنصريته إلا أن كلماته عن عدم الزواج بها أراح قلبها.
-أخبرني ما هي صفات فتاة أحلامك؟
جذبته كلماتها فقال
-ليس لي فتاة أحلام، في الوقت الذي كان يخطط أصدقائي للإيقاع بفتاة، كنت منشغلا في رسوبي.
لم تستطع هذه المرة التوقف عن الضحك، حتى بدأ جسدها في الاهتزاز من تحت غطائها لتلاحظها إيمان في هذا الضوء الخافت.
يسترسل في كتابته وكأنه يكتب ذكرياته
-لقد كرهت الزواج كما تعلمين.
توقف كلاهما عن الحديث.
هي تفكر في وجود أيا من والديها، حتما لكان الأمر مختلف عما هو الآن.
بينما هو يفكر وهو يكتب
-كفاكِ الله شر المرأة ذات الصوت المرتفع، التي تلوم زوجها على كل شيء وأي شيء.
-لازلت مستاء حتى الآن منها، لقد لاقت ربها الآن، ادعو لها بالرحمة يا محمد.
ابتسامة ساخرة طفت على وجهه، متسائلا عن جواز دعائه لها، بعيدا عن ذنبها مع رجل، انتحارها؟
-حدثيني عن والديكِ يا أميرة.
-لا شيء مهم، سوى ألم الفراق الذي يظل فوق صدرك مهما مر الوقت، أكتشف مع الوقت أني لازلت طفلة بحاجة للحديث والعناق، وربما العقاب.
هاجس نبض له صدغه
-هل تخطئين يا أميرة؟
ولماذا يستثنيها؟
أليست فتاة، امرأة، تفاحة بحاجة لمن يشتهيها، سأل باندفاع
-هل تتحدثين لأحد زملائنا؟
ارتجفت من سؤاله المشين، تنتقل ببصرها نحو ساعة هاتفها، لقد مرت نصف ساعة كاملة وهي تتحدث إليه، حديث بعيد كل البعد عن الاطمئنان عنه، هادمة كل الحدود التي يمكن وضعها بين رجل وامرأة.
تلجلجت لا تعرف بماذا تجيب، وهو لازال منتظرا بشدة.
يطالع الشاشة بصمت، يراها تكتب
-أنا لاأتحدث لأغراب عادة، وليس معي أرقام أحد من العمل أو غيره حتى الفتيات، أنت لا تعلم تلك القيود التي تضعها أمينة حولنا، هي لم توافق على عملي منذ سنوات إلا بحديث سيدة تحترمها أمينة ونقدرها، أنا..
أيسخر من تناقض كلماتها، أم يشعر بالفخر لأنها رقته درجة داخل قلبها، أم يمقتها وهي تذكره بأمه التي تتحدث إلى الرجال ليلا متخفية عن الأنظار.
يمسح وجهه بثبات يقاطعها يرد عن دفاعها، مؤمنا أن أي جواب منها لن يرضيه
-لا بأس يا أميرة، أعتذر عن سؤالي.
-سؤالك منطقي رغم فظاظته، أنا لم أغضب منك، بل من نفسي، لا أعرف ما الذي يدفعني نحوك، صراحتي معك ..
ودون أن تعي سألته سؤالا مباشرا يلح عليها منذ بداية حديثهم
-تلك الشقراء التي ركبت خلفك الدراجة..أقصد يوم الامتحان..تلك ال..
اختض من سؤالها، مزيج بين الغضب والحلاوة يسمو داخل صدره فلا يعرف من الغالب.
أيخبرها السبب الذي جمعه وعاليا، أم يخبرها بخفقات قلبه التي ازدادت وهي تعلن اهتمامها به؟
وسؤال أخير رجح كفة القتامة
هل تلفت نظره نحوها؟
تجر قدمية؟
خطوة نحو الإغواء.
-لقد حضرت حفل زفافها منذ أيام، زوجها عبد الرحمن مدير أمينة في العمل.
حسنا، لقد أظلمت الدنيا أكثر، فبتساؤلاتها حاصرته من جميع الطرق، وبأسوأ الطرق.
***

بطل الحكايةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن