الفصل الثامن

40 2 0
                                    


لم يكن عراك شوارع ذلك الذي جمعه بهذا الضخم منذ أيام، بل كان عراك لتطهير الذات على ذنب لم يرتكبه بعد.
ينظر إلى اللون الأزرق حول عينيه في انعكاس صورته في مرآة الحمام، يتذكر كل لكمة نالها وجهه من قبضة ذلك الرجل، كل دفعة وسحلة على الأسفلت.
تركه يفعل به ما يريد حتى انصرف عنه برضوض وتمزق في أربطة كتفه، وتورم في وجهه جعله لايستطيع رؤية الأرض من علو.
لقد كلفه الأمر هاتفه الجديد بشريحته، هو مسامح طالما لم يكونوا بماله، فداءً لسلامته.
يضحك بسخرية على ما حدث، رغم أنها هي السبب، لكنه لا يستطيع نسيان نظرتها المتلهفة نحو كتفه، التي تسأله عما أصابه وقد كان جوارها في الامتحان الأخير.
عينيها العسلية وما تحكيه من وهج القلق والتردد نحوه، لقد أصبح دوامها صباحي فلم يعد يراها، وانتهى من اختباراته فلا جامعة.
خرج لتستقبله كلمات وردة المتلهفة
-تبدو كمن صدمته قاطرة
-ابصقيها من فمكِ يا وردة.
ها هن يتناوبن عليه منذ أتى إلى والده بحاجة لدفء بيته، يتهرب من العيون والأسئلة، يجيب باقتضاب عليها، إلى أن سكت الجميع.
تقرب منه صحن الشوربة
-تفضل يا محمد، لقد غسلت ثياب العمل التي ارتديتها أمس، هل تحتاج لشيء آخر.
ليس من العدل أبدا أن يراها صباحا ومساء بينما عقله يزاحمها بصورة أميرة، كيف لخياله وحقيقته أن يلتقيان، يقسم على حول عينيها، والده لا يصدقه، كيف؟
أترضاه لأمك، لأختك، ترضاه على أهل – بيتك.
تلك الكلمات ظل يتردد صداها في رأسه، ويجيبها بالمثل في رأسه
-لقد فعلت أمي ما هو أشد من عدة نظرات وحضن سريع بيني وبين أميرة
يشعر بالبرد في شقته حالما دخلها هاربا من دفء قد يعتاده في بيت أبيه، وفراشه الخاوي إلا من لحاف خفيف يمرر الهواء البارد من ثغراته إلى أوردته، يثنيه تحت قدميه، ويدس رقبته بداخله بغية الدفء.
إلا أن أفكاره وضرب هذا الغريب له وكلماته، تثير في نفسه صقيع قارس لا يهدأ بغلقه للنافذة وتدثره بغطاءه.
يتساءل عن سبب عدم رد الضربات رغم أنه يضاهيه طولا، ولا تنقصه عضلات، بل كان ينقصه..الصدق، الذي يمنح القوة، ويضخ الدماء في القلب فلا يهاب ضربات أو مواجهة.
هو لا يحب أميرة بل هو مسلط عليها، ولا ينتوي الزواح فماذا كان سيجيب، وعلام ستفيده رد الإهانات.
يغلق النور بضغطة من يده على القابس القريب.
بينما تفتحه هي في غرفتها التي تجمعها وإيمان
يحتويها سريرها الصغير، تتمدد شاردة، وحدها بالغرفة.
استوطنها الشوق، هي لم تره منذ ثلاثة أسابيع، تشعر بالوحشة نحوه، تتذكر واجهته الباهتة، عينيه الحادة التي تشعل الدفء في أوصالها حالما ابتسم.
تناولت هاتفها، تنظر إلى رقمه، لا بأس في السؤال عنه بدافع الواجب والاطمئنان عليه فقد كان مريض.
لا بأس يا أميرة، ظلت تردد وهي ممسكة هاتفها، كتبت
-مساء الخير،كيف حال ساعدك يا محمد الآن؟
ثم مسحت الرسالة، كانت تفكر في رد فعله ورؤيته لها بعد أن تبادره بالكلام، وقد زجرته يوم المطر، ماذا سيظن بها بعد أن أوشك على عناقها.
تلتفت للجهة الأخرى، تحترق شوقا لإرسالها، وبفطرتها البيضاء تتقهقر للخلف.
لا بأس يا أميرة هو زميل عمل، أنتِ لا ترسلي له رسالة غرامية.
فسكن ذاك الملتاع، وضغطت زر الإرسال.
يضيء غرفته وقد أرقه التفكير، يلتقط هاتفه ويجلس  ولا زال لحافه يلازمه.
كان يشعر بتلك الأحاسيس التي أجبره والديه العيش معها باستماعه لشجارهما المتواصل، ظلام غرفته، برودة قلبه، شعور متأرجح ومشاعر مترددة وفزع دائم مع صياح والدته.
نادم على عدم تلبيته لطلب ابيه بالمكوث معه بعد الطلاق، وخزي تعلقه بها ما جعل غضبه منها يتضاعف مما فعلت.
يفتح هاتفه، يضيق عينيه حالما وصلته رسالتها، ظل مأخوذا بفعلتها، هي من تبدأ الحديث معه؟
لم يعهدها جريئة، لقد بكت أيما بكاء عندما دعتها الظروف للركوب خلفه ولم تكن ملتصقة به.
الآن هي..؟
-آسفة لو أزعجتك، أردت الاطمئنان عليك، فأنا لا أراك في العمل.
رسالة أخرى!
هم بالرد عليها لكنه توقف، وأبعد يده عن لوحة الكتابة، لا يعرف ما الذي يمنعه عنها، هل تلك العلقة التي لازالت آثارها في حركته مدموغة بجسده، أم أن اتفاقه مع عاليا قد تم إلغاءه ولن يحصل على أجر من محادثتها؟
عليه الآن، حالا، تحديد هدفه إن أجابها.
أغلق هاتفه خائفا، يبتلع ريقه بخوف، ينزلق تحت غطاءه، يغلق الضوء من جديد، يحاول النوم.
كانت مترددة في باديء الأمر، والآن لعنت نفسها عندما علمت بأنه قرأ رسائلها ولم يجيبها.
تضغط على زر المسح، تحاول بذلك التربيت على قلبها من تجاهله، تضم غطائها نحوها، دون أن تبدل ثوبها، وتنام.
***
يفصله رنين الهاتف عن ذكرياته وصوت سالم يتسرب عبره بدون مقدمات..
-أنا ذاهب لطارق الرشيد غدا الثامنة مساء لطلب عاليا للزواج واحتاجك معي.
-لا.. لا.. لا..لا تقول بأنك حسمت أمرك أرجوك، لا تخبرني بأنك ستسلمها مستقبلك لتدمره عن طيب خاطر.
-ألازلت تصر على تشويها أمامي، اسمعني يا خالي واشعر بي أنا لم تستفزني امرأة كما فعلت هي، لم أتمنى امرأة كما أتمناها، عاليا شديدة الذكاء وشديدة التوهج.
- وكم عرفت أنت من النساء وما هي خبرتك؟
-لو لم تأتِ معي سأذهب وحدي وانهي الأمر، أنا أريد أن يبدو طبيعي كوننا عائلة..
-طالما عاليا بيننا لن تكون بيننا عائلة يا سالم، في الحالتين ستكون قطيعة..
لم يفهم مقصده فقال
-سأنتظرك في السابعة لنذهب سويا.
ثم أغلق الخط، ليترك خاله في عذاب مستعر، لا يستطيع المقاومة…عنيد سالم كالصخر، نجحت عاليا في اختيارها له..
استدرجته بذكاء، منحته ما يخلب لبه بصورتها الجذابة الساحرة فانخدع بجمال ما يرى، ولا يعلم أن الخرطوم قد يكون ثعبان إنما هي المسافة والبصيرة.. وسالم لغى المسافات، وعميت بصيرته.
***
-أعلم أن وجود مخدرات في شحنتك سيد عبد الرحمن قد يودي بك إلى السجن، لقد أتى لنا البلاغ صباحا، ولحظات سنقوم بالتفتيش الرسمي.
لم يمتثل لتهديداتها ليس ثقة في حبها، وإنما رغبة منه للشعور بأنه قوي في مواجهتها حتى لو كان سلاحه اللامبالاة والذي قد ثبت هشاشته للتو.
لن تتركه يماطل أكثر من ذلك، بينما معركته معها ستتطلب عتاد جديد، سيخنس..وإنما للحرب..
عاليا أثارت ذروته فبات كرهه لها مضاعف، يرغب في سحق رأسها.
-إما أنا، أو السجن.
حروفها الباردة التي يتلقاها عبر الواتس آب
-والتهديد القادم يا عاليا، ماذا سيكون؟ أنا أو الموت، أراكِ لا تفهمين للحب معنى.
-الحب امتلاك، وأنا لن أترك فرصة كي امتلكك.
-أنتِ مجنونة.
تأتيه رسالتها
-الحب جنون.
يهز رأسه بلا فائدة، هو بين المقصلة، قلب مبتور، وعقل منتقم..
وكلاهما فقد للروح والحياة
سدت في وجهه جميع الطرق للنجاة
خيرا له أن يكون في نظر أمينة وغد، أفضل من أن يدمر حياتها وأخواتها البنات، وبدلا من أن يحميها  ويكون في نظرها كالنساء وعاليا تهلك ظهره طعنات.
سالم لابد له من مستقبل مشرق حتى لو تألم في بادئ الأمر..الأيام ستنسيه، سيقابل الكثير والكثير من الفتيات وسينسى.
أما عاليا..
فلن يضع نقطة تنهي حديثه ولا غضبه نحوها، وكما قالت..سيترك القوس بينهما مفتوح.
تناول هاتفه يتصل بها ويستمع لصوتها البغيض الساخر
-هل سأنال رد بالأخير أم تتصل لتمنحني آخر أنفاسك في قتال ليس هناك طائل من وراءه.
صمت ثقيل وكأنه يعيد التفكير من جديد..
صورة أمينة وهي تجد شخص غيره تستحقه دون قتال، سهل مثلها، يؤمن حياتها..ستجد..حتما ستجد من هو أفضل منه.
هو إن انساق لما تريده عاليا سيتحول لوحش كاسر لن تليق به أمينة بعدها.
-هل سأنتظر كثيرا، حسنا..يمكنك إرسال ردك في رسالة قصيرة حتى أحدد خطوتي التالية.
سمعت صوته الرجولي الذي يمنحها الاسترخاء، تذوب عند سماعه بتلك النبرة الكاسرة المتحدية، يجعلها تنتفض حماسة واشتياق.
-أعدي فستان الزفاف يا عاليا، وحضري للفرح جيدا..واستعدي لإنفاق الغالي والنفيس لأجلي لأني لن أفوت فرصة لتعويض خسائري
سعادتها بقبوله أخرست جميع ردودها تستمع لباقي حديثه
-أنا لن أنفق لأجلكِ شيئا أنتِ من تريديني فعليك فعل كل شيء يجعلني أرغبكِ.
أجابته باستماتة
-لا تحمل هما..سيكون أكبر زفاف.
-صدقتِ، وأبئس زفاف، يبدو أنكِ سمعتِ عني كثيرا من جدكِ لكن صدقيني هو لم يرَ الجانب السيء مني.
قالت متلهفة
-أشتاق لهذا الجانب كثيرا.
مجنونة، معتلة، لم يحسب لتلك الردود الغير منطقية منها..يمسك رأسه بيأس فقد قرر وانتهى الأمر..
هي تضحية، لكنه يعد بألا يترك حقه.
-لا تعولي على شهامتي فأنا مغصوب على تلك الزيجة، ولا تحلمي بدلال، أعدي مكائدكِ يا عاليا فأنا خصم بائس ليس لديه ما يخسره..عليكِ الحرص في مواجهته.
أوشك على انهاء المكالمة فقال
-واجعلي فستان الزفاف أسود..لأجلي.
***
تستلقي على سريرها، ينبسط وجهها بسعادة بانفعالات جديدة لم تجربها من قبل..هي تحبه، تقاتل لأجله..ستجتمع به  وستجبره على التجاوب معها..
يجب أن يحبها..ستختبر معه كل المشاعر..ستترك لأجله أي شيء..وتفعل لأجله أي شيء..
تشعر بأصابع تملس على شعرها
-! خلود
لأول مرة تراها خلود بتلك السعادة المشرقة، ابتسامة تتعلق بشفتيها ولمعة مشتعلة تغمر بنيتيها
-وجهك مشرق يا صغيرة..هل لديك أخبار مفرحة
تستقيم جالسة، تتحدث إليها بود حقيقي وسعادة طفولية، تنفرط الكلمات من فمها كحبات العقد
لقد تقدم إلى خاطب اليوم-
ابتهجت ملامح خلود وهي تتلقى تلك الأخبار المفرحة، متسائلة
من..بسرعة أخبريني، هل نعرفه؟ -
توميء برأسها وتقول بلهفة
-عبد الرحمن
انقبض قلبها، ولازالت تحافظ على ابتسامتها.. عبد الرحمن؟
كيف ومتى؟
هل تغار عاليا من قصتها وأخيها فقررت التكرار، فتقلدهما؟
عبد الرحمن يعرف عن عاليا كل شيء، هل هو طامع بها؟
تعود بعينيها تمررها فوق وجه عاليا تكمل حديثها لنفسها
-ماذا فعلتِ به وكيف أقنعته بالزواج منكِ، موافقته تتنافى مع صفات الرجال لن يقبل بكِ ولو وضعوا السيف فوق رقبته؟
غفلت عن ملامح خلود تتوه في سعادتها
-يريد موعد مع طارق..هل يمكن أن تتحدثي اليه
تذكرها بأول يوم دخلت فيه الفيلا عندما سرقت منها جدها بهذا الوجه البريء، تحولت لطفلة تسألها إخبار أخيها في حين أن جرأة عاليا لا تمنعها من ذلك.
أومأت خلود برأسها لتنقلب عاليا فوق السرير فتقفز بسعادة، في وقت دخول يوسف يحمل قطعة مغناطيسة دائرية بيده فأمسكتها خلود بسرعة قبل وضعه اياها في فمه.
التفتت لتلك الراقصة
-عاليا لو سمحتِ اغلقي درجكِ المليء بهذه الدوائر فيوسف يخرجها ويضعها في فمه..لا تتسببي لنا في مصيبة أرجوكِ.
***
-هل ما يتردد في مكتب عاليا صحيح؟
يشير إليها بأن تجلس فتأنف عن المكوث في مكان يجمعها به.
-هل ستتزوج عاليا؟!
جلس هو فملامحها المرهقة هزت كيانه، غير قادر على مواجهتها..
لقد كانت مواجهته مع عاليا أسهل بكثير من تلك الواهنة أمامه.
-لقد اعتدت الخذلان منذ صغري لكني لم انتظره منك، عندما غادرني عمي وزوجته وأنا ابنة السادسة عشر وأخواتي على كتفي بحجة أنه غير مرتاح وزوجته معنا، وأنه بحاجة للعودة لعمله، وأنه لن يجلس كالنساء ليرعانا..منحته صك الرحيل برحابة، يكفيه بأنه كان يعولنا حتى اشتغلت.
يحك جبهته وحكايتها كوخز الإبر بصدره، ليته كان هناك وقتها..ليته؟!
حسنا..هو هنا الآن فماذا فعل؟!
-لقد وجدت فيك الحمى والراحة، تركت كل شيء خفت منه في صغري وألقيت به على كاهلك، وثقت في وعدك وأعرف أنك لن تنكثه، قل لي أن ما تتناقله الألسن كذب، وأنك ستأتي للخالة فوقية لتطلبني منها، وأنك ستأتي إلى البنات وتكون أبا لهم وحصنا حصين لمشاعرهم، قل لي أن تعبي وانتظاري سنوات حتى أجد شخصا مثلك لم يكن هباء، قل لي أنك أول الرجال وآخرهم، من أنام جواره ولا أخشى سيئا من الدنيا..
تعلو شهقاتها الرقيقة، ودموعها الغزيرة تتهافت على وجنتيها الناعمة وهي تراه يتشاغل عنها بأوراق باهتة لا نفع منها.
كلماتها لا تهزه، لا يعكس مشاعره، هذا ليس عبد الرحمن بحنانه الجارف وعينيه المستفيضة في الحديث، يحجبهما عنها..
ربما لو نظر إليها لعرفت الحقيقة.
-لقد وعدتني، حلمت معي، منحتني كلمتك، لماذا بعد كل ذلك طالما ستفارقني، هل رأيت مني ما يزعجك؟
جامد هو كجلمود صخر، بينما داخله ثائر كبركان في أوج انفجاره، سيتحمل، سيصمت، لأجل تلك الشفافية والرقة سيخوض معركته مع عاليا.
أن تبكيه هو خيرا لها من أن تبكي فضيحة لأحدى أخواتها..
يقف خلف مكتبه بملامح جامدة، يستدير نحو نافذة مكتبه، هنا رآها لأول مرة قادمة إليه، هنا كانت تهرول لتلحق به لنيل توقيعه.
وهنا تعلقت عينيه بها وهي تندس بين الناس وتذوب كالملح.
تتابع تجاهله لها، لقد جاءت لتلقي بقلبها بين يديه، لتؤكد على حبها له، لقد جاءت لتكذب تلك الصرخات التي براسها على السن العاملين
-سيتزوج عاليا
-عبد الرحمن سيتزوج عاليا
-عاليا وعبد الرحمن
تنسال دموعها فليس هناك رادع لها، لا كلمة مطمئنة ولا نظرة واعدة.
-ألهذه الدرجة هنت عليك؟
تعدل حجابها، يراها في مرآة نافذته، حيرتها، كرامتها التي استباحها وهو غير قادر على التهوين عليها، لن يعدها بشيء، لن يدخلها معركة ليست لها، ولن تفوز فيها.
-أ... أنا.. لا أعلم ما الذي أفعله هنا..أنا..آسفة؟
نظرة متسولة أرضا، مستجدية عطفا، طالبة للشفقة، ولم يهتز..
تتنحى للمغادرة، تغلق الباب خلفها..
انفلت زمام غضبه الذي نجح في لجمه، يعود لمكتبه يتحصن به، يخبط عليه بعنف ليخرج غضبه..
-ستكوني بخير يا أمينة أنتِ وعائلتكِ بدوني.
يمسك رأسه بين يديه، يخوض صراعاته برأسه، فهو في تلك الحرب وحيد،ليس لديه حلفاء ولا يملك أسلحة.
***
يترقب دخوله إلى طارق، وتلمزه الأفكار بين الحين والآخر..
تشاغله صورة أمينة الخجلة في محل الحلوى، حتما ما كانت لتعرض نفسها عليه كتلك المتبجحة اللعينة.
عينيها المنخفضة بحياء، وقوة رفضها عندما دعاها لسيارته، توردها عندما منحها هديته من المخبوزات.
وصورتها المنكسرة بالأمس كانت آخر ما يمر على خياله المنهزم الآن.
لقد تركت أمينة العمل كممرضة، فبات همه همين..لقد امتثلت لأمره على الفور ثقة فيه، لم ترد كلمته فهي تعلم معنى وعوده وتثق في رجولته.
يبتسم بسخرية محدثا نفسه
-كلهن يثقن في رجولتك..بينما تمنحها أنت لمن لا يستحق.
يضع العامل أمامه القهوة ويغادر، يراقبه بعينيه ولازال أسير لتلك الأفكار التي لا تتغذى بحياتها إلا على موت روحه.
يرتشف قهوته بتأني قاتل..تخبره السكرتيرة بانتظار طارق له..أومأ لها برأسه ولازال على وضعه يكمل قهوته..
لحظات أخرى ساخطة على تلك التي وضعته في هكذا موقف..بين مطرقة وسندان وإن نجا منهم فهناك تروس ستلتهمه..
هو في مصيدة، لكنها تمنحه الخيار في طريقة موته..ويا لها من حرية..
انتهى من قهوته منتبها إلى صوت السكرتيرة تكرر
-سيد عبد الرحمن..السيد طارق في انتظارك
وقف يهندم ملابسه، يغلق أزرار سترته الثقيلة، اختارها بلا رابطة عنق تزيد من ضيقه.
صافحه طارق، يضغط على كفه بحميمية، يربت على كتفه، يجلسا سويا في ركن دافيء من مكتبه..
-مرحبا يا عبد الرحمن، كيف حالك؟
-بخير..
قاطعه رنين هاتفه ليتعلق بصره برقم خاص بالعمل، وكأن الدنيا تعاتبه على وجوده في مكتب الرشيد وتحذره التحذير الأخير قبل إقدامه على هذه الخطوة..
ظلت صورة أمينة  وأختها تلاحقه، سالم  وترقيته خطوة نحو مستقبله..والتحاقه بدرب رجال الأعمال
-لقد جئت لأتقدم لخطبة عاليا.
قاطع تردده بحسم.
لم يشعر من طارق الرفض أو الانتقاص في تلك البسمة الودودة التي انشق ثغره بها، يشعر بسعادة خفية يداريها خلف عينيه الصقرية.
بينما هو يتلظى حقدا وسخطا منه، فلو كان تحمل مسؤوليته بجد لما كان هو يذبح كالخراف الآن.
أعاد الهاتف إلى جيبه بعد تجاهله الاتصال.
شروده أربك طارق، لا يعرف ما يقول، وجه عبد الرحمن ليس وجه محب أو خاطب أتى سعيدا لإقباله على الزواج.
فطن لما يفكر فيه الآخر فقال يحاصره
-أنا أعرف ظروف عاليا بحكم تواجدي الدائم في محيطها.. قديما، ولن تجد من هو قادر على التعامل معها مثلي، هي تحتاج إليّ…
تنحنح مضيفا كلمة يضفي بها على حديثه بعض اللطف
-وأنا أيضا..
قال طارق بلؤم لا بأس به لمعرفة دواخل هذا الغريب عنه، فعبد الرحمن في هذا اللقاء ليس كما يعرفه
-لقد عرقلت لك شحنة في الجمارك؟
يبتسم في وجهه..بينما ساخرا في نفسه، وماذا فعل حيال ذلك؟ لقد وضعت له مخدرات داخل شحنة أخرى، يدها طائلة ولها اساليبها ومصادرها!
طارق ضعيف، يبحث عمن يلقي على كتفه ثقلها، يكاد يقسم على موافقته عليه التي هي تحصيل حاصل لهذا اللقاء المسرحي.
أجاب بسخرية تملكته
-لقد كانت تلك الشرارة.
أضاف بعض المرح لحديثه، ينحي غضبه الداخلي منها جانبا، لقد ارتضى الأمر، وجاء إلى طارق، واستعد لقطيعة سالم، وانفصل عن حبيبته.
إذن فلينهِ الحوار ويكمل ما رسمه ولينال موافقة طارق بود..أفضل له من المماطلة.
-أشعر بتقاربنا، بيننا سابق معرفة، عاليا تحتاج لمن يحتضنها، ويعرفها جيدا، لا تبحث هي عن زواج تقليدي بتكافؤ مادي، إنما ما يشغلها هو احتوائي لها.
يتحدث عن الاحتضان..؟
هل حقا سيفعل؟
-لماذا عاليا يا عبد الرحمن.؟
أيخبره أن يسألها هي لماذا اختارته ولونت حياته بالسواد.
-ولماذا غيرها، هي من مال لها قلبي.
إجابة مقتضبة، علم منها طارق أن الماكث أمامه إما أنه يحبها، أو مجبور على الزواج منها، وبمقارنة الأمرين وجد أن من هو القادر على إجبار هذا الرجل أمامه على شيء؟
-امنحني الوقت لأفكر يا عبد الرحمن.
يبتسم بسخرية داخلية كعادته منذ دخل إليه .
-خذ وقتك، بالأذن.
عاد طارق ليلا إلى الفيلا..ليجدها في انتظاره على غير عادة هي ويوسف في البهو الكبير، بينما خلود تعد الحلوى بالمطبخ.
يقترب يوسف ليتعلق بوالده، فيمنحه عناق دافيء يمسح وجهه بكفه الرجولية الحانية، يحدثه بهدوء لا يعكس صخب يومه
-كيف حالك يا يوسف
يمنحه صغيره قبلة على وجنته، فيتوجه نحو عاليا يحمله، وقفت تقترب منه، تسحب يوسف من بين ذراعيه لترتمي هي بينهما تحت سخط يوسف الواقف أرضا .
رأسها فوق صدره، تلف يديها حول خصره في مرة من المرات التي تعد على الأصابع لعناقه..
لطالما حاول الاقتراب ولكنها دوما كانت تبتعد..
-شكرا لك
يبعدها عن صدره يحاوطها بكفيه
-هل أنتِ موافقة
توميء برأسها بين يديه، تفقد سيطرتها الدائمة على نفسها، فتنفلت منها دمعة مشتعلة بنجاح رغبتها
كما لم أوافق على شيء من قبل-
يشفق عليها، وقد زادت أعباءه التي كاد أن يسقطها فور دخوله الفيلا، عاليا لازالت تعاني..ربما يكون عبد الرحمن هو علاجها
-تحبيه يا عاليا
تتوالى الدمعات من عينيها البنية، تلمع بفرحها، تشهق بهلع خوفا من انسحاب تلك السعادة في أي وقت
-كما لم أحب أحد من قبل يا طارق، شكرا لك
تخفي رأسها في قميصه، تبكي بسعادة فقد أوشكت  على الوصول، أن يقتنع عبد الرحمن أخيرا بالزواج منها..
لا يهم الوسيلة، المهم الوصول لغايتها..ومن ثم موافقة طارق..
الآن لا يتبق شيء..أي شيء، سوى اجتماعها معه في بيته، زوجا وزوجة، وهي خير قادرة على اقناعه بحبها، والتغلغل عبر شرايينه.
يشعر باهتزازها بين يديه، يتركها تفرغ ما بداخلها، هي سعيدة..أجل سعيدة..
يقبل رأسها وهو يقول
-الحياة مع عبد الرحمن لن تكون بهذا البذخ في الفيلا، لقد اعتدتِ رغد العيش يا عاليا
تنظر إلى عينيه الناصحة
-آخر ما يهمني المال يا طارق
يبادلها النظرة بنظرة، يريد منها صك اجتهاده معها على مدار سنوات
-هل قصرت في حقكِ يوما؟
تهز رأسها نفيا، ولازالت الدموع تتابع على وجنتيها
-أنا من قصرت يا أخي
يمرر إبهامه يمسح دموعها
-لقد أغلقنا هذا الحديث قديما يا عاليا، اعذري تدخلي في شئونك، أنا أثق بكِ لكني لا أثق فيمن تقابليه بالخارج، لن أجلس حتى يحدث لكِ مكروه مجددا، دائما ما كنت أبالغ ولازلت في حمايتكِ، اعذري حبي لك وخوفي عليك..
تغمض عينيها تحبس دموعها، رقته المبالغ فيها تشعرها بتأنيب الضمير، لكن عبد الرحمن هو نهاية مطافها، لن تخطط لشيء بعد الآن، لن تتخفى من طارق ولا من غيره فستصبح على ذمة رجل
تبتسم بخجل، تفتح عينيها..عندما تتذكر إرغامه على الزواج منها..
هو لايعلم أي دلال ينتظره..
التفتا على دخول خلود إليهم..ويوسف المتذمر، لتنزلق يديها عن طارق تربت على ظهره بامتنان، تترك المجال لزوجته وابنه، اتجهت نحو غرفتها، مرت بخلود فمنحتها قبلة على وجنتها وغادرت.
عقدت خلود حاجبيها تسأله
-ماذا حدث؟هل هي بخير
يضحك يحمل عنها الحلوى، يتناول منها وهو في طريقه للجلوس، يطعم يوسف في فمه
-نعم..ولأول مرة في حياتي أشعر أن عاليا بخير يا خلود
تجذب يوسف إليها تمسح فمه باصبعها
-هل قابلت عبد الرحمن
ينه طعامه يجيبها
أجل، وطلب خطبتها..ووافقت-
تقترب منه متسائلة
-هكذا..بسرعة..لماذا لم تماطل معه كما فعل جدي
يحتوي جسدها بذراعه
-لم أمنحه موافقتي بعد أنا فقط أخبركِ أنتِ، كما أن عبد الرحمن لم يكن مثلي..هو أفضل
تلمس ذقنه
-أنت افضل
تفتر شفتيه بابتسامة جذابة
-لقد تذكرته اليوم، وفعلت مثلما فعل معي لكن ليس تعسفا، وإنما اطمئنانا عليها..سيحمل عني عبد الرحمن خوفي الدائم عليها، هي تحبه يا خلود لقد تيقنت من ذلك
تضع يديها على ساقه بحميمية تسر له بما تشعر
لست مرتاحة لتلك الزيجة، عاليا صعبة – المراس يا طارق، ومدللة، وعبد الرحمن لن يطيق دلالها
-وربما يعجبه
لن تخبره بأنه ليس من مستواها لأنها تعلم جيدا أن الخُلق أهم بكثير من المال، وعبد الرحمن ذو أصل..
-طالما منحته كلمتك..أنا أثق بك، أتمنى نجاحها معه، عل الله يخيب ظني، أنت تعلم بأني أحبها وتعلم أيضا أنها ليست حملا لأي نوع من الصدمات، لقد أخذنا سنوات لتصل لما هي عليه الآن يا طارق.
هي من اختارت، أنا فقط وافقت-
لو لم تجده مناسب لما فعلت-
يوميء برأسه بشرود فمن يضمن نجاح زيجة ما، حتى لو الاثنين أسوياء..
حتى وإن كان الزواج عن حب..
فنجاح أي زواج في علم الغيب الذي لم يطلع عليه.
انتبهوا على نفاذ الحلوى وتذمر يوسف الذي يصرخ
-أريد المزيد
*** 
يتطاير الشر من حدقتيه، يشعر وكان أحدهم غافله ومنحه كفا احمر قفاه له من شدته، وربما يفقد بصره إثره.
-كما سمعت يا سالم، لقد تقدمت لخطبة عاليا ولم يعد بإمكانك  محادثتها أو الخروج معها..هل فهمت
كيف يخبره بأنه يفهم جيدا خطته الدنيئة في التفريق بينه وبين عاليا، لقد طعنها في شرفها أمامه لياتي اليوم ويخبره بأنه سيتزوجها، ألهذا الحد وصلت بعبد الرحمن الدناءة..
يخوض بعرضها، وعندما يتمسك هو بها، يستميلها من خلف ظهره..ويطلبها للزواج.
يقول بخفوت
-أجل..لقد فهمت..فهمت قذارتك، وخبثك في الفوز بها..
يجيب بمرارة
عاليا ليست جائزة على أحدنا الفوز بها-
يصمت، يبتلع غصته، فلن يستطيع الخوض بها مجددا وقد أوشكت على أن تصبح زوجته
-ابتعد عنها يا سالم، توقف عن ملاحقتك لها..
يتحدث بشرود صادم
وأين حديثك عن صعوبة ترويضها، عن – المستوى الإجتماعي..عن جموحها وعدم مناسبتها لنا، عن..إنها ليست بكر
يغمض عينيه يتلقى كلماته بصلابة وثبات اعتاد رسمه منذ موافقته على جنونها
-انس الأمر ، لقد حاولت التفرقة بينكم، ولم أفلح
-حتى تظفر بها
هي ليست كنز-
ولماذا تريدها؟-
أجابه بحدة
-هي من تريدني، هي من فرضت شباكها حولي، هي من تعاملت معي بدناءة يا سالم، لايمكن أن تنظر إليها هكذا كنجمة بعيدة ذهبية سيظفر من تختاره، هي بلاء خيم فوق رأسي
يضرب سالم طاولته بقوة
؟وما الذي يجبرك-
-أشياء كثيرة لا يمكنني البوح بها، ثق بأنها حرباء متلونة، تبدل لونها وفق حاجتها وخططتها، أفعى سامة، لن تغادر إلا ببث سمها في أحدنا
يقول بمسرحية
واخترت أيها الشجاع أن تعطيها ذراعك – تفرغ فيه سمها، يالك من مضحي
ثار في وجهه
-أنا لا أريد رأيك، ولا اقناعك، فقط توقف عن ملاحقتها فلن تجد منها المودة، لن تكون معك عاليا القديمة فقد ربحت بما خططت
يتركه يصارع هذا الجنون الملتاع الذي ألقاه فيه..يفتح هاتفه سريعا..يهاتفها فلا تجيب..
يرسل لها رسالة
-عاليا..هل حقا ستتزوجي عبد الرحمن
تجيبه على الفور كتابةً وكأنها تتجنب سماع صوته، وربما لا تريد أن يرى ارتعاشته فرحا بزواجها من عبد الرحمن
-أجل
عاجلها سريعا
وأنا-
-أنا لم أعدك بشيء يا سالم، لقد كنت نعم الصديق..وستصبح قريب زوجي، لا تدع للبغض طريقا إلى قلبك، تقبل الأمر كما هو.
تقبل الأمر !
تدعوه لتقبل الأمر ..
هل كان سهاده وأرقه عندما يأخذ منها موعدا وهم..
تقربها وتوددها منه..وهم..
كيف يتقبل الأمر وقد كان كطعم للتودد لخاله..
خاله؟!
خاله الذي يعلم بحبه لها..
كيف هان عليه كسر قلبه بمنتهى السهولة..
يقذف هاتفه ليرتطم بالحائط، ويسقط وقد انقسم إلى قطعتين..
شعور بغيض بالاستغلال يكتنفه..
شعور بالاستصغار والانتقاص..
لقد استغله كلاهما وهو بمنتهى الحماقة انساق نحو الهاوية..
منذ اليوم سينسلخ عن عبد الرحمن..
سينزوي عن كل ما يصله به..
منذ اليوم سيعد لانتقامه منه..بل ومنها..
مثلما كرس حياته للنجاح فيما مضى..سيكرسها فيما هو آتٍ لإلحاق الهزائم بهم..تبا..
لم يُحصِّل قريدس غالي كطعم..بل كان كقطعة لحم عفنة تقدم للكلاب الضالة..لتأتي خطتها بثمارها..
اللعنة عليكِ يا عاليا..وعليك يا خالى
***
يسعد اوقاتكم🫠

بطل الحكايةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن