ظلال باهتة تسقط فوق وجهها فتزيده شحوبا، غطرستها دهست مع كرامتها في مواجهته معها قبل السقوط.
بينما هيبتها وذكائها الكريه تخلى عنها وهي بهذا الحال، منهكة الحركة لا تقوى على الالتفات، نفس الجدران البيضاء وذات الرقدة التي عاصرتها مرارا في حياتها.
شعور بالشماتة يتغذى عليه وهو يستند بكتفه على نافذة غرفتها، لا يستطيع تنحيته جانبا وهو يتذكر غيرة أمينة الشديدة عليه، وغيرته عندما وجدها تهتم برجل آخر حتى لو مداواته.
تفتح عينيها بتعب فلا تتسع، إنما هو شق صغير رأته منه عبر نافذتها، جاءها صوته المضطرب
-هل تعلمين مدى نشوتي وأنا أقطف ثمار انتصاراتي عليكِ، رعدة وجهكِ، وخوفكِ الشديد، انتشائي وأنتِ بين أحضاني ترتجفين رعبا من أنفاس لا تعلمين هويتها فيرشدكِ عقلكِ المريض أنه كمال.
قالت بصوت واهن موازي لضعف جسدها
-أنت جبان..خسيس.
قال بسخرية مريرة
-إنما أنتِ كنتِ منتهى النزاهة وأنتِ تدمرين حياة الجميع.
ارتفعت حدة صوته وهو يميل إليها يمنحها نظرة غاضبة
-أقسم أن رغبتي في الإنتقام منكِ كانت لتتزايد لولا معرفتي بجنونكِ، فما نفع انتقامي من امرأة فاقدة لعقلها لا تفهم ولا تعي مشاعر الكره أو الحب.
قالت وهي ترتجف بجنون، ترفع يديها الواهنة نحوه لتخمشه بأظافرها
-لقد بادلتني إياها أيها الحقير.
يبتعد بوجهه ليتفادى حركتها، يجيبها ببرود شامت
-إنجذاب جسدي، أنتِ خير من يعي هذه الأمور.
تهز رأسها يمينا ويسارا غير مصدقة، صورته التي تتهشم أمامها..
عبد الرحمن ليس شهما..رجلا..ولا يملك شيئا من النخوة كما قال جد خلود، كان يحيك الخطط لينتقم من أنثى لا حول لها ولا قوة، يتسلى على حسابها..يسمح لابن أخته بمشاغلتها..
حتما سالم مشترك معه في لعبته الحقيرة تلك، لقد أعدت لافتراقهم ولم تحسب لاتحادهم ولم تُعِد له.
لقد أضاعت سنوات عمرها في مشقة دراسته لتحظى به ولم تكن تعي أنه سيكون سبب هلاكها، تبتلع دموعها لا تقوى على ذرفها أمامه، فالأمر لا يحتمل خزي أكثر من ذلك
-أخرج.
اعتدل منتصبا في وقفته وكأنها منحته روحه من جديد، فقد بات كل ما حولها يشعره بنزيف أخلاقي، تجعله ينحدر حتى وصل للقاع.
منحها نظرة أخيرة، شامتة وحاقدة، يجيبها بصوت ارتطام قوي للباب وهو يغلقه خلفه.
***
مرت الساعات عليه وهو في حالة بكاء لا يتوقف كطفل صغير، آهات ملتهبة، ضاق كفه ذرعا من شدة صفعه للحائط مرارا وتكرارا دون أن يشعر.
هو في عالم الخواء الفارغ الآن، وقد توقف عن الشعور، وكأن جسده هائما في الكون الفسيح، وربما على سطح المياة كجثة وجهها للسماء، تتناقله الأمواج بلا حول ولا قوة.
يراها أمامه، صورتها ممزقة الروح تلاحقه فيتحول الفراغ لجحيم يأكل جسده حتى يتفحم، جليد مجددا يرحمه ببرودته القاسية، فيتأرجح بين سخونة قاتلة وبرودة مميتة.
يتقلب على جنبيه فوق سريره كالمحموم.
هو حتى لا يملك صورة لها، ولا ذكرى.
لقد كره وجودها حية وميتة، والآن ماذا يفعل كي يبدل كل شيء، ماذا يفعل كي يحبها ويجتر ذكرياته معها، وماذا يفعل حتى ينطلق لسانه بالترحم عليها!
يستمع لصوت رسائل الواتس آب ولا يعلم أين هاتفه، وذكرى قريبة بوجود سالم جواره، لقد أوصله إلى سريره وأعد له كوب ليمون، ساعده على الاستلقاء وغادر.
أميرة، بكائها، توسلها بأن "يقم"و"يشرب"لمساتها الحانية فوق صدره وهي تهزه، متى خلع حذاءه أو حزامه؟!
يمسك رأسه وقد بدت تلك الذكريات مشوشة.
لازالت وسادته رطبة من أثر البكاء، أو ربما لحظات سقوطه في المياة المجمدة، بات لا يعلم أين الحقيقة وأين الوهم؟
يومين كاملين بين المياة لو تذكر عطشه، وبين قطع صغيرة من الشطائر يأكلها رغما عنه وهو يبكي.
يقف مترنحا يتوجه إلى الحمام وفي طريقه تذكر حنانها الذي ينكره، ويسقطه عمدا من ذاكرته، يتذكر الآن أنه لم يذق طعاما جيدا منذ وفاتها، ولم يهتم به أحد اهتماما حقيقيا منذ رحيلها.
يمسك هاتفه من فوق الطاولة وهو في طريقه إلى الحمام، يفتحه ليجد رسائل من أميرة، ورسالة من رقم غير مسجل.
-أنا سالم هذا رقمي إن احتجت لشيء، خوذتك على الكرسي بجانب باب منزلك، ومفاتيح دراجتك جوارها، هاتفك فوق طاولة السفرة، كن بخير يا رجل.
يرفع بصره يتمم على أقواله ويصدقها بعينيه، يعود بنظره إلى الهاتف
-أرجوك طمأني عليك، هل أنت بخير.
تلك كانت بتاريخ رجوعه من منزل فوقية
-كيف حالك اليوم، هل تأكل، أرجوك أجبني؟
-محمد رد على رسائلي لا تتركني في هذا الحال، لا أستطيع نسيان حالتك وأنت تغادر يسندك أحدهم، أخبرني بأنك بخير فقط.
ارتخت قدميه تحته فسقط على ركبتيه وقد خارت قواه، ولازال هذا الشعور المتردد الحارق لا يقاومه بل يهبه روحه طواعية.
دقائق مرت عليه وهو على ذات الجلسة حتى أنَّت ركبتيه فاعتدل وما زال أرضا، تناول هاتفه الذي لا يعلم متى سقط عندما سمع صوت رسالة أخرى
-مساء الخير، أرجو أن تكون بخير الآن، علمت بأنك لم تأتِ للعمل منذ أول أمس، علها راحة تستجمع بها قواك، لا بأس المهم أن تكون بخير.
تمالك ذاته وكتب لها
-أنا بخير.
إجابة مقتضبه، ليهيم في جلد ذاته من جديد.
***
حين تتداعى كل الصروح العالية، لتشعر بالعري أمام الاغراب..
وتسقط دفاعاتك فتكون كالورقة خفيفة الوزن التي تتناقلها وتستبيحها الرياح..
منذ جاء طارق وخلود إلى المستشفى، والضربات تتوالى بتبعاتها بسقوط أبنيته ..فذهبت أدراج الرياح.
-محاولة انتحار؟، كيف..عاليا تحاول الانتحار بعد أن تزوجت ممن تحب..سعادتها بالارتباط بك لم تكن تضاهيها سعادة من قبل، عاليا لم تفرح إلا عندما تزوجتك..ماذا حدث؟
يتمسك طارق بهدوءه الظاهري بينما دماءه تقتات على غضبه فيشعر بنوبة غضب تستعر بداخله لم يصل إليها منذ سنوات..
-لماذا توجد تلك الحبوب في منزلك من الأصل، لقد توقفت طبيبتها عن صرفها لها.
لازال عبد الرحمن مستندا برأسه على الحائط خلفه...يعاني صدمة مضاعفة مما حدث..يكفيه صراعه الشخصي عندما حاول تنفيذ انتقامه منها..
يكفيه تأنيبه لنفسه بأنه استقوى عليها برجولته وصلابته وحدة كلماته..
يتناسى ما فعلته معه ليستبدله بنهر وقسوة على الذات.
صوت هامس داخله يحثه على الدفاع عن نفسه..صوت شحيح يحتضر ينبأه أنه لم يخطيء وأن رجوعه عن طريق الانتقام ما هي إلا شهامة ونخوة منه..وأنها تستحق العقاب كما أخبره سالم..
يمسح على شعره مغيبا، مرهق الفكر..يرفع نظره بوهن نحو طارق الذي لا يختلف وهنه عنه
-اسألها..اسألها لماذا تريد الانتحار وقد فازت بما خططت له من البداية..اسالها لماذا كانت تجبر سكرتيرتها على جلب تلك الحبوب لها..ابحث عن إجابة تجعلها تهدد إحدى الفتيات بشرفها فقط لتحقق ما تريد..أختك اتبعت أقذر الطرق لتحقق ما تريد، لتسرق ماتشاء، لتحطم من أحبته كما قلت.
يجلس طارق يمنح قدمية جرعة راحة من طول الوقوف جوارها..يبحث عن ترابط بين ما قال ولا يجد، لكن كلماته جعلت وخزة قلبه تزداد..فهو شاهد على جنونها منذ الصغر، يقول بنبرة تائهة
-هل خدعتني بشفائها، مثلت أنها بخير، كانت لا تزال تعاني وأنا لا أشعر.
يلتفت نحو عبد الرحمن يتهمه
-وأنت، أين كنت وهي على هذا الحال، ألم تلاحظ، لماذا لم تقومها؟
وبنبرة قاسية أجابه عبد الرحمن
-أنت لم تلاحظ، ولم تقوّم وأنت تعرفها أكثر مني فمالي أنا؟!
يقف بجنون تلبسه، شعر بغضب المقصر، وأحس بحنق المتخاذل فهب يقول
-أنت تتهمني يا عبد الرحمن؟
-بل أخبرك أن أختك متلونة، خبيثة، قادرة على فعل أي شيء وكل شيء..أنا لا ائتمنها على اسمي بعد اليوم، لقد مللت من مصائبها واصبحت غير مجبور على التمادي في قصة لست أنا بطلها.
يحاول الانصراف، فيمسكه طارق من ذراعه، مشفقا عليها من أن تفيق ولا تجده
-عبد الرحمن، أرجوك، هي بحاجة لك.
يهز رأسه بخيبة امل
-هي بحاجة لمعجزة، أختك تشوه المفاهيم وتقلبها لصالحها، لا ترى الكون على حاله، لازالت تهرب منك ومن حمايتها، لازالت تحيك القصص وتجمح بخيالها، وتطورت به لتمثل دور البطلة تعيش أفراحها وأحزانها، هي لا تحتاجني، هي تحتاج للاستشفاء مني ومن كل ما ظنت بأنه طوق نجاة..بحاجة لأن تعلق قلبها بالله وتتقرب منه، عله يلطف بكم.
لم يعد بقادر على إيقافه أكثر من ذلك، وقبل أن يغادر صفع طارق بكلمة خدشت روحه، واسقطته صريعا لأفكاره، وكل ما بناه وحلم به لأجلها هدم
-عاليا طالق، لن أتحمل جنونها من جديد، هي تحتاج لمصحة مدى الحياة.
***
-هل أنت جاد يا طارق؟
تساله بتشتت، فيوميء برأسه لها إيجابا، فتردف
-لم أتخيل عبد الرحمن هكذا، يتركها وهي في أضعف أوقاتها.
تنظر خلود إلى عاليا المغيبة وتسألها بهمس
-ماذا فعلتِ هذه المرة يا عاليا، أم أن الذنب ذنبه؟
يسند رأسه على كفه بحسرة
-بل ذنبي أنا يا خلود..ذنبي أنا.
تقترب منه تسند سقوطه، ويعز عليها رؤيته هكذا من جديد بسبب عاليا وأفعالها
-هي أدمنت الحبوب، فأصابتها بالاكتئاب ورغبة في الانتحار، عبد الرحمن لا ذنب له.
تربت فوق ظهره
-هل أخبرك بشيء؟
-لا يهم..المهم أن هذا الحمل..حملي أنا، وعليّ ألا أشكو منه أبدا.
-هي بخير يا طارق لماذا تتحدث هكذا؟
-ليست بخير، وعلى الأرجح لن تكون.
-ماذا قال عن طفله.
-لم يتحدث عنه، وكانه لا يعلم.
-كيف لقد أتى قبلنا بها لابد وأنه يعلم.
وقت خروج الطبيب لم يكن هناك، أنا من قابلته..
-لماذا لم تخبره يا طارق، لكان عدل عن رأيه.
-لن أتركه يتحمل جنونها لأجل طفل، الله أعلم كيف سيولد، أتظنين بأنه سيكون معافى وهي تتناول أدويتها وكأن شيئا لم يكن!
-كيف لم تعلم بوجود طفل باحشائها، ألم تشعر بالغثيان ولو لمرة؟
تبتلع ريقها وتردف بتفكير
-ربما اختلط عليها الأمر مع أعراض الدواء.
-كانت تتخفى بالمساحيق لتداري هزلان وجهها عنا.
تضع كفها على فمها بخوف، عاليا ومصائبها التي لا تنتهي
كادت أن تتحدث مجددا، إلا أنها تراه مع كل كلمة يزيد من تعبه وخوفه، هي تعلم معاناته أثناء مرض عاليا، عاشت معها أيضا أيام صعبة، خطأ وقعت فيه..جرأة وفضول للتجربة..فرصة مواتية..دمرت حياتها كليا وكأنها لن تنعم بالراحة أبدا.
تتفهم حالته فصمتت، لعل الفرج يأتي قريبا.
***
لايعلم كيف ركب دراجته، ولا كيف وصل إلى ابيه في هذا الوقت والجميع نائم ، هو لا يعي كم الوقت ولا أيا ممن حوله، فتحت له وردة التي لم تفلح عينيها المتخاصمة في استدعاء سخريته الدائمة منها
-أريد أبي.
بصوت منهك، خرج كما خرج، مثقل، متعب، مشوش كحالة ذهنه.
-إنه نائم، تفضل..تفضل سأوقظه حالا.
لم يستمع لما يدور حوله من صخب إيقاظ والده، ولا صوت زوجة أبيه صائحة في وردة
-اتركيني أنام.
ولم يعي لهفة أبيه وهو يجري نحوه وقد خاف من قدومه في هذه الساعة، بل لم يعي هز والده له وقوله
-محمد..محمد..بني، ماذا بك؟
يشير إلى زوجته لتحضر شيئا يأكله، فاتجهت وابنتها كالسهم مذعورين نحو المطبخ
قال والده بلهفة وقد لاحظ تلك الهالات القاتمة أسفل عينيه وانهاك وجهه، ذقنه التي استطالت بعبثية لم يعتدها منه
-محمد، هل تعاطيت شيئا ما، أخبرني يا ولدي لعلي الحقك، محمد..بني، هل أنت معي؟
قال بصوت يشبه الهذيان، وكأنها خرافات من يصارع كابوسا مرير
-أخبرني عن أمي يا أبي، احكي لي عنها.
ثم سقطت رأسه فوق صدر أبيه بغتة، وجسده ينتفض، بحرارة مرتفعة وهذيان أوجع قلبه، وكأنه جاء ليلقي أوجاعه بين أحضانه، يبكي موت أمه الآن.
***
يقتحم مكتبه بغضب، تمنعه أمينة لكنه لا يستمع إليها ولا يراها، يقف مباشرة عندما رأى طارق يدخل مكتبه بهمجية، وعلامات الإرهاق تملأ وجهه
-أخبرني بكل صغيرة وكبيرة حدثت بينكم يا عبد الرحمن الآن،لا تغفل شيء، إن كانت عاليا محطة في حياتك فهي كل حياتي، هي أختي التي لن ينقطع حبل وريدنا أبدا.
يخرج من خلف مكتبه، يتمعن في وجه طارق الذي بدا وكأنه يحمل ثقل أكبر من سنوات عمره..
يعرف أن هذا أثرها على كل من تعرفه، أشار لأمينة بالانصراف وملامحه متغضنة.
يلتفت إلى طارق الذي لازال على وقفته..
يحتار عبد الرحمن في إخباره بالحقيقة الكاملة التي قد تضر بأميرة وسمعتها..
-أختك احكمت المكائد حولي، عطلت شحناتي بالجمارك ذات مرة كما تعلم، والأخرى وضعت المخدرات بها لترغمني على الزواج منها.
يرتفع صدر طارق بصدمة مستهجنا أفعالها..
-يكفي هذا أم علي أن أخبرك بأنها لفت حول سالم وجعلته يقف ضدي ويرغب في الانتقام مني لأنني اخذت حبيبته، عاليا أغوته وذهبت إلى بيته، سحرته بجمالها وتحررها فرغبها، وعندما ذهبت إليها ساومتني، إن أردت الابتعاد عن سالم فلأتزوجها أنا.
انعقد حاجبي طارق بتفكير فينتشي صدره بمعرفة أخيها حقيقتها، بات لا يهتم أن قتلها..لكنه لايظن بأنه سيفعل، وإلا قد فعل منذ زلتها مع كمال.
-عاليا كانت تحتاج لكسر الرأس، لا التوجيه، أنا أراها مدللة، دوما ما تنال ما تريد، وأنا كنت ضمن أمنياتها.
يفتح يديه بتعجب ليكمل
-ولا أعرف لماذا، ولم أكن في مرمى بصرها لتراني من الأساس، أختك كانت لعنة دخلت حياتي لتدمرها وهي تظن بأني مكافأة القدر لها.
صمت طويل، ذكريات عاليا مع طارق تنساب أمام عينيه، هو يعلم جنونها لكنه لم يكن يتخيل أن تدخل حياة أحد لتفعل بها الأعاجيب هكذا، لكن سؤال اقتحم عقله وترجمه لسانه
-لماذا أرادت الانتحار يا عبد الرحمن؟
-لأنها تعقبتني في هذا اليوم ورأتني بصحبة سكرتيرتي أُنهِ أعمالي، فهاجت واتهمتني بأني على علاقة بها.
-لا أراه سببا للتخلص من حياتها!
-أختك تدمن الحبوب من وقت طويل بحجة أن لها أشباحها، تعاني القيء والارتجاف، وهناك مكالمات ما كانت تصلها ظنتها من كمال وبدأت حالتها في السوء.
يعافر بين الغضب، والكلل، لقد فقد طاقته معها، لقد حاول انتشالها مما تعانيه، لقد أوهمت الجميع أنها شفيت وهي لاتزال تعاني..
-من كان يجلب لها الحبوب يا عبد الرحمن.
وباجابة حاسمة قال
-لا أعرف، أختك لها طرقها في كل شيء.
أسبل طارق جفنيه وهو يحك جبهته بارهاق، يقول بصوت تلاشت منه الحياة فخرج متجمدا مرتجفا
-عاليا هربت من المستشفى يا عبد الرحمن صباحا.
يرفع عينيه بأمل نحوه
-ألا تعرف لها طريق قد أجهله أنا؟
رغم غضبه منها إلا أنه يشفق على طارق صدقا من أفعالها..
-لا..لا أعرف عنها أي شيء، لم أرها تتحدث إلى أحد أو ترغب في زيارة أحد، حقا لا أعرف.
لقد كانت دوما ما تمتنع عن زيارة طارق كلما وجه لها دعوة قابلتها بالرفض متعللة بأنها عروس وترغب تمضية جميع أوقاتها معه.
-هل..كانت علاقتكم ..طبيعية.
يجيبه بصدق تام
-كان يتخللها بعض الخشونة، غضبا مني، وعلمت أن الأمر على هواها بعد أن اخبرتني بسادية كمال عليها.
يخفض طارق بصره أرضا، خزيا من أفعالها التي تطوق عنقه..
بينما عبد الرحمن يقدر موقفه تماما، فلطالما شعر بتلك الأحاسيس وهي على ذمته، أيخبره بشعوره بالتحرر منها منذ انفتح فمه ولفظ طلاقها..
الآن هو يشفق على طارق، وكأنه ليس طرفا فيما حدث بعد أن طلقها..
كأنها مشكلة لا تخصه..
لا يشعر بالحنين إليها ولا بالشفقة عليها..
يتعاقب شعور الخزي والتيه على وجه الرشيد فتلتقطه عيناه هو لا يلومه، حقا لا يلومه.
بينما طارق أيضا يشفق على عبد الرحمن، فابنه ينمو داخل احشائها وهو لا يعرف..
يعلم بتعاطفه معه، وأنه تحرر منها بالأخير، لكن ما يغفله، أن عاليا لو انجبت وتعافت، سيكون رباطها بها أزلي...
***
لا تستطيع السيطرة على خفقان قلبها المجنون، حاولت الالتهاء بما تعمل إلا أن صوتهما العالي اخترق الباب ووصل إليها..
لم تهتم لسماع تللك التفاصيل إلا أن ما أسعدها أن عبد الرحمن الآن حر..
غير مرتبط بها، ولا بغيرها..
الآن تتحرر من غضبها وحنقها عليه..الآن..
تتوقف عندما تسترجع حديثهم الذي انتهى منذ ساعة أو يزيد، انتهى بخروج طارق بخطوات سريعة وكأن الشياطين تلاحقه..
تكمل عملها بشكل عادي إلا أن التفكير به لم يتوقف.
لقد انخفض صوتهم مرات عديدة، يبدو أنهم وصولوا للتفاهم وقتها..بينما ارتفع في مرات جلية سمعت حديثهم بوضوح..
ما يهمها في هذا الجدل الواسع لعاليا..هو أنه طلقها، وأنها انزاحت من طريقهم إلى الأبد..الآن سينظر إليها من جديد، ربما يطلبها للزواج غدا، فهو رجل ليس له عدة..
تزداد ضربات قلبها شوقا للوقت الذي يأتيها خاطبا لتطيب قلبه، وتزيل عنه ما خلفته عاليا من ندوب، يرن هاتفها فتجيب
-مرحبا يا أميرة، كيف حالك الآن؟
تتذكر حالة أختها في الأيام السابقة بعد ما حدث في شقة فوقية، كانت تبكي بكاء شديدا ببال مشغول، تشفق عليها من هول ما رأت، وزميلها ملقى أرضا على شفا الموت.
حظيت بيومين من الدلال الخالص بصحبة أختيها، رغم اهتمامهم بالخالة فوقية التي كانت في حال يرثى لها فور مغادرة محمد المنزل.
تستمع إلى ضحكة أميرة الخجول و تظنها تعافت أخيرا.
-حسنا ساعة على أغلب التقدير وأكون معكم.
تغلق معها..وتركز في الورق أمامها..تنتظر الأمل القادم المنبعث من طلاق عبد الرحمن.
***
"إلى اليسار"
يهتف بها سالم في أحدهم يحمل ماكينة خياطة فيحدد موقعها للعامل، بينما آخرين يلملوا عدة طلاء الحوائط ليغادروا..
اليوم انتهى من أعمال الطلاء، وفي نفس اليوم قام بشراء تلك الماكينات الحديثة..
هو لا يعلم هل يمكنها الخياطة أم تريد عاملات تحت يديها، هي تصمم وهن يحكن الملابس..
سيسألها..
هو لم يراسلها منذ أوصل محمد إلى منزله، كان آخر ما ناله نظرة جذابة من عينيها عندما عاد تحت بيتها ليعود بدراجة محمد، كانت تستمد من الليل هدوءه، ومن القمر هالته، سيموت فداء سعادتها.
رأته، ومنحته نظرة أمدته بالطاقة ليعود بدراجة محمد ويصعد مجددا إلى منزله ويضع مفاتيحه وخوذته.
وعندما أمسك هاتفه ليسجل رقمه، وجد رسالة من أميرة، كما يسجلها باسمها، ترجوه أن يطمئنها عليه، ليقرأ المحادثات بينهم، والتسجيلات، يبدو أنه لم يبتعد عن طريقها بعد ضرب عبد الرحمن له.
شعر بالحمية والغيرة الشديدة، دخل وقتها بهمجية ليوسع ذاك الأحمق ضربا، لكنه وجده على حال لا يحتمل معه أي شيء آخر، يبدو كمن يحتضر، لا ينقصه دفعة أو صفعة.
غادر لينظر في هذا الأمر لاحقا، ربما ستكون المرة الوحيدة التي سيفكر فيها بعقله منحيا غضبه.
انتهى العمال من تنسيق المكان، فعاد لسعادته الخاصة، يخطط في نفسه لتلك المفاجأة دون أن يتحدث إليها..
ربما يكون هدية نجاحها، هو يثق بأنها ستنجح، فحبيبته متفوقة في كل شيء..
ينصرف العمال، ويقف وحده أمام صرحه الصغير الذي أسسه لها..
لأجل عينيها..
إيما يجب أن تكون ملكة، رائدة، تدير العالم من عليائها..
لم يتردد للحظة في فعل ما أقدم عليه..
لقد حدد مشاعره، وبناء عليها تصرف..
يحبها..إلى الحد الذي يجعلها لا تفارق عقله..
يعمل لأجلها، ينجز هذا الصرح لأجلها..
كل أمواله وعقله وأفكاره لها وحدها..
هي لا ينقصها شيء بينما هو من يحتاجها..
يرن هاتفه ليجيب عبد الرحمن..الذي يريد مكانه، يحتاج للحديث معه..فأخبره سريعا بالعنوان، ليقف منتشيا بانجازه، في انتظاره..
يجوب المكان بتمهل، ينظر إلى مكتبها..
لقد اشترى لها أجود الأوراق، وأرقى الأقلام في عالم الرسم..
يتوق لرؤيتها لكنه ضرب على قلبه، وأخبره أن الحلال أقصر الطرق..
يستمع لخطوات داخل المكان، يلتفت إلى خاله مرحبا به، يحتضنه...
رغم تخلصه من عاليا وطلاقها، إلا أن وجهه ليس بخير، وكذلك جسده الذي عكس همومه فنحل عما كان.
لم يعد خاله القديم بل زادت الأعباء ارهاقه..
يتأمل المكان بوجهه
-ماشاء الله، ستكون خياط شهير قريبا يا سالم.
-لا..ليس لي.
يتصنع التفكير، يفرقع بأصبعيه
-آه..إيما.
يتذمر من ذكر خاله اسمها هكذا
-أرجوك ستفضحني، لا تلوك اسمها هكذا فتتهمنا أمينة أن شيئا ما يجمعنا خلف ظهرها.
وعلى ذكر أمينة ..لانت ملامح عبد الرحمن، رغم حزنها.
يحتاج إلى وقت ينسى ما حدث بينه وبين عاليا.
-أريد ان اتزوجها.
-هل أنت جاد؟
-نعم.
-كيف ستتحدث اليها يا سالم...
-هكذا.
وبدأ بعمل إشارات بيده، وعلى فمه، لامس عينيه..وجهه..وعبد الرحمن يقف عاجزا أمام ما يراه، لقد تعلم سالم من أجلها لغة الإشارة..
يحك ذقنه مبتسما
-وماذا لو أتى صغارك يحملون نفس المشكلة؟
-لها خالتين، وأنا وأنت، كلنا نتحدث، لن ننقطع عن بعضنا، سنكون عائلة كبيرة يا خالي..أنت وأمنية وأنا وإيما،لن أتوقف عن زيارتكم، أولادي لن يتوقفوا عن الحديث، سيكونوا مثلي، يميلون للرغي المتواصل بدون قيمة.
جمع سالم اسمه بأمينة جعل هذا الراكد المتوقف بفعل التراب يئن، متراخيا إلا أنه ما زال حيا في صدره..
يلقنه سالم درس في الحب والتراحم وبناء العائلة..
لكم أحب كلماته..
-حسنا، حدد الوقت الذي تريد الذهاب فيه لنطلبها، أنه اختيارك وحياتك بالأخير.
يصدم كفه بقوة علامة الموافقة..
سعيد هو بما وصل إليه..ينتظر نتيجتها بفارغ الصبر..
ونجاحها.
-أود الحديث معك بشأن محمد.
عقد حاجبيه متذكرا
-محمد!
-أجل، من كدت تفتح سيارتك لتتخلص منه ونحن ننقله إلى منزله.
-وهل أعجبك المنظر الذي وجدناه، بساط في غير مكانه، ثلاث فتيات ورجل مفكوك حزامه وحذاءه، وحوله ثلاث فتيات، ألم يثرك ويضايقك أنت الآخر.
لا ينكر ضيقه وغيرته إلا أن الأهم الآن شيء آخر
-أميرة لازالت تتحدث إليه ، وبينهم تسجيلات صوتية أيضا، وما استشعرته بأنها تكن له المشاعر.
مرق الغضب فوق عيني عبد الرحمن يستمع لحديث سالم بصبر
-لقد انقطعت عن الحديث معه لشهر كامل، لقد انبتها ايمان.
شعر بالفخر فلم يستطع منع ابتسامته الشقية مع تذكرها فصاح به عبد الرحمن
-أكمل.
تنحنح سالم وأردف
-وتلك المرأة التي كان في بيتها رأت اتصاله بها، لابد وأن ما حدث هناك يومها متعلقا بأميرة، ألا تظن ذلك؟
خوفه على أخت أمينة وتربيتها لهم جعلوه يشرد فلكمه سالم بلطف
-خالي، ما رأيك؟ ربما فوقية هذه علمت بما يحيكه محمد لها فطلبت منه المجيء لتأنيبه، ألم ترى لهفة أميرة عليه ودموعها ووجهها المتألم، وصراخها فيك، هي تحبه لا محالة.
يزن الكلمات برأسه
-ما علمناه أن فوقية هذه لها زوج، فهل تدعو رجل غريب لبيتها وزوجها غير موجود وهن لديها، حتما لكانت أمينة تعرف على الأقل، لو كان الأمر كما تقول لكان من الأفضل دعوته في منزلهم لا منزلها، ولربما دعته خارجا، لا أظن الأمر هكذا.
وازداد تفكيره فاردف
-ثم إن حالة الرجل لا تنم عن سب أو إهانة أو حتى تهديد بعدم الاقتراب من أميرة، الأمر مهيب كي يصل بشاب كهذا لتلك الحالة، ألم ترى ضخامته يا سالم، أن يسقط بهذا الشكل، هو غريب، وراءه سر.
أردف بشرود
-اتعلم ما الذي لا أفهمه حتى الآن، يوم ذهبت إليه لأضربه لم يقاومني، بل تلقى ضرباتي صاغرا وكأنه مستمتع أو ما شابه، لقد كان بإمكانه رد ضرباتي أو صدها على الأقل، هناك شيء غير مفهوم.
-ربما يحب أميرة بصدق، عندما طلبت منه الابتعاد امتثل ولم يراسلها.
-وما ادراك، ربما كان يهاتفها، لا نملك دليل.
يهز سالم رأسه لينه الحوار عند هذه النقطة، وقد أنهكه التفكير.
***
ترى حبات البوشار تقفز في الطنجرة أمامها، تعد ثلاثة أطباق لهن، ولا تستطيع رفع عينيها عن علبة الحلوى، التي يذكرها طعمها بسالم على الدوام..
تفتح العلبة، تتناول قطعة صغيرة وتعيد إغلاقها من جديد، التقطت حوالي خمسة قطع وهي في انتظار انتهاء البوشار..
تنحنحت براحة..
تضع ما صنعت في صحون عميقة، وقد أعدت أميرة حلقات تشارلي تشابلن كي تشاركهم إيمان المشاهدة..وقد ارتاحت بعد تلك الرسالة الفقيرة التي أرسلها لها بأنه بخير، لا تعرف المزيد عنه لكنها لا تتوقف عن التفكير فيه وفيما يعانيه.
تمنع نفسها بشق الأنفس عن الإتصال به، تخبر نفسها بأنها ستطمئن عليه من صوته ثم تعلق سريعا، وبعدها تتراجع عن أفكارها.
الخالة فوقية في حالة صمت وسكون تام، تمتنع عن الخروج من شقتها، وكذلك هن لا يثقلن عليها وهي بالأخص، تزورها وتتودد إليها وتغادر بهدوء، منزعجة من وجهها القاتم وصمتها الدائم، مشتاقة لنكاتها التي لم تكن تضحكها، وترغب في حديث تعلم منه ماذا جرى بينها وبين محمد أدى بهم لهذا الحال.
تأمل أن تخرجها تلك الحلقات من كآبة أفكارها وهلعها عليه، ولازالت هيئته وهو ملقى أرضا تراودها في أحلامها، شعورها بأن الإنسان ما هو إلا لسان يلقي بكلمات هنا وهناك ولكنه في لحظة قد يصمت للابد.
خافت فقده كفقد جميع من أحبت، بل أغلى من أحبت، بات الموت هاجسها الذي تخشاه، وها هي قد كانت على وشك فقدانه هو الآخر.
تتعالى ضحكات أخواتها بينما هي تكتفي بابتسامة تجاري الوضع، وداخلها لا يزال يحترق بمجرد التفكير فيه.
إيمان تراقب بصمت حكيم، ما حدث في شقة الخالة فوقية شيء كبير لم يعلموا سببه حتى الآن، لكن ما همها هي مشاعر أختها التي تيقنت بأنها تحب ذلك الشاب لا محالة، عينيها الشاردة الآن تخبرها بأنها لازالت تتوجع لأجله، ليتها تعرف ما حدث، فالجميع يمتنع عن الإجابة.
بينما أمينة تضحك بصخب، وكأنها تعاكس ما تشعر به، تتعجب من ضحكاتها بنفسها رغم حزنها وأرقها مما يحدث لها ولعبد الرحمن، وكأنها تفرغ بؤسها ونكدها بالضحك.
قطع سهرتهم الغريبة رنين هاتف أمينة، أجابت سريعا عندما وجدت اسم خلود
-مرحبا يا أمينة، آسفة لمحادثتي لكِ في هذا الوقت، لكني أريدكِ في أمر هام، اعذريني.
-تفضلي يا خلود..لازلت مستيقظة.
-ألا تذكرين مكان ما ذكرته أمامكِ عاليا ذات مرة، أو ربما اسم صديقة..هل تعرفين أي شيء أو مكان يمكنها الذهاب إليه؟.
-للأسف لا يا خلود، حدودي كانت العمل كما تعلمين، كنت أخبركِ بكل شيء، لقد علمت اليوم ما حدث، لقد أتى السيد طارق إلى المكتب اليوم وكان غاضبا، آسفة لمصابكم، ستجدونها إن شاء الله.
-يا رب يا أمينة، طارق يكاد يجن عليها..خاصة أنها حامل وتتعاطى الحبوب، خائف على الجنين من تهورها، عالقين نحن بين إيجادها وبين إخبار عبد الرحمن بالحقيقة.
وكأن أحدا ما شق قلبها بطعنة قاتلة في لحظة، تجهم وجهها..كاد الهاتف أن يسقط من يديها ونبضها تحول إلى نبض الموت، خافت..بارد..
-إن علمتِ شيئا يا أمينة أخبريني أرجوكِ، حتى لو من عند عبد الرحمن، ربما تلاحظين أي شيء..آسفة إن أزعجتكِ حبيبتي، إلى اللقاء.
أغلقت الهاتف وصدرها يؤلمها، يتابعنها وقد تحولت ضحكاتها إلى حزن وشحوب..
لم تنتبه لنفسها وهي تترك طبقها لتدخل غرفتها غير مصدقة ما يحدث معها..
عاليا تحمل طفله..
لقد كانت حياتهم طبيعية كأي زوجين، وهي التي تمسكت بآخر طرف لربما لم تعجبه..
حامل منه، تحمل نطفته..
والأصعب أنه لا يعلم..لقد حملت بطفله وهربت، أي مصيبة تلك التي حلت فوق رأسه..ورأسها؟!
***
يشعر بالخوف الشديد على ولده، هو لم يشاهده بحالة كتلك من قبل، حاول أن يستنطقه فلم يكن محمد بوعيه ليجيبه.
-الحساء يا عمي.
ناولته وردة الصحن الدافيء، يدعو أن يساعده ولده ويتناوله بعد أن رفض الدواء منذ قليل.
أنّاته في نومه تشعره بأنه يعاني شيئا ما، هل فقد حبيبة، تعاطى شيئا ما ،هو يثق به كل الثقة، ليس ككل الشباب ولا يعاقر شيئا سيء، ينظر إليه حيث الضوء الخفيض في غرفة وردة التي احتلها وولده الليلة حتى يفهم ما الأمر، سيجاوره اليوم فهو بحاجته.
-محمد، بني..استيقظ.
شفاهه البيضاء أخبرته أنه لم يتناول الطعام منذ وقت طويل
-قم يا بني لكي تأكل.
يضع كفه على جبينه وقد تعرق كثيرا أثناء نومه ففطن أن حرارته قد انخفضت.
يرفع بصره إلى أبيه ولازال متوسدا ومتلحفا بالأغطية، ربت والده بحنان فوق رأسه، يمسح عنه عرقه، فيقول محمد
-حدثني عن أمي يا أبي..أرجوك.
فتحمر عينيه فجأة وتنزلق الدموع من عينيه
-لماذا طلقتها يا أبي، لماذا لم تتحملا لأجلي، لماذا جعلتماني مشتت بينكما لا أعرف الصواب من الخطأ.
ينحي الصحن جانبا ويعتدل في جلسته ليقابل ابنه في نومته ويقول بنبرة حانية
-لقد علمناك الصواب والخطأ يا محمد، لقد فعلنا يا بني.
-لماذا طلقتها؟
تخرج الهاء بوجعه وأنفاسه الشاهقة كطفل في السابعة، يجذبه والده وقد رق قلبه لابنه، فأسند محمد رأسه على كتف أبيه مستسلما للوهن الظاهر من عظامه.
-هناك أشياء لا يجب أن تحكى يا محمد خاصة أن أمك توفت يا ولدي.
يبتعد عن احضانه، فيرى والده دموعه المتلألأة في هذا الضوء الأصفر.
-بل انتحرت.
تنهد أبيه قلقا، هو لم يتعاطَ حديثا عن انتحار أمه من قبل، ظن أن بتجاوزه لربما كان أفضل لهما.
-لا أعرف لذلك سببا، لقد كانت أمك إنسانة سوية فاضلة، شريفة، مؤمنة بربها، لا أعلم ما الذي جعلها تخطو نحو هذا الفعل، وأيا كانت أسبابها ليس من شأني محاسبتها.
يتشرب كلمات أبيه كالأرض العطشى، سأله بغتة
-هل كانت تحبني يا أبي؟
-أكثر من أي شيء، لقد فعلت كل شيء لأجلك، حتى طلاقنا كان لأجلك بني، لقد وصلنا لمرحلة في زواجنا لم يستطع أيا منا تحمل الآخر، هي متعلمة وعاقلة، وأظنني كذلك، جلسنا جلسة متحضرة خائفين على تأثير عدم تفاهمنا عليك، واتفقنا على الطلاق، منحتها حريتها شريطة ألا تحرمني منك وقد فعلت، بل حافظت عليك، وجعلتك رجلا أفخر به، لقد تركتها ثلاث سنوات ولم أهتم بامرأة بعدها، وانتظرتها ربما تهدأ ونعود، لكنه النصيب يا ولدي..النصيب.
يزداد بكاءه وارتجافة جسده فيقول أبيه
-ما الذي تعانيه يا محمد، أخبرني يا بني، إن كنت ضللت طريقك يمكننا العودة، أنا جوارك، لا تخشى شيء.
يعود إلى نومته مرتجفا، يجذب الأغطية حتى عنقه، وحب والده لها يصيبه بتأنيب مضاعف، لقد حرمه منها بغباء وحمق، وطيش أهوج.
يخرج صوته مكتوم من تحت الأغطية
-ذكرني بها يا أبي، قص لي ما لم تُسمِعني إياه يوما، احكي لي عنها وعما أحبت وكرهت.
يعذب نفسه، ويجلد ذاته بتلك الطلبات، لكنه لا يملك سبيلا للتكفير عن جرمه سوى ذلك.
-وأين ذكرياتك أنت عنها؟
أيخبره أنه محاها من عقله، بات يكرهها حتى توقف عن التفكير فيها
-سأحضر لك البوم الصور الخاص بنا، لكن بشرط، أن تحتسي هذا الحساء، وإلا ارسل لك وردة تطعمك إياه بيديها.
ثم يحرك رأسه بمسرحية، فتنفرج شفتيه بابتسامة، وعينيه لازالت تذرف دموع الأسف والحسرة.
***
أنت تقرأ
بطل الحكاية
Mystère / Thrillerالجزء الثاني من Abasement(إذلال) تكملة لقصة عاليا وظهور ابطال جدد وقصص جديدة. لقراءة الجزء الأول من هنا https://www.wattpad.com/story/210517528?utm_source=android&utm_medium=link&utm_content=story_info&wp_page=story_details_button&wp_uname=HalaHamdy...