الفصل الثالث

101 4 0
                                    

الضوء الساطع في قاعة إجتماعاتها الكبيرة أنساه إن كان الوقت نهارا أو ليلا.
العاشرة صباحا كما حددت، وجَّهتهم أمينة نحو المكان المتسع المخصص لتلك الجلسات.
طاولة إجتماعات تتسع لعشر أفراد، طاولتها مربعة يعلوها زجاج لا يعرف أهو ملصق أم هو جزء خشبي لامع من أصلها!
لقد أنفقت عاليا على المظاهر جيدا، كل ما يتعلق بالأموال برعت فيه، يعترف بذلك.
-السيدة عاليا ستكون معنا بعد لحظات.
صوت أمينة ما أعاده للواقع، ينتقل بنظره إلى سالم فتتلاقى نظراتهم، فيرفع حاجبيه مسبلا جفنيه يتشرب كلمات عبد الرحمن عبر عينيه، عاليا توجه لهم إشارة..فهماها جيدا.
فتح باب القاعة لتدخل إليهم يسبقها صوت حذائها الأبيض ذو الكعب العالي، يتابعها سالم بنظرات متفحصة من أعلاها وحتى أخمص قدميها.
بنطال جينز أزرق بعلامات بيضاء أعلى فخذها تناسب الموضة، قصير يظهر شيء لامع حول أسفل ساقها.
تقترب من الطاولة فيهب سالم يزيح الكرسي بحركة أرستقراطية لاحت منه.
لمحها بطرف عينه، جلست تعدل شعرها الذي يعلم جيدا كم أنفقت من المال والوقت ليبدو هكذا، فلقد كان يوصلها بنفسه إلى مصفف الشعر وينتظر خروجها.
سترتها البيضاء القصيرة لم تغير من قبح وسواد أفعالها التي لطالما طفت على السطح دون جهد منها.
أمينة تنظر في الأوراق أمامها تراجع نقاط الإجتماع، وتوزع ملفات عليهم.
لم تتعلق أصابعه بالورق الذي وضع بعناية أمامه، لكنه يخوض صراع مع أنفه التي زاحمها عطرين مميزين، أحدهما يخص عاليا، نفاذ، ناعم، بينما الآخر التقطته أنفه وأمينة تمر بجانبه تضع تلك الأوراق أمامه.
وكأنها احتضنته للتو ومنحته جزء منها.
ليس عطر فرنسي غالي، إنما هي رائحة عتيقة، تشبه تلك التي تتعلق بالملابس المخزنة داخل سرة مصنوعة من ملاءة قديمة مدفونة بداخل كنبة عتيقة من أيام جدته.
يرفع حاجبه بمرح، تسللت إبتسامة ذكريات إلى فمه، لقد ذهب بخياله إلى زمن بعيد جدا بعد ذكرياته.
غاظها عدم الإلتفات إلى دخولها،وتلك النظرة التي منحها لها، نظرة عدم الرضا.
سكنت أمينة في كرسيها وعيني عبد الرحمن فوقها، فقالت عاليا تغالب حنقها
-مرحبا عبد الرحمن، لم نلتقِ منذ وقت طويل.
يلتفت إليها بوجهه يراها تجلس على رأس الطاولة
-خمس سنوات..أظن!
-بل عشرة.
حاول رسم ابتسامة مجاملة ليضفي الود على أول لقاء بعد تلك السنوات ففشل، يستعين بسالم بنظرة تحمل معني"انجز ما جئنا لأجله"
بينما عاليا ضاق ما بين حاجبيها بما يشبه خيبة الأمل، لم تكن تنتظر تعبيرات كتلك بعد كل هذه السنوات، فآخر لقاء يسجله عقلها إنتهى بها بين ذراعيه.
-بلغنا بأنكِ تحملين عرضا لنا سيدتي، فهل نبدأ؟، لدينا عمل ينتظرنا.
قالت بعد تفكير قصير
-تقصد المزاد الذي يجمعنا بعد قليل.
قال سالم باحترام
-أجل.
يضيق من هذا الاحترام الذي يتحدث به سالم بينما هو يرغب في تكسير رأسها غيظا وكمدا مما تفعله، عن أي مزاد لعين تتحدث وكلاهما يعرف أنه لها!
-شراكة.
تعلقت الأنظار بها، وكانت عينيه المتشككة آخرهم، فأكملت
-جزئية.
نال تخبطهم إعجابها فتابعت
-لكل ما يخص المناقصات والمزايدات والمزادات.
هم عبد الرحمن بقول شيء فأمسك سالم ساعده متمهلا ليرى الصورة كاملة، فلجم عبد الرحمن لسانه يستمع لما يدور
-سيدة عاليا، لقد خسرنا حتى الآن ثلاث صفقات بسببكِ، والآن تعرضين علينا شراكة جزئية، هل يمكنكِ التوضيح أكثر؟
لم يستطع عبد الرحمن الصمت أكثر من ذلك، أيا كان ردها فهو هراء
-أي شراكة تلك التي تحتاجيها من شركة تستطيعين فعصها بحذائكِ، ما الفائدة العائدة عليكِ يا عاليا من شراكتي؟
تتأرجح على كرسيها المريح وتقول ببرود
-عليك أن تسأل ما الفائدة العائدة عليك أنت يا عبد الرحمن؟
قال سالم مكررا سؤالها بتحفز رجل أعمال ينظر للربح، غير مهتم بتلك المشاحنات بينهم
-والعائد علينا؟
تتحدث بلهجة سلطوية تحتوي سيجارة بين أصابعها
-شراكة ربحكم فيها من كل صفقة 60%، فأنا أريد الخبرة.
قال عبد الرحمن بغضب يحاول السيطرة عليه ضاغطا على أسنانه
-تمنحيني نسبة أكثر من النصف فقط للخبرة وأنتِ وحدكِ بأموالكِ بدون خبرة كبدتني خسارة لا بأس بها، أنتِ تحيكين أمرا أجهله.
تضحك على ثقته فيها، تؤجل ما تحيكه لوقته، تواري سعادتها خلف برود إجابتها
-لماذا تصر على شخصنة الأمور يا عبد الرحمن؟
-لأني لا أجد كلامكِ مقنعا.
قامت تمسك قلم نحو شاشة مسطحة مرفقة بالغرفة، وطرقعة حذائها يزعجه
-حسنا إليك القصة من البداية.
تخط فوق الشاشة لتوضح فكرتها
-لقد دخلت مجال الأعمال وأنا أظن أن كل شيء يشترى بالمال كما تقول، بينما مع الوقت، إكتشفت بأن علي التعلم واصقال المال بالمعرفة، سأضرب لك مثال، الطفل الذي تمنحه الكثير والكثير من الحلوى، سيظل يأكل ويأكل بلا توقف إلا لو نصحه أحدهم بالتوقف لأجل صحته.
قال سالم يجاريها
-لكن الأموال وزيادتها لا تضر بالصحة.
منحته ابتسامة هادئة وهي تكتب كلمة وتضع تحتها خطوط كثيرة
-لكنها تفقدك الشغف، المتعة في التنافس، تشعر وكأن كل قرش تكسبه تحصيل حاصل، ما سيمنحني الشغف هو التعلم ممن يملك الخبرة، تلك التفاصيل التي تجعلني أفهم كل شيء.
قاطعها عبد الرحمن بنزق
-وحالما تتعلمي تقصيني وتعودي لمحاربتي بحجة أخرى وهي أن القانون لا يحمي المغفلين، ما الذي يضمن لي عدم انقلابكِ عليّ؟
-شرط جزائي ضخم لمن يقدم على فسخ العقد دون موافقة الآخر.
صوتها الذي يقاطع الحديث لأول مرة في اللقاء، كان كرجاحة كفتي الميزان وقد كان كلا منهما يطففه، تعلقت العيون بها في صمت فأردفت باستسلام
-إن وافقتم!
يفكر في هذا العرض الذي لربما رتبته عاليا من قبل مع سكرتيرتها، إلا أن تلك النظرة الصماء من عين عاليا أخبرته بالعكس.
انتقل ببصره إلى سالم الذي استحسن الفكرة على ما يبدو.
قالت تتخلص من مفاجئتها، يعمل عقلها سريعا وتقول
-موافقة.
بدأ بأرجحة كرسيه هو الآخر يفند الأفكار في رأسه.
إن لم يوافق بهذا العرض عليه العودة إلى الخسارة التي ستجد عاليا في إلحاقها به كطفلة فقدت لعبتها.
لقد أجابت في هذا اللقاء على كافة أسئلته ومخاوفه، إلا أنها لازالت قائمة رغم أنه بحسبتها رابح، كل ما يقلقه هو التقرب منها.
يتوقف عن أرجحة كرسيه بينما عاليا عادت لجلستها السابقة، وأمينة قامت تلملم الأوراق فإن الإتفاق زاد بندا هاما وعليها إضافته.
فأعادت الكرة من جديد، لتضربه رائحتها مجددا وقد أصبحت رائحتها وحدها دون منازع بعد أن فاح عطر عاليا وتبعثر.
ذلك القرب الحميمي وهي تلتقط الأوراق فتفرد ساعدها بالقرب منه، جعلت الرائحة تقتحم أنفه خالصة دون شوائب.
عادت أمينة إلى كرسيها وهي تقول
-مزاد اليوم يمكنه الدخول ضمن الشراكة لو وقعنا العقود اليوم.
يميل عليه سالم يمنحه موافقته
-اتركي لي الوقت لأفكر واتركي لي مزاد اليوم فأنا أحتاجه بعد خسارتي المتوالية.
-هذا رجاء ودي، أم أمر وجب تنفيذه سيد عبد الرحمن؟
ابتسامة ساخرة منها ردت في صدره وهي تكمل
-هل تملك ما يكفي للفوز به؟
ابتسم سالم يعجبه ما يحدث، يراها شخصية متكاملة، أنثى بمعنى الكلمة حتى وهي تدير حوار عمل يحتاج صبر وصرامة رجال، محددة وثابتة، مثابرة لتجعل عبد الرحمن ماكث فوق كرسيه لهذه المدة مع شخص يكرهه، ترى أهي خسارته أم سبب آخر لكرهها لا يعرفه؟، أطفأت سيجارتها التي أضفت على لوحتها الرقيقة نزعة تمرد أعجبته، منجذبا لخروج السيجارة من شفتيها المكتنزة تبعه دخان تشمئز منه رئتيه ..لكن لا بأس يشفع لها جمالها.
قالت بلين ملامح قبل إجابته
-انزع تلك العقدة عن حاجبيك يا عبد الرحمن، أنا أمزح، المزاد لك إن اجتهدت، لكني لا أعدك بأكثر من ذلك، لابد وأن تعود إليّ بالموافقة.
تراقب أمينة ما يحدث بينهم وبداخلها ألف سؤال، تاريخ  عاليا الذي سطر نصفه بحجرها والنصف الآخر بحكاوى خلود، جعلها تشفق على عبد الرحمن في مواجهتها، لا تعلم مقاييس تلك اللعبة التي ترتب لها عاليا، لكن ما استشفته، أنها لا تنوي به خير.
ربما الشرط الجزائي ما اقترحته يعود عليه بالنفع، فعاليا لاتخرج خاسرة من صفقة أبدا، مهما كلفها الأمر.
ترك الهاتف وقام يخرج ثيابه من غسالة الملابس ويمسك بحاوية المشابك متوجها نحو النافذة ليقوم بنشرها، هكذا اعتاد على خدمة نفسه، يبتسم من ذكرى كلماتها
-اترك ثيابك في الشمس يا عبد الرحمن دعها تطهرها من عرقك.
وكأن الماء ومسحوق الغسيل لم يفعلا..وهكذا يصر على تجفيف ملابسه بنشرها في الخارج منصتا لكلمات أمه حتى بعد وفاتها.. حيث الشمس.. وليس في المنشر الداخلي المتحرك
رن هاتفه في ذات الوقت التي أفلتت سترته من يديه لتسقط أرضا.. في الشارع.
انطلق نحو الهاتف..يفتح بابه مسرعا حتى ينقذ سترته من السرقة، يجيب على هاتفه وهو يركض حافي القدمين
فيأتيه صوتها المنفر، يخبرها من بين أنفاسه
-عاليا، ليس الآن، أنا منشغل بأمر هام سأعاود الاتصال بكِ بعد لحظات.
كانت آخر كلماته مع وصوله إلى الشارع الذي روته مياة الأمطار ليلا فتلطخت قدميه بالمياة صعودا إلى ساقه، يغلق الهاتف في ذات الوقت مع التقاطه سترته مع تساؤلها باسمه
-عبد الرحمن!
يرفع نظره ليجدها أمام بنايته، تخرج من سيارتها الحديثة، بشعرها الأصفر المنسدل وملابسها الأنيقة.
هم بعصر سترته أمامها فرجعت إلى الوراء تخشى تلطيخ ثوبها.
-هل هذا هو العمل الهام؟
قال متجهما
-لحظات وأعود، انتظريني هنا.
وكأنه يتحدث إلى طفلة يمنعها عن منزله.. ماذا سترى في منزله وقد رأت منه الأسوأ خارجه؟!
يرتدي شورت في هذا البرد القارس ويخرج من شقته حافي القدمين!
كيف نزل الدرج هكذا ألم يخشى فضيحة ما؟
دخلت سيارتها لتجده بعد لحظات يرسل إليها عنوان مطعم قريب حتى يلحقها.
شغلت سيارتها بهدوء..تزحف إلى شفتيها ابتسامة لم تستطع إخفائها أكثر من ذلك تنعته بالمجنون في سرها.
يتصرف وكأنها ستأكل منه قطعة..ألم يكن سائقها فترة مراهقتها المهينة، من يوصل إليها طعامها، وينقل أخبارها لطارق،  تبتسم مجددا عند ذكرها طارق ويوسف بالتبعية، يشبهه هذا النمر الصغير، لا، بل يشبهها هي!
تهرس حبات الفول الذي قامت بتدميسه بالأمس، تمسك الشوكة وتتصيد حبات الفول وتقوم بهرسها كل حبة على حدة، تشعر بالاستمتاع وهي ترى ما بداخل الحبة القاسية يخرج بنعومة من ضغطتها.
تقلبها مع قطع البصل الصغيرة، تدمجهم مع قطع الفلفل الحار، وتتركه لحظات لتضع الخبز على النار مباشرة لتسخينه، فيترك أثر كالشمع فوقه، ويمنحه قرمشة لذيذة.
-هل انتهيتِ من تحضير الإفطار يا أميرة؟
تلتفت إلى أختها وهي تضع الأطباق الصغيرة داخل صينية فتحملها للخارج.
بينما أمينة تتناول الأكواب المختلفة الأشكال كاختلافهم، تضع السكر والشاي، لتسهل مهمة إيمان الصغيرة في صنعه.
التففن حول الصينية، تمد أخواتها بالخبز، تملس على شعر إيمان التي منحتها ابتسامة صابرة، بينما أميرة بشقاوتها ابتدرت الحديث.
-هل ستدخلين جمعية الخالة فوقية يا أمينة؟
تهز رأسها وهي تبلع طعامها
-نعم، أحتاجها لدفع مصروفاتكِ فامتحاناتكِ علي الأبواب.
ثم غمزت لها توجه بصرها نحو إيمان وأكملت
-أريد تعويضها عما فعلنا فكري في ترضية مناسبة لها وأخبريني فعقلي هذه الأيام مشغول بالعمل وما يحدث فيه، ليتني ما وافقت عليه، أشعر وكأني داخل مطحنة،فالجو مشحون دائما بين عاليا وسائقها.
تغضنت ملامح أميرة بينما إيمان غير منتبهة لحديثهم.
-فلترفده، أليست قادرة على ذلك؟
-الأمر ليس كذلك، فهذا السائق أصبح ينافسها في العمل، ومن معرفتها المسبقة به تريد شراكته بينما هو رافض.
-ولماذا يرفض؟
ترفع حاجبيها بلامبالاة، تشير إلى المطبخ
-أريد كوب الشاي حتى ارتدي ملابسي فلدي موعد هام، لقد أعددت الأكواب.
-أنا لن أشرب شاي.
زمت أمينة شفتيها وهي تقول
-وماذا ستشربين يا فريدة زمانكِ، هل أحضر لكِ فنجان قهوة فاضعه لكِ في برطمان لأننا لا نملك فنجان؟
تذمرت من سخريتها قائلة
-بل كابيتشينو، عامل البوفيه يصنعه لي يوميا منذ عملت لكنه غالي فقررت شربه قبل المغادرة واخفقه بنفسي بديلا عن ماكينته التي تستهلك كهرباء تصعق جيبي.
لحظات نظرت إليها أمينة ومشاعر مختلطة تختلج بداخلها، لقد بدأ العمل في تغيير أختها، انفتحت على العالم الخارجي لترى ما هي عاجزة عن تلبيته لهم.
-لعلمكِ، إيمان أعجبها الأمر، لربما هديتها تكون آلة الخفق الرخيصة، فالملعقة تأخذ وقتا طويلا لتصنع تلك الكريمة الساحرة.
رمشت بعينيها تقول بمرح
-إذا أجلي كوب الشاي لحين عودتي، واخفقي لي واحد مثلكم.
ثم قامت تقبل رأس إيمان التي اتسعت ابتسامتها تودع أختها
-انتظري يا أمينة، اخفقي كوبكِ فهو يتعب يدي.
وعندما اختفت داخل غرفتها قالت أميرة بنزق
-ليتني ما أخبرتكِ. 
تجلس على الطاولة منذ ما يقارب النصف ساعة في انتظاره، ألم يخبره أحد عن ذوقيات التعامل مع النساء خاصة هي سيدته!
يدخل بهالته الواثقة إلى المطعم، تضيق عينيها تطالعه وهواء ما أثاره دخوله محمل بثبات وقوة رائحته.
ومنذ متى كان عبد الرحمن ضعيف، لازالت آثار يده القوية على ذراعها يوم أمسكها يمنعها السقوط.
بنطال جينز يليق بسيقانه الطويلة، سترة تشبه التي سقطت منه منذ قليل، يد تتأرجح بثبات في مشية متزنة، حذاء عملي يناسب طلته. ابتسمت راضية عن مظهره تقول فور جلوسه
-تأخرت لتتأنق؟
يتناول قائمة الطعام ليقول
-توجب علي محو ما رأيته من ذاكرتكِ.
تقول مغيظة
-الشورت ثوب عصري بالمناسبة.
-وتلطيخ ساقي؟
-إنها الأمطار.
يشير للناذل ليطلب الغداء، وفور انصرافه قالت
-ما يحتاج النسيان في الحقيقة هو طريقة تخلصك من المياة التي تشربتها السترة.
تتناولت كوب الماء أمامها فيستند على الطاولة بكوعه
-تقصدين عصري لها؟
يأسر عينيها كي لا تحيد عنه
-أعصرها لتتخلص من المياة المتسخة حتى لا تلطخ أرض منزلي يا عاليا.
غصت فسعلت، تبدلت ملامحها، رفعت جدرانها وانغلقت، لحظات ابتلعت اهانتها مع رشفة ماء أخرى، تحدجه بنظرات حادة، يخرج صوتها هادئا
-لم تمنحني موافقتك.
قال بغموض
-فتأتيني إلى منزلي؟
قالت بسمت اعتاد تلك اللقاءات
-لماذا تضع فوارق وحواجز بيننا، لماذا لا تتعامل بقدر الأمر وفقط، لاتزيد في انفعالاتك وأفكارك.
يضع النادل ما طلبه وغادر مقاطعا حديثهم
-لأني خير من يعرفكِ.
أشاحت بيديها بملل
-عبد الرحمن، ما ردك على أمر شراكتنا، رجاء ليس لدي وقت أضيعه.
ترك ما بيده ليتحدث بجدية
-وإن رفضت تفقديني مالي، ألم يكن في امكانكِ المجيء إلى والتحدث معي بود عوضا عن محاربتي، كيف أمنحكِ ثقتي وأنا أراكِ تعبثي في كل ما أضع قدما فيه؟
-حبا في الله لماذا تعطي لنفسك حجما أكبر مما أنت عليه..هل تظن بأن الكون يدور حولك، لقد قمت بما فعلته معك مع الكثير من الشركات، لماذا تظن بأنني أحاربك، لقد انضممت لعالم الأعمال لتوي ومن حقي أن أصنع لنفسي اسم يخشاه الجميع، لو رفضت سأجد غيرك يعلمني لن يقف الأمر عندك، لكن لا تقيدني وتضيع من وقتي ما قد استفيد منه مع غيرك.
يزن كلامها وجدية ملامحها متشكك في كل شيء، هي مراوغة صغيرة وقاسية كبيرة، تقتحم كلمات سالم عقله
-إنه العرض المثالي الذي لم أسمع به من قبل، نحن رابحون في كل الحالات، لو كنت مكانك لوافقت على الفور، لكني لا أنكر أن تأجيلك للموافقة يمنحها وزن وثقل بعينيها.
سينعته المجتمع بالغبي إن لم يوافق بهذا العرض، سيكون طارق بينهم إن جد جديد، فهو حتما لن يجعلها تستغله في أي شيء وهو عين طارق عليها.
لكن..تلك الانقباضة كيف يتخلص منها، كلما نظر لتلك العينين البنية اللعينة شعر برغبة حارقة في صفعها مرارا ومرارا.
قالت لا تمنحه الوقت للتفكير وقد لانت ملامحه المشدودة.
-سأنتظرك غدا لنمضي العقود.
يجيبها بعجرفة
-ليس لدي وقت.
-سآتي أنا اذا..
أجابها باهمال وهو يلتقط اللحم من صحنه
-أرسلي لي أمينة بالعقود، سأراجعها على مهل وأمنحكِ توقيعي.
رضيت بتلك المعاملة التي ترى فيها بغيتها، جزء صغير بداخلها لم يتخلص من تلك اللعنة التى غرسها بها كمال.
يتناول طعامه أمامها ببرود دون دعوتها للطعام، منحته ابتسامة مغيظة تقابل بروده ببرود، وتغادره بدون سلام.
-هل أنت على يقين بأنها لن تكون موجودة ؟
يبدو أن إجابة محدثه كانت "لا"، فتلك الإشراقة التي أضاءت وجهه دليل على انتفاء سبب وجود القتامة السابقة.
-أرجو بألا يكون هذا فخ من زوجتك، فابنتها التي لا تطاق لا تمل من اهتمامها بي، أخبرها بأني لن أتزوج الآن علها تحل عن رقبتي.
لحظات سكت وهو يتناول كوبه من العامل
-حسنا يا أبي، سأمر عليك غدا قبل موعد عملي..مع السلامة.
يشيع المكان بنظرة غير مبالية، ويمضي إلى مكتبه.
بينما هي تعبث بشعرها الذي افترش ظهرها بطوله وكثافته، وهي تراه يبتعد.
والدته متوفية، ربما مطلقة..لا متوفية وإلا عرج على سيرتها مع والده بأي حال.
يبدو أن ابنة زوجة ابيه مقيته ويستحقها بسماجته.
تضحك بجانب فمها بسخرية من تفكيرها الفضولي الذي أصلته فيها حارتها الضيقة، فالاخبار تتناقل بسرعة الضوء.
بعد أن انتهى حيائها وخجلها الحديث منذ أتت للعمل، فبدأ الجزء الفضولي تجاه الأشخاص في الظهور، فباتت تلقى متعتها في التقاط الهمسات عن هذا وتلك.
لا تلوك السير ولا ترددها، تستمع فقط وتفهم البشر جيدا، هذا الصنف الجديد الذي فرضه عليها ذاك المجتمع، شباب، متعلمين، منهم ما زال يدرس ومنهم من أنهى دراسته حديثا، ترى الجانب المادي لهم البعيد كل البعد عن التحصيل الدراسي.
تراقب التفاتته يسارا ليدخل المصعد، تضع مكعبات السكر في شايها ثم تمر من جوار العامل تسير ببطء حتى يوصله المصعد وتطلبه هي.
تتنحى عن تجمع ثلاث فتيات يقتربن منها، همسات تلتقطها أذنيها بدقة
-لازال يدرس، عامه الأخير.
ضحكة خافتة وبعدها صوت آخر
-من أين علمتِ؟
فتشير نحو البوفية حيث تجمع المعلومات من عاملها كبير السن.
-يعيش بمفرده في منزله، لقد سمعت العامل وهو يخبره عن شقة للإيجار قريبة من العمل فرفض.
-والدته متوفية، لهف قلبي عليه.
-ليس متزوج فلا يظهر من يديه خاتم خطبة.
يقترب المصعد فيرتدنه ومن بينهم أميرة، تكمل القصة بثرثرتهن.
لقد توصلن لما توصلت إليه منذ لحظات، أتخبرهم أنها تزيد عليهم بمعرفتها عن ربيبة أبيه.
-اسمها وردة.
يبدو أنها غفلت عن حديثهن، لقد بالغت قليلا بسبقها الصحفي، فتستمع للأخرى
-ابنة زوجة أبيه، سمعت أن عينيها متخاصمتان، قبيحة وهو لا يريدها.
-توقفن.
جاء صوتها حازما
-يكفي هذا، إذا أردتن الخوض في إحداهن، جمالها أو عيوبها ليس أمامي، ولا تنسوا أن تلك خلقة الله، أنتن لا تتحدثن عن أخلاقها أو نجاحها وفشلها التي اكتسبته هي بيديها، لكن خلقة الله ابتعدن عنها بثرثرتكن.
فتح باب المصعد فخرجت غاضبة، تتركهم خلف ظهرها تسبقهم وقد توقفت همساتهن السخيفة.
تشعر بالأذى، ماذا لو تعرضت إيمان إلى هذا التنمر وهي في طريقها إلى مدرستها، يتألم قلبها من قرارها لخوض غمار العمل لتترك إيمان بمفردها تواجه العالم
-لا تخافي يا أميرة، إيمان ستبهرنا جميعا بحسن تصرفها واعتمادها على نفسها.
كلمات الخالة فوقية وهي تقوي عزيمتهم لتبني ما هدم فيهم لسنوات اعتمادية على أمينة حتى انحنى ظهرها.
تدخل مكتبها تمنحه نظرة ساخطة، فهذا السمج من يستحق التنمر والسخرية، كل السخرية. 
هل يراها ستلطخ أرض منزله، يستصغرها إلى هذا الحد..لقد حاولت نسيان ما اقترفته يداها في سنواتها الماضية، لقد خضعت للعلاج وظنت بأنها شفيت ليأتي هو بكلمات قليلة لا تعلم بقصد أو بغيره لتقلب مشاعرها بهذه الطريقة
غمر ضوء الشمس وجهها عبر نافذتها العارية من الستائر، تحب كل ما هو طبيعي، الهواء وصوت الأشجار التي يحركها في ثورته، تغريد العصافير فوق شجرتها بالحديقة، صوت المياة وهي ترتطم بنافذتها عندما تحزن السماء، دوما ما كانت تسمعه يقول أن الأمطار فرج، وأن أبواب السماء تفتح وعليها بالدعاء
لكنها ترى بفلسفتها الخاصة أنها دموع..وأن السماء تبكي
تذكر كلماته ردا على رؤيتها
-فلنقل دموع الفرح.. أو الفرج.
-هناك فارق يا جدي.
يحدثها بفطنة
-الفارق نقطة يا عاليا، فلتكن نقطة غيث.
تمسح وجهها، ترفع عينيها في عين الشمس، لا تستحي من أشعتها، تستمد منها اشراقتها وضوئها.
لكم كانت كلماته نبراسها، تربيتات حانية على هزائمها وقت علاجها.
لم يتعامل معها على أنها مريضة، أو مختلة أو ساعية إلى الموت كما وسمت لفترة عافرت فيها لإثبات العكس.
لا تنس إجازة طارق الطويلة من عمله لأجلها، سفرهم، لعبهم، لقد دللها كما لم يفعل من قبل
كانت تعاني من خيباته كلما أخفقت في العلاج، وكلما عانت موجات اكتئاب حادة.
ظنت بأن كمال وسلمى انتهوا من حياتها
والدتها، عمتها، والدها، طارق وحكايته التي قصمت ظهرها وأشعرتها بمدى تفاهتها وصغر حجمها أمام ما عاناه أخيها.
لا، لا استرسال في الماضي، توقفي.
هكذا نصحها عقلها فأزاحت أغطيتها، شهقت عندما وجدت يوسف متخفي تحتها
-لقد هربت مجددا من غرفتك يا صغير.
تحمله برفق حتى وضعت رأسه على الوسادة بدلا من إختباءه تحت الأغطية كي لا تراه وترده إلى غرفته.
لقد كبر، وتركه والديه إلى غرفته الخاصة، لكنه كالعلقة في ذيلها، يحمل كافة طباعها مهما حاولت خلود ترويضه، هو مثلها في كل شئ..كل شئ.
تدلك مؤخرة رأسها قبل أن تغادر سريرها، تطبع قبلة على رأس الصغير، وتتوجه نحو الحمام، صوت خلود يأتيها من الخارج
-كفاكِ تدليلا له يا عاليا.
فترد من داخل الحمام
-هو من يتبعني يا خلود، اليوم الذي أنسى غلق غرفتي يتسلل إليها.
تحمل خلود صغيرها النائم، وتخبط بحنق عليها
-اغلقيه دائما ولا تنسي أبدا، حتى يعتاد النوم في غرفته.
تبتسم وهي تنزع ملابسها لتستحم، ألم تنهها خلود كثيرا عن غلق غرفتها عليها؟!
تتسع ابتسامتها عندما تتذكر شبيهها الذي يخرج أمه عن طورها، المياة ساخنة جدا والبخار يتصاعد بشدة حتى يغطي المرآة أمامها، فلا ترى لجسدها أثر، علامات بارزة عن جلدها،آثار لم تمحها السنوات، تزول أمام عينيها مع تراكم البخار فوق المرآة عشوائيا، أسفل ظهرها، يمينا، يسارا، لم يترك كمال إنشا فيه الا ووسمه بوحشية وليت البخار لو يمحوه بالمثل عن ظهرها
-هذا الجمال، بريّ الملامح، بجموح طلته في شقتي أنا.
تفاجيء من رؤيتها في منزله، فعلاقته بها تنحصر في مراقبة مفاتنها عبر مواقع التواصل الإجتماعي وقد قبلته صديق، تتقدم إلى الداخل وقد فوجئت به عار الجذع في هذا الوقت من الشتاء، لكنها أسرت في داخلها "ومن خاله؟"
أغلق الباب خلفها وبنظرة مشاغبة قال
-لقاء عمل فارتدي ملابسي؟
ثم أقترب مردفا بعبث
-أم لقاء ودي فأظل كما أنا؟
إبتسمت بثبات متجاهلة كلماته المبطنة، ممتنة لوقوفه بصفها ولو سرا.
-كما تشاء يا سالم، لم آتِ لأقيد حريتك في بيتك.
زفرة أودعها حرارته
-ولماذا جئتِ؟
سمع طرقات على بابه فتوجه بنظره نحوه، ثم عاود النظر إليها عاقدا حاجبيه بتساؤل، فتهز كتفيها تنفي معرفتها بمن يطرق منزله.
أشار إليها بأن تستكين للحظة، توجه لغرفته ملتقطا كنزته، يدس رأسه بها فانحشرت قبيل أنفه وهو في طريقه للخروج، في ذات اللحظة التي فتح الباب وطل عبد الرحمن بهيئته المصدومة من وجود عاليا في منزل سالم في هذا الوقت.
يغلق الباب خلفه ويدس المفتاح بجيبه، في حين توقفت حركة سالم ولازال لايظهر من وجهه سوى عينيه التي احتارت في النظر يمينا ويسارا مرة نحو عاليا.. والأخرى نحو عبد الرحمن.
عم الصمت،  لم يقطعه أحدهم
لا عاليا مفسرة
ولا سالم مبررا
ولا عبد الرحمن متسائلا
نظرات فقط، كلا يشهر سيف نظراته نحو الآخر، باضطراب.
بعد لحظات، جلست عاليا على الكرسي المواجه له في حين إنصرف سالم ليعد شيئا يُشرب
-ما الذي أتى بكِ إلى هنا؟
تباطئت في الإجابة تدرس انفعالاته جيدا، عبد الرحمن ليس وسيما لكنه رجل، ملامحه وصوته الخشن، إنفعالاته وثورته على كل ما هو ضد الأخلاق، إبتسمت بزاوية فمها لا تمنحه جواب، حتى عاد سالم الذي قدم القهوة للجميع دون سؤال عاليا كيف تحبها!
-تعلم بأن المنزل في منطقة شعبية يا سالم ولا يجوز لك استقبال النساء فيه.
تبدلت ملامح سالم المرحة دائما، يوجه نظراته السوداء نحو عبد الرحمن
-منزلي أفعل ما يحلو لي بداخله.
ابتعد بنظره عنه ليردف
-لا شأن لأحد بي.
عقد عبد الرحمن ذراعيه حول صدره وقال
-طالما عدت لتلك الكلمات المتذمرة، فأظنني سأذكرك بأنه منزلي قبلك، وان هذا بيت جدتك ويجب احترامه، ليس مكان داعر تستقبل فيه فتياتك.
تراقب انفعالاتهم متسائلة" هل يرونها وسط تبادلهم ما يجب ولا يجب، هل يراها عبد الرحمن وهو يصفها بعاهرة تزور البيوت، لماذا هو صريح حد التجريح"
وكأنها جذبته بكلماتها الداخلية نحوها، فواجهت إحمرار عينيه رغم البرود الذي يخط حروفه، إلا أنها تعلم بأنه يحترق حميّة ورجولة
-ألم أنهكِ عن زيارة البيوت من قبل، إسمعي يا عاليا، أعلم أن ما تفعلينه في طبقتكِ الإجتماعية الرفيعة يعد تحرر، وهناك صداقات بين الرجل والمرأة،  بل هناك من يخطبوا ويعيشوا في بيت واحد حتى يعتادوا على بعضهم البعض ومن ثم يتزوجوا.
وقف فكانت هامته الرجولية أبيه واثقة فأكمل
-أما في طبقتي أنا، يعد هذا عيب كبير، بل يطال الشرف والأعراض.
أخرج المفاتيح الخاصة بشقة مضيفه من جيبه يتركها على الطاولة أمام سالم الذي إلتزم الصمت، خاصة أنه أبدا لم يستقبل نساء في بيت جدته،ولا يعلم لأي سبب زارته عاليا؟
-إنه بيتك منذ الآن، لك الحق في الخصوصية، أعتذر عن تطفلي.

بطل الحكايةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن