تقضي أوقاتها بين المطبخ والتنظيف ببؤس تتفرسه عينيها عن كثب، تراقب وهنها في إنجاز مهام وهمية تمنحها الوقوف بالساعات داخل المطبخ دون أن يحاسبها أحد.
لا تستطيع الفكاك من عيني إيمان التي تنطق بتساؤلاتها، لماذا تمكث أمينة بالمنزل كل هذا الوقت؟
تسربت أمينة من أمامها مشفقة عليها مما يرهقها، إيمان تعد جرحا نازفا أمامها متجدد الآلآم.
-لا يمكنني كسر قلبها.
تهمس بتلك الكلمات بسخونة منبعثة من داخلها بعد تذكرها لقاءها معه، لقد عادت للمنزل ذاك اليوم كالقطار السريع الذي لا يتوقف في محطات وإنما يعرف وجهة واحدة للتوقف فيها..بيتها..والذي لزمته حتى الآن.
ترفع ساقيها وتستند برأسها على وسادة صلبة كما حياتها، لم يكن لديها الوقت للملمة وجعها، وكل شيء يحدث بسرعة بغيضة.
-يا إلهي.. أنا سأموت.
تنتقل السخونة من كلماتها، إلى عينيها التي التهبت باحمرار قاسي، معترضا على تناحرها.
تضم ساقيها إليها، تضع كفيها فوق وجهها، تشهق بألم يشبه الإحتضار وهي تتذكر وعوده..
ألم تكن نظراته تعدها، حلواه، صمته، غيرته الشديدة عندما رآها تسعف محمد، توتره وقلقه في الآونة الأخيرة قبل نهاية علاقته بعاليا.
تلك اللعينة، لم تتركه إلا وهي منتصرة، تحمل جنينها منه وتهرب، مراهنة على ركضه خلفها!
ماذا لو إجتمعت بهم في مناسبة عائلية تخص إيمان، ماذا لو تقاطعت طرقهم من جديد ورأتها في شركته تحمل ابنته؟
تتعالى شهقاتها بأنين مكلوم يائس ممن حوله ومن نفسه.
هل ستذبح أختها لأجله، ألا يكفيها روحها لتشرك أختها معها.
إيمان، التي لم ترَ يوما سعيدا في حياتها فتأتي هي لتصبغ سعادتها بالسواد.
إستمعت لحفيف ملابسها لترفع وجهها إليها، فتهمس باسمها
-إيمان!
فتشير لها بانفعال مصر
-ماذا بكِ، لماذا تبكي يا أمينة؟
فتجذبها بقوة نحو أحضانها، تصرخ وتئن بشدة، تعلم بأن أختها لن تسمعها.. والأخرى بالخارج يجتاحها الصمت منذ حديثها مع عبد الرحمن، تراقب ما يحدث بينهما كطرف ثالث شفاف لا وزن له.
تقبض على جلباب أختها بقوة ودموعها تسيل على كتفيها، بينما إيمان مستشعرة شهقات أمينة القوية، وأنفاسها المكتومة تارة، والصارخة تارة.
هي حقا صماء، لكنها تشعر، وكيف لا تشعر بتلك الحرقة التي تلمسها بكفيها تخرج من ظهر أختها، تلك الأنات التي تقتلها، هذا المكوث البليد واحتمائها بالمنزل.
تفلتها إيمان، تحتوي وجهها بكفيها، تسألها بعينيها وحاجبيها المعقودان ، فتهز أمينة رأسها نفيا مجيبة بصمت
-لا شيء.
يرتعش جسدها بقسوة، هذه المرة يجب أن تعلم ما الذي يؤرقها، وقفت مبتعدة عنها، تشير إليها بقوة وعزم
-لن أخرج من تلك الغرفة حتى أعرف ما الذي يجري، هناك حمل فوق صدرك، ثقيل، وقد فاض الكيل بكِ، تكلمي.
تنزل ساقيها عن السرير، تضرب فوق فخذيها بشدة، تردد
-أنا أحب، أحب..
فهمت شفتيها بسهولة، فأرخت إيمان ملامحها، متسائلة في نفسها
-وهل الحب مبعث هذا الشقاء؟
توليها ظهرها تخفي ما تبقى من دموعها، تخبرها بأنها لن تتحدث، لو تحدثت لتبدلت الأدوار لتصبح إيما معها في جعبة الفراق خاصتها.
تفتح شفتيها، تغلقهما، تلتفت اليها ثم تستدير عنها، أشارت إيمان
-أنتِ تحبين عبد الرحمن؟
أومأت أمينة برأسها، فعادت إيمان بحاجبيها إلى الإنعقاد، واختلج القلق بقسماتها.
ضاقت عيني أمينة بالبكاء مؤكدة استنتاج أختها، فتشير إيمان ببشاشة
-هو مطلق.
-أعرف.
-ما المانع إن طلب الزواج منكِ؟
دارت في غرفتها الضيقة تقول بجنون
-لا، لا.
تسيل دموعها من جديد وآلام قلبها توخزها، تستوقفها إيمان
-ما الذي يمنع زواجكِ منه إن تقدم إليكِ.
تتمسك بقوة واهية، تقف أمامها وقد استعادت صلابتها، تقول بحسم
-عبد الرحمن طليقته حامل، ومن المرجح عودته إليها.
تبتلع ريقها وهي تردف بحيرة
-بيني وبين عبد الرحمن شيء، لا أجرؤ على تسميته، هو لم يطلب مني شيء وكذلك أنا، لكن..
انهارت كلماتها مع صوتها المرهق
-لقد حاولت، وربي حاولت أن أنساه، لكن هناك لقاءات ستجمعنا، أنتِ لا تعلمين ما يحدث لي وأنا أراه برسمية داخل العمل، فما بالك برؤيتي له وهو يمزح أو يداعب طفلكِ، وهو يتحدث إلى سالم ويوجه أميرة، سيكون عبد الرحمن عنصر مؤثر في عائلتنا، سيكون له كلمة حتى لو ليست عليكِ فستكون على ابن أخته الذي يُكبره ويحبه.
تنهار مجددا لتبكي غير منتبهة لنظرات إيمان الحنونة
-ماذا لو وجه لي الحديث ذات مرة وبان إشتياقي، سيكون له طفل يا إيمان، أنتِ لا تعلمي مقدار حب عبد الرحمن لسالم فما بالكِ ابنه.
قبضت على يديها تضمهم أمام صدرها بعد إن انتهت من حديثها مع إيمان.
لتناظرها الأخرى بجمود.
فكرة واحدة سيطرت على رأسها لإنقاذ أمينة وهي أن تترك سالم من الأساس، ليس هناك حل سواه..لكن..
كيف تنسى هي الأخرى سالم، تطفيء توهج الليل في عينيه.
لقد تعلم الإشارة لأجلها، تبع خطواتها وأحب ما تحب واهتم.
كان جديا وتقدم لخطبتها، ولم يعبث معها ويرافقها إلى أن يمل منها ويتركها، لقد لاحقها وهي الناقصة في عرف البشر، مكتملة بعينيه.
مقر لتصميم الأزياء، هي المتحكمة فيه، هدايا قيمة، اهتم بعقلها واعاقتها التي ستكلفه الكثير والكثير.
كان لا يجب عليها ألا تطمح لشيء كثير مثله.
دوما ما كانت واقعية، تكره الأحلام، ما الذي تغير؟
فلتسقط عن غيمة الأحلام خاصتها لأجلها هي، أمينة، التي عانت وعانت لأجلهم، ألا تستحق هي معاناه جليلة كتلك في سبيل راحة اختها.
-وماذا عن العمل، هل ستتركيه؟
تحتوي وجهها بكفيها ليخرج صوتها مكتوم
-لا أعرف يا إيمان..لا أعرف..ليس لدينا سبيل للعيش سواه..هكذا تضيق الدنيا حولي ولا أجد متسع..
أومأت برأسها متفهمة، تجذب يدي أمينة إليها، تقبلهم بامتنان وبِر
-لا يهم، يأتي خاطب ويذهب آخر، لا يهم يا أمينة، المهم أن نكون معا، كان لابد وأن أرفض أنا، يليق بي أصم مثلي، وربما لا يحق لي الزواج من الأصل، أنا راضية يا اختي، انتِ تستحقي الراحة، لا الدوران خلف عجلات الحياة، التقطي أنفاسكِ يا أمينة، من حقكِ أن ترتاحي، فقط امنحيني الوقت لصياغة رفضي .
بينما الواقفة خلف الباب دموعها تجري أنهارا على صدق كلتاهما، و إيثار كلا منهما لحب الأخرى والتضحية لأجلها.
بينما هي السبب الرئيسي لسقوط عبد الرحمن وأمينة في تلك الهوة السحيقة.
خرج صوتها متحشرجا ببكائها، نادما على بوحها، لاعنا تسرعها واستجابتها لأول من يسألها ماذا بكِ، كان لزاما عليها الصمت فضلا عن استرسالها خاصة معها هي.
-لا..أنا لم أقصد هذا يا إيمان، ولا أسمح لكِ بالتقليل من شأن نفسكِ..ليس هناك شيئا يعيبكِ يا أختي، أنا.. لن أرتاح إن تركتِه، سالم فرصة لكِ لن تعوض.. أنا.. فقط..
تحاول لملمة بقايا دموعها تثنيها عن قرارها..فعصتها عينيها لتشتد غيمتها مجددا
-أنا فقط عجزت عن كتمان ألمي هذه المرة..أنا آسفة..
لم تجادلها إيمان وقد حسمت أمرها..وعزمت على الفراق، هي لن تهنأ برؤية أمينة بهذا الحال في كل مرة ترى خاله.
-لابد وأن تجدي عمل آخر..
تهز رأسها بشرود تزامنا مع دخول أميرة إليهم تعلن عن وجودها، قالت وهي تنفذ الجانب الخاص بها من اتفاقها الغير منطوق مع عبد الرحمن
-عبد الرحمن يحبك يا أمينة، لقد أخبرني بذلك.
التفتا إليها إيمان تلتقط ما تستطيع التطقاته من شفتي أختها، بينما أمينة من شدة دموعها لا ترى أمامها.
-حبه لك بادي للأعمى، ولقد اعترف لي بذلك.
-متى؟
-لقد قابلته اليوم مصادفة في محطة الحافلات.
جلست أمامهم بوجه محمر انفعالا تردف
-لقد حاصرته عاليا جيدا.
ثم ارتعش وجهها وهي تردف بدموع حارقة
-جدا، حاصرته بطريقة بات رفضه لها يعد انتحارا، كانت ستؤذي من حوله بشدة، فآثر الزواج بها.
تزداد دموع أمينة وقد شعرت بأنه قلَّب أختها عليها .
-دعينا من كل ذلك يا أميرة لقد ولت المشاعر الحالمة والحب والشوق لتحل المشاعر الواقعية التي لابد أن نعترف بها، عاليا حامل..وعبد الرحمن لا يعرف بعد.
هذا ما رأته وهي تشير لإيمان منذ لحظات فلم تصدم، لكنها ارتمت بين ذراعيها تبكي، فلم تسأل أمينة عن السبب سوى شفقة أختها عليها، بينما تتعلق أميرة بها تعلق المذنب، بدموع التائب الذي لا حيلة له.
-هل تريديني أن أصدق أنها أحكمت الخناق حوله، حسنا سأصدق، فيم اجتمع بها وحملت منه، كيف يقربها وهو مجبور عليها، كيف اقترب منها وهو يدعي حبه لي وأنه زاد عن ماله وابن أخته بزواجه منها، كذبات رخيصة غير مقنعة
تصلب جسد أميرة بين يديها عندما هدمت ادعاءاته المنقوصة، هل يمكن أن يكون أخبرها عبد الرحمن عن إثمها لتحسين صورته أمامها؟
ابتعدت عن أختها تبحث بين عينيها عن إجابة.
تسكن قلبها بأن مشكلة أمينة الآن ليست زواجه من عاليا بقدر ما هي حملها منه.
***
أوشكت الشمس على المغيب ولازال يهيم في الشوارع بوجه مكفهر عاصف، لايهتدي إلى أي مكان، تمشية بين أعشاش القمامة في منطقته الشعبية وقد ارتأى بأنها مكانه بما يتناسب معها من عفن الرائحة وقرف المنظر.
منحه جبنه براءة العدول عن الانتحار، فهو يتألم من صداع رأسه ووهن عظامه، والتي عرف فيما بعد من والده بأنها أعراض ما بعد الصدمة التي لا يتوقف أبيه عن سؤاله ما هي فيبرر محمد بأنه كلام أطباء فلا تصدقهم، هم يصنعون من الطحين خبز فكيف له بألم قطع شرايينه بآلة حادة، وماله والصبر حتى تزهق أنفاسه شنقا، وما أدراه بأنه سيموت على الفور دون الإحساس بألم لو قذف جسده من الطابق العاشر.
ينظر إلى الطريق أمامه بشرود وقد أنهى الطريق المسكون بالبشر إلى طريق نائي، يمشي فيه وحيدا، خالي من البشر مليء بالورش القديمة والقمامة التي تشبه روحه القميئة.
أميرة ابتعدت كثيرا بطلب متوسل إليها، أبيه يحاول توسله للرجوع إلى بيته بعد أن أصبح قاطنا معه بشكل مستمر يخشى عليه سقوطه بلا مجير.
يتذكر حديثه معه والهواء البارد يزلزل حركته ويصفع جسده الواهن للوراء.
-لقد فصلوك عن العمل.
-شيء متوقع
-اختباراتك على الأبواب، لقد أخبرني سالم أن لديك شهر من الآن.
-لا يهم
-أخبرني ما بك، مم تعاني يا ولدي، لكل مشكلة حل، توقف عن قتل نفسك بهذه الطريقة، أنا لن أضيع أمانة وتعب والدتك فيك، لقد حافظت عليك لسنوات بدوني وأنا الرجل لا أستطيع.
لانت ملامحه على ذكر أمه، وحنين يائس يجذبه إليها، تجمعت الدموع في عينيه اشتياقا لها وندما على إثمه، طالما لن يفقد حياته، فعليه ألا يفقد والده أيضا وإلا مات من الصدمة التي ستتبع موته.
يربت على كتف والده
-سأذهب إلى الإختبارات يا أبي، لا تقلق.
استبشر وجه أبيه فتبع قوله
-وعد إلى منزلك أنا بخير، سالم معي ويتابع خطواتي، لا أعلم ما الخير الذي فعلته لأحظى بصديق مثله وأنا على هذا الحال.
لمح سيارة قادمة من بعيد، سيارة متهالكة تخرج من بين أكوام القمامة حوله، متسخة تصدر صوتا مزعجا بحديدها الصديء، سيارة نصف نقل فارغة مفتوحة من الخلف رمى جسده فيها وقد ضل السبيل، يغادر المكان القميء، ولولا ذكرياته التي جذبته بين هذا وذاك لما تعمق في السير لهذه الدرجة، يكفيه تيه أفكاره فضلا عن وجهته.
لقد بات سالم يعني له الكثير في تلك المحنة، يهادن الوقت بذكرى آلمته، ومواجهة تعرت روحه فيها أمامه منذ أيام….
-ما رأيك في المكان؟
يمشي محمد في الشقة التي تحوي المكن ويقول
-هل ستفتتح مشغل؟
قال سالم وهو يفتح نافذة الشقة التي لازالت رائحة الدهان عالقة بها للتهوية
-فلنقل هذا، رغم أنه مشروع خطيبتي، لكن أنا من سيديره..
إيمان، خطيبة سالم..أخت أميرة..شرد بملامحه فقال سالم فجأة
-انظر إليّ يا محمد، أنا لا أحب المراوغة ولا الكلام خلف الظهور ولا أريد أن تكون صديقي وأحمل شيئا ما في قلبي نحوك.
توتر محمد منتظرا التتمة
-هل تجمعك علاقة بأميرة؟
تحركت مقلتيه فوق وجه سالم بقلق، هو لن يفقد صديقا مثله الآن في الظروف التي يعانيها، هو أكثر من تمسك به ووقف جواره في محنته، ويشبهه في كثير من تعثرات حياته مهما اختلفت التفاصيل.
يضغط على أسنانه فيقول سالم
-لقد أخبرني خالي بما فعله معك، أنا أعلم عن اتفاقك مع عاليا للإيقاع بأميرة، ولولا اشفاقي عليك مما تعاني لهشمت رأسك بالمثل وأنا أرى محادثاتك مع أخت خطيبتي، لقد علمت بأنك لم تبتعد حتى مع ضرب وتحذير خالي لك.
يضع يديه في جيبي سترته الخفيفة، يستتر بدفئها عن برودة ما يسمع.
-اتفاقي مع عاليا لم أنفذه، فبالتالي ما بعده لم يكن ضمن الإتفاق.
يجر كرسيين في الزاوية يدفعه إلى الجلوس
-فسر لي.
-تحدثت إليّ ذات يوم تطلب مني الإيقاع بفتاة مقابل مبلغ مغري، أخبرتني أنها زميلة عمل ودراسة وسيكون الأمر سهل ولن يكلفني مشقة.
-ماذا طلبت منك
-صورة تجمعنا، أي تقارب بيننا.
-وهل حدث؟
-أبدا لم يحدث.
انفعل سالم واحتد صوته
-أنت كاذب، لقد أرسلت عاليا إلى خالى صور تجمعكم إحداها وهي خلفك فوق دراجتك، والأخرى في مكان مغلق وأنت تعانقها.
تنحت أحزانه وآثامه لتفرغ المكان للمزيد والمزيد، يقف مصعوقا بوجه ممتعض
-ماذا؟، ماذا تقول؟
يمسك رأسه ويدور مستفهما يبحث عن إجابة، لتنفلت من بين أسنانه سبة
-اللعينة.
يلتفت مسرعا نحو سالم الذي أخذ يتفحصه
-الأمر ليس كما يبدو، عليك أن تعرف أولا أنني لا أرافق الفتيات ولا انجذب إليهن وربي، ولدي قناعة مترسخة بأنهن مخادعات ، فلا تتوهم بأني سأفعل ما فعلت، أو أصور ما وصل لخالك..أنا..
غير قادر على إيضاح فكرته، يمسك رأسه وهو كالتائه في إيصال ما يريد، يبدو أن أيامه البائسة أنسته كيف يدير حوار
تماسك ليقول سريعا كمن تلقى حكما بالإعدام في الحال
-يوم الدراجة كانت الأمطار تعصف بالمكان، وهي كزميلة لم أرضَ بأن تُترك هكذا، لقد رفضَت كثيرا عرضي أقسم لك، لم ترد ذلك لولا إلحاحي عليها لتعتبرني كأي سائق مأجور في هذا الظرف، الفارق أنها تعرفني فلابد وأن تأمني، وافقت وأوصلتها حتى ناصية شارعها وغادرت.
-والعناق؟
-لقد جاءتني وقتها في المكان الذي أركن فيه دراجتي تبكي منزعجة مما حدث بالأمس وأنها لن تسامح نفسها على ركوبها خلفي، أقسم لك أنها لم تضم ظهري إليها ولم تضع يديها فوق ظهري متمسكة بي، لقد تمسكت بالدراجة لدرجة افقدت سترتي التي منحتها إياها اتقاء المطر، أقسم أني رغبت أن أهون عليها بكائها، هي لم تصل إلى جسدي حتى وابتعدت عني سريعا.
يدقق في أقواله، ورغم غضبه مما يسمع إلا أنه سيستمع حتى النهاية بهدوء
-والمحادثات بينكم والتسجيلات، وكلامكم عني وعن إيمان، هل بلغت الأريحية بينكم إلى الحد الذي يمنحكم الحق في الحديث عن العائلة.
يمسح محمد وجهه ويقول
-بما أنك قرأت المحادثات كلها فلابد وأنك علمت أنها توقفت عن محادثتي لوقت طويل بدافع الشرف والإحترام، فيما تتحدث إذا.
-عن عودتها للحديث معك!
-لقد رأتني مسطح لدى فوقية فاتصلت للاطمئنان.
-وماذا عن مكالمتها لك والهاتف بيدي.
-لا أعلم، صدقني لا أعلم، لقد كنت ملقى داخل المشفى يا رجل كيف لي أن أعرف .
-هل تحبها؟
سؤال مباغت من أسئلة سالم، لم يقو على إجابته
-أميرة لا تستحقني يا سالم، أنا أجمع خصال الشر بين جنباتي وهي ملاك، صفحة بيضاء لم يخط فوقها قلم.
يقف متوجها نحو النافذة وسالم يرافقه بنظراته
-لقد اتصلت بها بعد عودتي من المشفى ورجوتها أن تبتعد عني وأخبرتها أني لا استحقها وقد فعلت.
يقف وراءه ويقول بخفوت
-وهل تظن بأن أميرة ابتعدت لأجل توسلاتك؟
التفت إليه بحدة فأردف سالم من هذا القرب
-لقد تحدث إليها عبد الرحمن وأخبرها بكل شيء.
يتابع غضبه المتزايد
-لماذا، لا يحق له، لماذا فعل ذلك؟
بينما هدوء سالم يستفزه
-ألم تقل بأنك توسلتها الفراق.
يوليه ظهره
-اذا لا يهمك الطريقة، المهم النتيجة كما أردت.
يمسك لسانه عن الحديث وهو يفكر فيما قيل، سالم معه حق،لكن..ليس بهذه الطريقة..
هي الآن لابد وأنها تكرهه!
أليس هذا ما أراد !
هو لا يريدها أن تتألم وقد علم بأنها تكن له المشاعر.
ألم يخبر نفسه مرارا وتكرارا ممعنا في جلد نفسه بأنه لا يستحقها، فلماذا يتوجع الآن من كلمات بدت كالخناجر بكبده.
التفت سالم ليرى التخبط فوق وجهه، العرق الذي بدأ يسيل فوق صدغه، يراقب نظراته المرتعدة ويشفق عليه من حديث نفسه.
-ألن تسألني عن سبب مجيئي بك إلى هنا؟
حاول فك عقدة حاجبيه بأصابعه، يدلك جانب رأسه ليفصل تفكيره عن واقعه، وساعده سالم في ذلك.
-أريدك أن تعمل معي في هذا المكان ؟
قال بسرعة متخليا عن أي مسؤولية قد تحط على كتفيه
-لا..لن أعمل.
قال سالم بتحدي
-بل ستعمل، وتكمل دراستك، إنه عامك الأخير، إنه حق الصديق على صاحبه، لن أتركك لهذا العبث أكثر من ذلك ولو اضطررت بأن أشرف على مذاكرتك بنفسي.
-وكيف ستثق بي، إنه عمل خطيبتك؟
-حسنا، دع الثقة جانبا فعملك لن يكون معها، بل سيكون معي أنا، أريدك معي في ابتياع الأقمشة وما تحتاجه إيما..إيمان، ستكون المدير الذي أرأسه.
يجذب ياقتي قميصه مردفا بنزق
-ستتكفل بانجاز الأعمال، اختيار الأقمشة وجودتها وأسعارها، ولوازم الخياطة من أزرار واكسسوارات وخيوط، متابعة الأرباح وزيادة المال ستكون مسؤوليتك، وعرض كل شيء علي بالأخير، وراتبك سيكون.....
اقترب من إحدى الماكينات واردف
-صيانة المكن، رواتب العاملات، كل التفاصيل لك، لن أمنحك فرصة للتفكير، أمامك شهر من الآن تنهي دروسك وتأتيني بشهادتك، امنحك العمل، لك كلمتي..والعقود فور استلامي نجاحك..اتفقنا.
لازال مترددا في منح القدر له فرصة أخرى للحياة وقد توقفت حياته لأيام، قدر منحه سالم، وعمل، وأب ترك كل شيء لأجله.
هل يتمسك بما يمنحه الله من وقت لتكفير ذنوبه وتطهير روحه بديلا عن شنق روحه بآثامه.
وكما العادة قرأ سالم تردده، ففرد كفه وأمسك بكف محمد عنوة ليصافحه وهو يقول
-قل اتفقنا يا رجل..
يجد نفسه مرغما على قبول الفرصة، التي على ما يبدو لن يتركها سالم.
***
امتحانه بالغد ولا يستطيع التركيز في كلمة واحدة، وصورتها تاتي أمامه في كل وقت تشتمه وتصفعه على ما فعله معها.
سفالته في التقرب منها، لربما تراه زير نساء الآن وهو بريء من تلك التهمة الغاشمة.
ينزل ببصره فوق الحروف فلا يفهم ولا يفطن لما تليها من جمل، فيغلق الكتاب ويقوم لصنع شيء يشربه.
لقد غادر والده مع تحسنه البطيء ومناشدته الصادقة بالمغادرة، لقد ترك له الفراغ وافكار تراوده بين الفينة والاخرى لائمة محرضة، بين ماضيه العالق فيه، وبين حاضره برغبة في التخطي بدعم من حوله.
أمه وأميرة ..
بائستان أمام حمقه واندفاعه..
ضحيتان لدناءة أفكاره وانسياقه خلف دنس تصرفاته..
يمسك كوب الشاي ويعود إلى سريره، لا..سيجلس قرب النافذة لتتجدد أفكاره وينتعش صدره.
كيف ينساها في وحدته التي تنبض بقبح دواخله، أمه الغالية..
يؤنبه ذنبه ويؤرق مضجعه، لتزداد المآسي واحدة قاصمة لم تنتهي بنهاية أمه بل قائمة ومتحركة أمامه سيراها في الغد ولا يضمن ردة فعلها.
أيهتم بردة فعلها حقا!
أم يعاني لما تعاقر من حزن وضيق من فعلته، لابد وأنها حزينة دامعة..
لا..أميرة قوية ستتخطى الأمر..ستنساه، لقد مر الوقت وحتما نسيته..
ينهي شايه، ولازال مبتعدا عن المذاكرة.
شمر ذراعيه متوجها إلى حمامه ليتوضأ آملا في أن صلاته ستمنحه السكينة للمذاكرة.
وعندما أنهى صلاته، بدل ثيابه وحمل كتابه مغادرا..
سيستأنس بالناس ويذاكر بالخارج، حركتهم وضوضائهم حتما لن تجعل له سبيلا للشرود، أو جلد الذات..
ليست حديقة..إنما مكان عام للانتظار، خضرة حوله، ومقاعد، مكان حي قريب من منزله، كلفه التمشية عشر دقائق ليكون بين العامة..
يفتح كتابه، يدرس بجد، ضوضاء السيارات، شجار طفل وأمه على لعبة يرغب في شرائها، رجل عجوز يمر بين السيارات يشير إليهم بأن يتوقفوا فارتفعت أبواقها في وجهه.
صخب لا ينقطع يثنيه عن التركيز.. ليس هناك أمل في المذاكرة..
لم يشعر إلا وهو يهاتف سالم ليأتي إليه في غضون دقائق، يفتح باب سيارته ويقول بعملية
-اركب.
وصل إلى بيته، أجلسه سالم في غرفة الضيوف، كان قد طلب طعام معد، دخل إليه بشطيرته، ثم ذهب ليعد له الشاي
-إنهِ مذاكرتك، ولنا حديث.
ما إن امتلأت معدته ونظر في كتابه حتي ثقلت جفونه وقد كان سببا مقنعا للهرب من كل شيء.
...
صباحا، داخل سيارة سالم
-احضر لك الطعام كالدادة، وأهيء لك مكان للمذاكرة، وأذهب فيغلبني النوم لاستيقظ أجدك نائم، أي شهادة تلك التي ستنالها بالنوم.
يشير بيده بأن يصمت لعله يلتقط شيئا من الكتاب الذي يحمله، فيقول سالم بحنق
-من ذاكر ذاكر يا حبيبي، اذهب إلى الإمتحان وليفرجها عليك الله بلجنة سهلة تمكنك من الغش.
يبتسم ابتسامة خالصة لم تزر شفتيه منذ وقت طويل وهو يتذكر حديث أميرة عن الغش..وقال بشرود
-تبنا إلى الله.
-غش هذه المرة وتب بعدها، لا بأس، أقول لك، غش هذا الترم فقط لتنجح وبعدها تب، ربك عالم بحالي، أنا لن أتحمل باقي الإمتحانات على هذا الحال.
-هلا أغلقت فمك قليلا، رجاء؟
فعل ما طلبه منه محمد وقاد في صمت، عل وعسى يفلح.
لحظات وكان يركن سيارته لينزل محمد، دون أن يتحدث إليه بكلمة واحدة وكأن ما حفظه للتو سيتبخر لو حدثه أحدهم، اكتفى بإشارة من يده مغادرا.
استل سالم هاتفه مترددا في مراسلة إيما. .والتي لا يراسلها إلا للسؤال عنها، يحفظ شوقه لها في قلبه ويسقيه من حبه حتى عقد القران
-صباح الورد على عيون الورد خاصتي.
-مرحبا سالم.
-سأقضي بعض الوقت أمام جامعة أميرة، متى سينتهي اختبارها؟
-في الواحدة
-هل أوصلها إليكِ؟
-لا أعلم ، سأسأل أمينة واجيبك.
أنهى اتصاله ونزل من سيارته يبحث بعينه عن مطعم هنا أو هناك ولازالت الثامنة صباحا، وجد مقهى قريب توجه إليه لينال قهوته، فقد استيقظ اليوم باكرا على غير عادته.
يعبث بهاتفه يمرر الوقت..منتظرا ردها.
***
لم يمنحه القدر مكوثها جواره هذه المرة، تجلس في المقعد الثالث من أمامه يفصلها عنه ثلاث رؤوس طويلة تستوجب القص كي لا تحجبها عنه.
لم تستطع منع نفسها من البحث عنه في الخفاء من تحت رموشها، تكره ما فعله معها، عدم نخوته معها باستدراجها مدفوع الأجر، تفكر في مخططاته، هل فكر في ذهابها إلى بيته أثناء مرضه واندفاع مشاعرها نحوه، هل ذهابه إلى فوقية مدبر، غيرته عليها، لمعان عينيه وهو قربها بالمصعد كل هذا أعده ثعلب ماكر لافتراس ضحيته.
استلمت ورقتها تلف وجهها يمينا..
يرفع وجهه نحوها ليرى رموشها الطويلة وعينيها البراقة وبؤبؤها البني يتحرك حتى يبلغ بياض عينيها كله.
لا تعرف بأنه خلفها ولم تره، هل تبحث عنه!
لقد أخفقت كل أفكاره في الظهور، كل ما كان يعانيه قبلا الآن تبخر، وتبقي اهتزاز قلبه وهو يراها الآن.
ينتبه لورقته فور انتباهها لخاصتها، يكتب ما يتذكره كعادته، ينفذ وصيتها التي منحته إياها من قبل
-لا تترك مكانا فارغا لسؤال، اكتب أي شيء يجعل المصحح يمنحك ولو درجة عوضا عن صفر.
حتى وهو في أدق لحظات حياته صعوبة يتذكرها.
مر الوقت وانتهى الإختبار، يراها تبتعد تنظر في هاتفها، يبطىء الخطى يراقبها ولا تراه، يوليها ظهره ليمنع تلك المشاعر من الطفو، علها تغادر ولا تذبحه بطلتها الحزينة.
***
تخبط على زجاج السيارة فينتفض سالم من نومه، ليفتح لها
-مرحبا كيف حال الإمتحان؟
اغلقت باب السيارة وهي تجلس في الخلف وتعامله كسائق
-لقد أخبروني بأنك في انتظاري فقد كنت في عمل قريب.
يبعد أثر النوم عن وجهه بمسحة سريعة من كفه
-هذا عوضا عن شكري وأنا انتظركِ ولم أعد لمنزلي.
-هيا..أوصلني إلى عملي..
-لست سائقكِ يا أميرة، تأدبي.
لحظات وكانت السيارة تفتح ليدخل محمد ويغلق بابه
-كيف كان الإمتحان؟
أجابه باقتضاب وبوجه متجهم
-بخير.
تلك الصفعات الصاعقة التي أصابت سيارته من المشاحنة القاسية بينهم، أصابته بالعجز عن إدارة حديث.
لم يتبادلا حتى السلام، هو يكتم مشاعره التي تطفو بداخله برغبة عارمة في الإعتذار يرجوها العودة، وبين غضبه من نفسه بأنه جارى عاليا ليتعرى أمامها بقبح نفسه.
وهي لم ترحب به..فكيف..؟
كيف لقلب صدأ في الفراق وتغذى على الماء فتعثرت مفاصله وتفككت من صدأ تروسه.
كيف تضع قناع اللامبالاة وهو الذي امتهنها وقلل من مشاعرها بدناءة ، سوء خلق.
قاد سيارته وهو يلتقط ما يحدث داخل سيارته.
ورغم كل ما يشعر به محمد إلا أنه لم يستطع منع نفسه من النظر لها في مرآة السيارة جواره..
غاضبة، حانقة..حزينة، سيتحمل حنقها..أجل..وغضبها..لكن حزنها لن يحتمل.
توقف تفكيره عند فرملة السيارة وقول سالم
-لحظات وأعود، سأشتري شيئا من هنا.
وبعد مغادرته مرت اللحظات بصمت..
تجلس خلف كرسيه مباشرة ، تتصاعد بداخلها أبخرة الحنق ترغب في صفعه
جاءها صوته الخافت
-لا تحزني هكذا يا أميرة، فأنا قذر لا أستحق.
لم تجب
-اعلمي أني لن أبرئ نفسي وأخبركِ أنني كنت ضمن خطة رخيصة من عاليا التي لم أتفق معها على شيء ولم أعطها شيء إنما هي من دبرت بمكر وخسة، مخطط لم أخطُ فيه خطوة واحدة..
يلتقط أنفاسه المتسارعة بفيض حبه لها
-كوني متأكدة بأن كل نظرة منحتها لكِ كانت مصبوغة باهتمام حقيقي، كل لمعة من حديث جمعنا إنما هو إعجاب بكل ما يحاوطكِ، أن غيرتي كانت حقيقية، وأني تألمت شوقا لفراقكِ وأنت تخبريني بمعرفة إيمان وفوقية، وتأكدي أن بعدي عنكِ ما هو إلا حب، وخوف عليكِ مني.
يترك بؤسه صداه على صوته المتقطع وهو يقول
-أنا اسوأ شخص ممكن أن تعرفيه في حياتكِ ويمكن إلا تقابلي من هم مثلي كثيرا في عالمكِ البريء، تأكدي بأنه لم يقربني منكِ مخطط عاليا الباهت الذي لم أستسيغه، ولا بضع ورقات من الأموال لم تدفعها ولم أكن لأقبلها ولا أن أتم اتفاقها معي، إنما ما أريده هو ألا تحزني..لا تحزني لأجلي يا أميرة، ولا تحزني على خروجي من حياتكِ، أنا كنت ولا زلت أحبكِ، أنتِ من علمتني معني النجاح ووضعتني على طريقه، فلا تجعليني سببا في حزنكِ وضيقا لحياتكِ.
لم تجيبه بحرف واحد وهو يراقب انشغال عينيها بما حولها ودموعها تنهل من خديها فتخضب ببريقها
-لا تبكِ أنا لا أستحق، وربي لا استحقكِ، الأمر بات أكبر من خطة لنيل فتاة، الأمر بات معقد بداخلي ولا اقوَ على العيش بطبيعة ولا المنح ولا الحب، لقد فكرت في الانتحار..
لم تشهق، ولم تبد شفقتها فشعر بأنها في طريق التعافي منه
-لكنني كنت أجبن من أن أخطو هذه الخطوة، ورغم وجعي غلبني جبني.
-لا أطلب سماحك وغفرانك، امضي قدما يا أميرة وانسيني.
ليتها قادرة على النسيان، لو فعل هو، هي ليست مثله، استفزها سهولة هروبه
-كيف أنساك..؟
اجابتها باحمرار وجهها أدمى قلبه، يرغب لو يلتفت الآن فيضمها إلى صدره يبكي لها وبها، يشعر بعذاب يحرقه من أعلى رأسه وحتى أخمص قدميه..
-كيف أنساك وأنت في كل الوجوه والكتب والشاشات، كيف أنسى أول حب وأول رجفة وأول متعة وانشراحة صدر، أول خفقة، أول تعلق.
يرق صوتها بدموعها الشجية
-بل كيف أنسى خديعتك التي تمزقني بين حبي لك وخداعك لي، أنا غبية يا محمد، غبية أكثر منك وقد ربتنا أمينة على خداع الشباب والتفاف طرقهم للايقاع بالبنات لكني لم أحذر وأنا أسقط فيك.
ترفع كفيها منفعلة..تهز كتفيها بحسرة مردفة
-كنت أول تجاربي التي وضعت فيها كل ثقتي وأملي في الغد، كنت لأواجه أمينة بكذب مزاعمها واخبرها بأن هناك رجال بحق فكنت كمثلهم بل أسوأ ..
يرتفع صوتها بخيبتها..تجتر أحزانها
-بدأت بمخطط، و ألقيت بي حالما مللت، أنا أكرهك، أكره كل ما يذكرني، أكره المصعد، وكرسيك الذي شغله غيرك، أكره استماعي لنصائحك بألا أركب المصعد مع رجل ينفرد بي، أكره تفكيري بك وأنت مريض بين أيدينا أنا وأمنية، وأكره تباسطي معك لأقص لك كل شيء عني، فتحت لك قلبي فطعنتني بنصل مزقني.
قلبه الذي يحبو نحو التعافي بات الآن مهلهلا مما تنوء أذنيه بسماعه، يعبث بورقة يحملها بين أصابعه شاردا فيمن يمرون أمام السيارة
-لقد تسببت في انتحار أمي يا أميرة.
يطوي الورقة بين يديه لتصبح أصغر حجما وأكبر سمكا، وكأنه يحاول تصغير أفكاره فتهاجمه بضخامتها
-كنت سببا في اغتصابها، ومن ثم انتحارها، لقد سرقتها وكنت سببا في تحطيم حلم العودة الذي كان ينتظره أبي بعد طلاقه لها.
أصبحت الورقة كمكعب الثلج بين يديه يمده ببرودة حديثه، لكن القلب يذيبه بحرارة جحيمه
-وزيدي فوق تلك الكوارث التي ارتكبتها أني لم أعرف الحقيقة سوى من أيام قليله فباتت كل قناعاتي وأفكاري عنها محض هراء..مثل الطفل البائس الذي أخذ يحفر داخل حفرة حتى ابتلعته، لا هو قادر على الخروج منها، أو ردمها.
تراقب انتفاضة جسده ورعدته من كرسيها، تتذكر اتصالاتها به، سقوطه المدوي، فصله عن عمله، كل تلك الأحداث كانت بعد تلك الزيارة لخالتها، وذاك السقوط.
لم يمنحها الفرصة للتفكير، ولم يهدر وقته في التفاصيل، إنما منحها رسالة تشرح لها مدى قبحه وسواد سريرته، رسالة أمه ..من حقها أن تبتعد عنه دون ألم..لابد لها وان تعرف كم هو أحمق غبي يسيء لمن هم من دمه، بل من منحته دمه..فما بالها هي الغريبة عنه؟!
صوت وصول الرسالة..تزامن مع خفض بصرها نحو هاتفها، فكان صوت ارتطام باب السيارة بعد أن نزل منها..
تتابعه يبتعد، ثم تتمعن في تلك الرسالة..لم تعِ كم من الوقت تأخر سالم..ولم تشعر بتوقف سيارته تحت مقر عملها..
-لقد فعلت ما أمرتني به إيما ..رغم سماجتكِ، لكن لأجل عيونها.
-فيم غادر محمد..؟
-ألم يقل شيء..ترك لي اعتذارا على مغادرته السخيفة؟!
تخرج من السيارة غير منتبهة لحديث سالم ولا حتى شكره..شاردة نحو المصعد متجمدة
***
![](https://img.wattpad.com/cover/329011417-288-k832779.jpg)
أنت تقرأ
بطل الحكاية
Misterio / Suspensoالجزء الثاني من Abasement(إذلال) تكملة لقصة عاليا وظهور ابطال جدد وقصص جديدة. لقراءة الجزء الأول من هنا https://www.wattpad.com/story/210517528?utm_source=android&utm_medium=link&utm_content=story_info&wp_page=story_details_button&wp_uname=HalaHamdy...