الفصل الخامس عشر

42 4 0
                                    

يترنح فور دخوله إلى منزله، وهو يصطدم بالظلام الذي تركه منذ ساعات ليعود إليه، تلك الظلمة التي باتت تلازمه منذ دخول عاليا إليها.
كم مرة عليه أن يتناساها، أن يضعها في ذاك الركن المظلم من عقله الذي لطالما واساه على انتقامه.
هي من أرجحته بين الانتقام والشفقة، حقا كان يشفق عليها مما تعانية في بداية الأمر، والآن يجلد نفسه بسياط الندم، هو لم يخطط لانتحارها، هو فقط أراد أن يأخذ حقه الذي سلبته إياه..
حقه في الرفض أو الموافقة على الزواج..
حق الاختيار..
لقد أراد تأديبها، تخويفها، لكنه لم يقصد أن يدفعها نحو القمة لتلقى مصرعها.
-ساعة على الأكثر وأكون مستعد يا سالم.
يتوجه نحو الحمام، يغسل وجهه البائس، يبلل شعره، يرفع وجهه نحو المرآة الصغيرة التي كان يهذب لحيته أمامها والآن يقف أمامها طويلا بثبات، يرجوها إيقاف تلك الجيوش المهزومة داخل رأسه التي تشعره بالدوار.
يخفض بصره داخل الحوض ينظم شتاته بينما تلحظ الأشياء خيبته، لحظات وخرج يكمل شروده في باقي شقته، ليت هذا الركن ينسيه عذابه، أو هذا المطبخ ينسيه هلعها.
-كفاك ثرثرة، لست بحال يسمح لي بسماع غرامياتك.
-لا أعلم سببا لما تعانيه، كف عن نهر نفسك أنت لم تخطيء في شيء.
يدخل غرفة نومه يخلع حذاءه ويسير فوق الأرض لا يفصلها عنه سوى قماش الجورب الخفيف الذي يرتديه، فخلعه على عتبة غرفته، هذا ما يجعله يشعر بالثبات فوق الأرض، شعورة بصلابتها تحت قدمه، وبرودتها التي تخفف من وطأة مآسيه.
وكأنه دخل عالم آخر مشرع النوافذ، يتخلله ضوء بسيط يزيد من سخطه على الظلام
-كنت أقوم بكل شيء في النور يا سالم ولا أخشى لوم أحد، كنت أسير في الظلام لأجلها، أجلب لها الحبوب، أخطط لإفزاعها، ثم تفرغ خوفها فوق صدري ليلا.
يستمع لتنهيدة خاله التي تشكو تعبه
-وكأني بضمي لها أخفف من ثورة انسانيتي، أمنحها شفقتي وتعاطفي، أطعنها بالسكين ومن ثم أقطب جرحها..
يعلم بمعاناتها.. لكن ليس ذنبه..تمردها..عنادها..خطاياها..ليست ذنوبه.
يبسط كفه فوق رأسه يملسه إلى الأمام..
يستند بظهره على سريره، يفرد ذراعه إلى جانبه، يتنهد بخفوت.
-ربما عليّ زيارة طبيب نفسي ليصلح الخلل الذي خلفته بداخلي.
لحظات من الصمت مرت حتى تحدث سالم إليه
-أنا تحت منزلك يا خالي سأصعد إليك.
اعتدل من نومته يثنيه عن ذلك، لا يريده أن يراه بائسا في يوم كهذا بالنسبة إليه .
-أنا استعد يا سالم لحظات وسأنزل أنا إليك.
يحاول الترويح عنه
-تعلم أني سأجن شوقا لذلك الموعد.
قام بهدوء ظاهري يتنافى مع خرابه الداخلي..
-أعلم..هيا أغلق كي أجهز.
انتهى من حمامه يبعثر عطره البارد فوق جسده، يرتدي قميصه فيتشرب قطرات المياة الممتزجة برائحته.
حذاءه الأسود اللامع كمرآة تعكس تأنيبه وتردده، يخرج أنفاسه المحتقنة مع ضبط حزامه لقياسه الصحيح فيمنحه أناقة خاطفة.
السترة النظيفة، شظايا عطر تلامس وجهه وتلهب ذقنه التي رتبها للتو..
نظرة أخيرة مستصغرة لمرآته..وانعكاس لظهره.. منصرفا.
***
-لماذا توقفت هنا؟
يسأله سالم وهو الذي كان سيخبره بأن يقف
-إنه المحل المفضل لإيما يا سالم.
يظهر غيرته بأن مط شفتية بملل
-كيف عرفت؟!
فيشيح عبد الرحمن بوجهه يخفي بسمته ويقول
-لا يهم.
ينظر لأعلى ممعننا في غيظ الآخر، غير قادر على تفويت الفرصة
-هي لا تأكل إلا منه الآن.
يضغط على أسنانه بغضب وهو يفتح باب السيارة يهم بالنزول
-انتظرني هنا، سأبتاع الحلوي سريعا لنلحق موعدنا معهم.
بينما عبد الرحمن يخرج رأسه من النافذة يصيح فيه
-لا تفسد تأنقك.
يرفع كفه متفهما دون أن يلتفت إليه، فيضحك عبد الرحمن من لهفته.
دقائق قليلة تفصلهم عن الذهاب إلى بيتها..
سيراها على طبيعتها، ويلمس أرضها بخطواته..
سيسير نحوها في خطوات بطيئه..
لن يتسرع بعد خروجه من تجربته الفاشلة، وسيعطي نفسه وهي المهلة الحسنة التي  قد تعيد الشغف بينهم..
لحظات مرت قبل أن تلتقطه عينيه يقترب منه يحمل علبتين من الحلوى، إحداهما كبيرة والأخرى أصغر حجما..ربما أحضر حلوى، وكعكة زواج!
-لقد نهبت المتجر يا سالم، ما كل هذا؟
يعدل من هندامه، يمسح عن ذقنه قطعة قشدة عالقة به..يلعق شفتيه وكأنه يضبط طعم الزبادي في متجر عم  ربيع..
-لقد تذوقت ما تركوني أتذوقه واشتريت الباقي.
يدير سيارته وابتسامة رائقة تتسلل إليه..عينه على الطريق، بينما سالم يشعر وكأنه يسير إليها على الأقدام، ينهج، ويتعرق، وكأنه يأتيها عدوا وهو لازال جالسا لم يتحرك
-هل تعتقد أنها ستوافق؟
يركز عبد الرحمن على الطريق ويجيبه
-نعم.
يسأله باستبشار
-وأمنية؟
يجيبه بمرح
-سترفضك، سيكون مشهد شغوف سأرى وأتابع بحماس لما ستؤول إليه الأحداث..
يمسك نفسه عن الضحك، فيقول سالم بنزق
-لا أعلم سببا لعرقلة زواجك منها، لماذا لا تطلبها وتريحنا من تزمتها؟
روحه المستجدية للشفقة لانت مع كلمات سالم عنها متعلقا بما يريح قلبه ويثنيه عن عناء وتأنيب بات يلازمه وقد ظن بأنه تخلص من سببه، يتمزق بينها وبين تلك البقعة السوداء التي افترشت قلبه..
توقفا عن الحديث وهو يصف سيارته تحت منزلهم..يهما بالخروج منها، حالما لامست قدميه الأرض شعر باهتزازها، رمى بثقل جسده بجسارة كي يخطو جوار سالم بثبات..لكنه مقيد بأفكار أوشكت على الفتك به.
**
-حسنا، طالما لا تريدين الحديث معي سأذهب، لن أخبركِ أن هناك خاطب سيأتي بعد لحظات لخطبة إيمان، وعلى ما أظن أمينة سترفضه.
استفزتها كلمات أميرة التي تتوسلها الحديث منذ أتت إليها.
هي لا تريد أن تفتح فمها بأي كلام كي لا تنساق خلف المزيد من الأسئلة..ولن تفتحه..
-من؟
إنها إيمان، وتين قلبها، لن تفرط في رؤية سعادتها ولن تترك أمينة ترفض أول خاطب لها إلا وتعلم السبب.
-سالم!
-من سالم هذا ولماذا سترفضه؟
قامت تهم بالمغادرة
-ظننتكِ ستصمتين للأبد يا خالتي، لقد تحدثتي سريعا عما ظننت!
ترددت فوقية وقد حسبت أن أميرة تراوغها..
-سالم هو ابن أخت عبد الرحمن.
اتسعت عينيها بدهشة
-وهل له عين بعد أن عشمها بالزواج وذهب لأخرى يأتيها الآن بابن أخته، والله لن تتم هذه الزيجة..على جثتي.
تجذب شالها سريعا وقد تناست همومها تهب للدفاع عن بناتها
-من يظن نفسه..
تخرج من شقتها لتفتح لها أميرة منزلهم فتدخل بصوتها القوي
-أمينة.. أمينة.. هذه الزيجة لن تتم.
وفي الداخل تصنع أمينة من حزنها العصائر وتسكب مرارتها بداخلها بديلا عن السكر.
كانت على شرودها منذ تحدث إليها وأخبرها أنه قادم، لم يمنحها وقتا للإجابة ولا الموافقة.
صيحات باسمها بصوت فوقية جعلتها تفيق، ودخولها المسيطر إلى المطبخ جعلها تلتفت
-كيف وافقتِ على مجيئه إلى هنا؟
أخيرا هناك من يشعر بها ويعينها على الرفض.
-لم يترك لي الوقت، اتصل وأخبرني أنه سيحضر برفقة سالم في الثامنة مساء لخطبة إيمان.
تقلِب الأكواب لتصفيها من المياة بعد أن غسلتها جيدا قبل أن تضع بها العصائر
-هكذا ألقى أمره وكأني مجبورة على التنفيذ كما أوامره في العمل، أسب نفسي لمعرفته عني كل شيء..عمي..وحدتنا..تصرفي في أمورهم.. فلم يترك لي حجة للتأخير حتى يحضر عمي.
تمسك ذراعها بلطف تلفها إليها، تمنحها حنانا غامرا
-من قال أنكِ وحيدة يا أمينة، أنا جواركِ يا حبيبتي، لماذا لم تخبريني؟
انحنت على كتفها تترك لدموعها العنان، هي تدعي القوة أمام الجميع، لكنها الآن ستراه بحميمية لا توجد في المكتب، سيدور بينهم حديث غير رسمي فكيف ستواجهه.
يهتز جسدها فتربت فوقية برقة وتزيد من ضمها.
-لقد طلقها يا خالتي..طلقها..
انتظرت باقي الحديث وهي تعلم أن آخره موجع، أمينة يمنعها عنه شئ قوي لهذا الحزن.
لملمت دموعها مع سماعها طرقات على منزلهم.
تساعدها فوقية في ترتيب نفسها.
-سالم هذا مجنون لازال محتفظا بعلبة حلوى بيده رفض أن يعطيني إياها.
قاطعتهم أميرة وهي تدفع بعلبة حلوى كبيرة نحوهم.
-اذهبي رحبي بضيوفكِ، سأرتب كل شيء وألحقكِ، وأنتِ يا أميرة بلغي إيمان أن تستعد.
فعلن كما طلبت لتبقى وحيدة منشغلة بأفكارها، هي لا تعلم أبعاد ما حدث، لكن ما يهمها الآن إيمان، لو كان خاطبها يريدها ومناسب لن تتوان عن القبول.
تقترب وقلبها يقفز مع اشتمامها عطره..
رغم امتزاجه بعطر آخر، لسالم على ما يبدو، إلا أنها تستطيع تمييزه جيدا..
تدخل إليهم لتلتقي أعينهم المتعبة..
كلاهما يريد، كلاهما يعيد حساباته..
ظنَّا أن عاليا حالما تبتعد عن المشهد سيكون القرب سهلا لكنه أبعد ما يكون على ما يبدو.
هي لن تغفر له تركها..
وهو لن يغفر لنفسه ما فعل..
تتبعها فوقية التي قطعت تواصلهم مرحبة بهم، فيقف ليحمل عنها بأدب..
-خالتي فوقية..
قطعت كلمتها..فهو يعرف.. كل شيء..
قدم سالم نفسه مرحبا بتلك السيدة التي رآها في مرته الأولى في حال يرثى لها
-سالم ابن أخته..أمينة تشبهكِ..
نجح سالم في إخراجها من كآبتها بكلامه..
قاطعه عبد الرحمن
-جارتهم..
يعلم..نظرته لها وهو يخبر سالم تؤكد على أنه يعلم، ويتذكر كل شيء عنها، منحها نظرة غائمة بذكرياته ليجلس فيتبعه الجميع.
-مرحبا بكم، أنرتم البيت.
كلمات فوقية الملطفة منحتهم هدنة قصيرة حتى عادت أميرة ومعها إيمان التي تمنت أن تنشق الأرض وتبتلعها بعد وقوفه واقترابه منها يمنحها علبة الحلوى التي تمسَّك بها منذ قدومه.
لا يعلم ما الذي يحدث له عندما يراها..هي مركز الكون ومحور رأسه..
تتسارع أنفاسه وهو يراها تمد يديها لتمسك بهديته..
وفي لحظات استحال خجلها إلى سعادة، لقد أحضر لها علبة كاملة مما تحب، وبدأ كلاهما حديثا مطولا بالعيون، شفتيه التي لم تتوقف عن الابتسام، ووجنتيها اللتين ازدادت حمرة، إغلاق عينيها برقة مداراة لخجلها ليتركوا الحديث الجديّ لأمينة وعبد الرحمن.
-لم أره على هذا الحال من قبل.
كلامه بدا وكأنه يتحدث إلى نفسه لكن سمعه الجميع، يبتلع ريقه وقد تعلقت الأنظار به فلم يجد سوى عينيها مرسى لحديثه
-سالم يريد الزواج من إيمان، جئنا لطلبها وأرجو ألا تقابلي طلبه بالرفض.
يبدو مستجديا لا طالبا، عيني فوقيه التي جردته مما يظهره ونفذت لداخله بنظراتها، يشعر بأنها تعريه من تلك الهالة التي يحرص على رسمها وذلك التماسك الوهمي.
قالت بوهن وقد خذلها إنهاكها وتفكيرها المضني
-لست موافقة..
لازالت عينيها مرساه حتى في غضبها..
-لماذا؟
كان صوت سالم الحاد، غاضب هو من أنايتها..
تقلب في دفاتر قديمة تدعم حجتها
-لأنك أردت العبث معها من قبل.
-والآن آتيها خاطبا، لقد أتيت من الباب يا أمينة، لو أردت العبث لعرفت جيدا كيف أظفر بها، أنا أريدها زوجة لي، أما لأولادي.
-أنت تعلم أن هذا مستحيل يا سالم، هي لا تسمع ولا تتكلم، كيف ستسمعك وتلبي حاجتك.
-لقد تعلمت لغة الإشارة لأجلها، انظري.
وكرر كلماته بإشارة من يديه فتلجلج منطقها وهي تقول
-ما الذي يضمن بأنك لن تمل منها، لن تتحمل إعاقتها..لن تغدر بها.
واجمة هي ملامحه، وقلبه محاط بأسوار اللوم فأصابته كلمة الغدر لتزداد إرتفاعا.
هو لم يغدر بها، بل هو من تلقى كل الطعنات لأجلها، هو من خسر نفسه وخاض نزالا مؤلما استنزفه.
صوته الأجش أجاب عن سالم
-أنا أضمنه يا أمينة.
هدأت الأجواء وهي تنظر إلى عينيه بجدية
-أنتِ لا تعلمين ما الذي فعله لأجلها ولا ما الذي غيرته إيمان فيه، لا تعلمي في أي طريق كان ليسلك لولا وجودها وجعلها هدفا هاما يسعى للوصول إليه، ولا تعرفين شيء عن مثابرته للفوز بها.
أوشك على إخبارها بكل شيء فاستوقفه سالم
-خالي، لا تقل كل شيء أرجوك، أريد أن أجعلها مفاجأة لها.
أشار له عبد الرحمن ليتوقف، ليكمل حديثه
-سالم استأجر شقة واشترى مكن للخياطة لأجلها، ينتظر معرفة إن كانت قادرة على إدارة المكان بنفسها أم تحتاج لعاملين يساعدنها، سيتكفل بكل شيء لفرش منزله، أما المشكلات فلا بيت يخلو منها.
أصبحت لا ترى من غلالة الدموع التي كست عينيها، وكأنه يعدها هي بكلماته، وكأنه يخبرها فقط بان تحلم..
-سالم يحلم بأسرة كبيرة تجمعه بها، خالات لصغاره يساعدوهم على الحديث والنمو أصحاء، يحتاج لزيارات ودعم وعائلة.. هناك اصرار لضمان النجاح..وأنا أضمن لكِ إصراره وثباته.
-موافقة.
خرجت الكلمة من فم فوقية التي رأت الصدق في سمت سالم، واستمعت لما فعله لأجل الصغيرة، هي لن تفرط في فرصة كتلك لأجل أمينة التي لازالت تجهل مبررها.
انفلتت دموع أمينة من عقالها، لتقترب منها إيمان بعفوية تجلس تحت قدميها تشير إليها بانفعال وقد فطنت لما يحدث وشعرت بتصلب الأجواء والملامح
-سأستمع لقرارك، سأفعل ما تقوليه، لن أخطو خطوة واحدة دون إذنكِ وموافقتكِ.
تضم وجهها بكفيها تقبل جبين أختها التي على ما يبدو متعلقة بسالم..لا تعلم متى ولا كيف!
إلا أنها تستشعر أن بينهم قبول..
لن تحكم على حياتهم بالفشل لمجرد أنها سترى عبد الرحمن دائما وابدا..
لقد عاشت لأجلهم طوال هذه السنوات..لن تأتي اليوم تقابل نجاة أختها بأنانية..
ربما لن يتقدم إليها خاطب كسالم..
تمسح دموعها..لتستمع لصوته الحاسم
-وأنتِ يا أمينة؟
ترفع أختها عن الأرض لتقف معها
-موافقة.
لتصيح أميرة بزغرودة عالية، فتزداد دموعها..
عبد الرحمن يبدو رزينا، إلا أن داخله مبعثر..
غير قادر على لملمة ذلك الصخب الذي انتشر في أطرافه ..
زغرودة أخرى من القلب هذه المرة من أمينة، تتسابق دموعها معها..اليوم فقط شعرت بسقوط أثقل حمل عن كتفها..
-هناك شرط واحد، إيمان لازالت صغيرة، هي في الثامنة عشر، ليس لدي مانع من الخطبة حتى تتم العشرون على الأقل...
يقول سالم بلهفة
-دعينا لا نحدد وقت، متى جهز المنزل نتزوج، أعدكِ بألا تندمي يا أمينة على موافقتكِ، أتمنى أن أكون رجلا في عيني خالي الذي تحدث عني بثقة أنا لا أملكها.
يضربه عبد الرحمن على كتفه
-مبارك يا سالم.
-العقبى لك يا خالي.
لحظات وامتلأ منزلهم عن آخره، يتساءل الجميع عن سبب تلك الزغاريد، فتتزايد مع كل امرأة تعرف.
وقفت فوقية تتلقى التهاني ودموع فرحتها لا تتوقف، تجذب إيمان إليها بحب، تقبل وجهها كثيرا كثيرا.
اقتربت منها أميرة وهي تقول
-لقد ظننت أن هذه الزيجة لن تتم!
قالت فوقية بنزق
-لقد بالغت قليلا.
-قليلا! لقد سمعكِ عم سلامة وهو في عمله.
زغرودة أخرى قطعتها ثم قالت
-لا تنفعلي مجددا وتتخذي قرارات لن تنفذيها.
ضربتها على رأسها تستوقف سخريتها التي تذكرها دوما أنها امرأة بلا كلمة.
وحالما انصرف الجميع توجه عبد الرحمن بنظره إليها، يطلب منها وهو  يثق برفض طلبه إن وجهه لأمينة
-هل يمكننا الخروج ليتحدثا سويا، أشعر بالحرج من وجودي هنا وأنتن بمفردكن؟
ثم إلتفت إليها وكأن رأيها تحصيل حاصل
-إن لم تمانعي يا أمينة، لنحتفل بخطبتهم، ونترك لهم فرصة للحديث.
صرامة فوقية الحكيمة لم تترك لأمينة مجال للرفض
-الجميع هنا يعلم أن أمينة بمئة رجل، أوافق بالطبع.
خرج صوت أمينة محرجا
-    لقد تحدثت إلى عمي لكنه مريض، لم يستطع المجىء، ربما يحضر الخطبة.
يصر سالم على طلب خاله
-نتغدى سويا، ساعة على الاكثر، أود إخبارها بما حدث منذ لحظات.
قالت أميرة بخبث، تغمز نحو إيمان
-هي تعلم.
إصرار سالم المتلهف فضح مشاعره
-تعلم بخطبتنا لكن حديثنا الطويل لم تفهمه، أرجوكِ يا أمينة، ساعة واحدة فقط، أحتاج للحديث مع إيما بحرية.
يتنحنح عبد الرحمن مجددا يداري  لفظة إيما التي تنفلت من سالم دوما.
ابتسمت أمينة بتعقل، تجيبهم
-حسنا..لا بأس.
***
يترك ثلاثتهم يمشون أمامه، يثني سالم عن الإقتراب من إيمان قائلا
-اهدأ يا بني آدم، انت تخيفها، تبدو كالثور الذي سيفتك بها.
يتنفس بعمق، يستمع إلى كلمات خاله يحاول السيطرة على مشاعره، وعندما وجد طاولة فارغة، نادى عليهم، ياخذ إيمان إليها هامسا إلى عبد الرحمن
-جد لنفسك طاولة أخرى..
يتلفت حوله ليجد طاولة تبعد قليلا عنهم..
يجذب لها الكرسي لتجلس، وهكذا لأميرة ..
لم يقم بتلك الأمور أبدا، ولا يعلم سببا لهذا الدلال الذي يبديه سوى أنه يشعر بأنه يهتم لأمرهم..يشعر بأنهم أصبحوا جزء من كيانه..جزء ضعيف..جدا.
يراقب انفعالات سالم وهو يتحدث بلغة الاشارة إلى إيمان التي تخفض بصرها عنه بخجل ليفوتها معظم كلماته..
تتعلق بيديه تارة، وبعينيه تارة أخرى..
وتخفض بصرها أحيانا كثيرة..
قامت أميرة بشرود عن كرسيها تقول 
-أريد أن أتمشى هناك بالقرب من النيل، سأعود سريعا.
تسبل جفنيها بتعب، تشير إليها بأن تذهب..لا تعلم سببا لإنهاكها سوى قربه..
يراقب بعدها عنهم بشرود، ثم التفت إلى أمينة، مشيرا للنادل وهو يحدثها باهتمام
-كيف حالكِ يا أمينة؟
يسألها عن حالها الآن.. حقا!
بعد شهور مضنية من العذاب والتحلي بواجهة سوية، شهور يمتنع فيها عن توجيه كلمة مباشرة لها، وعد..إعتذار..تفسير..
الآن!
-لست بخير.
تجهم وجهه، لم ينتظر تلك الإجابة، ربما انتظر ادعاء جديد بالصلابة يمنحه الوقت للتعافي فوجد أن حديثهم بعد ما كان لن يكون طبيعيا أبدا.
-ما السبب الرئيسي لرفضك لسالم يا أمينة؟
-أنت.
تزداد ضربات قلبها إنهاكا..مع سماع صوته..
-استغرب من جرأتك في المجيء إلى بيتي
لطلب أختي للزواج وقد كسرت قلبي من قبل، وكذلك ثباتك أمام الجميع الذين يعلمون خيبتي ووجعي وتعلقي بك..يالبجاحتك.
هذا الجانب من المكان جنة، ليس حارا فيصيبها بالاختناق، ولا باردا فترتعش هي وصوتها..
أو ربما هي نسمة الهواء التي تهادن خجلها..
فتجيبه بتلك الصرامة
-كيف سنرى بعضنا وقت أطول، كيف سيصير بيننا نسب وأنا لا أقوَ على نسيان خذلانك لي دون تفسير أو تبرير، لقد ذكرتني بتلك التي تجري خلف رجل ووقت الزواج يقول لها أنا لم أعدكِ بشيء، أنت وعدتني يا عبد الرحمن، بأشياء..لقد وعدتني..
يقترب بجسده من الطاولة بعد أن لقن الناذل طلبه، يرى الألم بعينيها وغير قادر الآن أيضا على محوه بوعود قد لا يفي بها.
صمته أتلف أعصابها،  تعبث  بمفرش الطاولة مبتعدة بنظرها عنه وقد تنحت جرأتها ليطغى حيائها، لقد أخبرته ضمنيا أنها ما تزال تحبه!
هل حقا فعلت؟!
يحك ذقنه منتظرا بوحها بما تكتمه مستمتعا بنهرها له عوضا عن نهر نفسه، لقد وجد من تشاركه غضبه من ذاته، وجد من تمعن في إيلامه بوجعها وألمهم واحد.
هي تؤنبه على ما فعل بها وكل ما فعله لأجلها.
-أنا آسف يا أمينة.
-وماذا سيصنع أسفك، ما الذي سيعيده أو يبدله؟، لا أهتم به ولا أريده، الآن آسف، الآن تسمعني، هل عرفت مدى امتهاني وهي تأتيني لتمنحني بطاقة الزفاف، انتظاري لكلمة منك أو رد على اتصالاتي لأعلم ما الذي يمنعك عني، هل يمكنك الشعور بي وأنا أعرف أن ابتعادك عني كان لأجل عاليا!
تلمع الدموع بعينيها وهي تقول
-هل تعلم شعوري وأنا مجبورة على العمل معك لأكف أخواتي الحاجة بعد أن جعلتني أترك عملي في المستشفى، إحساس المهانة الذي يتملكني كل يوم وأنا أقوم بأعمالك لأنك مصدر رزقي، اصبعي تحت أسنانك.
تنهت بانفعال وهي تردف
-أنت لم تترك لي المجال لاختيار أي شيء، عثرة وأقلتها من طريقك ولم تلتفت لها بينما هي تتفتت امتهانا وضعف.
يخلل شعره بأصابعه منهك مما يعرف، لقد حسب للشرور الذي سيبعده عنها ولم يحسب لمشاعرها المحطمة، ظن بأنها ستتعافى منه لكنه كالمرض الذي يطول توطنه بالجسد فلا يشفى، يتراجع عن إصراره في معرفة ما تكتمه وقد أشفق على حالهم....
-لا..لا أعرف وقد كنت منشغل بما أنا غارق فيه، كنت أعلم بأنكِ قوية وستتجاوزي الأمر، راهنت على حكمتكِ وتعقلكِ ولم تخيبي ظني، نتألم وقت تنظيف الجرح لكننا نتعافى يا أمينة.
تهز رأسها بسخرية، عن أي تعافي لعين يتحدث وهي لازالت غارقة فيه حتى أذنيها.
تنظر لوجه السماء تستدعي الصبر وقد نفذ مخزونها منه
يزفر كلمته بتنهيدة محترقة ينهي استرساله في حديث يؤلم رأسه
-لقد طلقتها.
ألقاها وهو يرتشف قهوته البائسة، وكأنه يخبرها عن أسعار الذهب المتغيرة على مدار اليوم
-أعرف.
تعبث بكوبها بوجه مظلم
-لقد سمعت السيد طارق في مكتبك..
التحم حاجبيه باهتمام ..
-هل استمعتِ لكل شيء؟
تجيب بثبات
-صياحكم فقط.
يدرس سكناتها، فتقول بشرود
-لم تكن لك منذ البداية، لماذا تحملت عيبها يا عبد الرحمن؟ .
تجمد جسده..يجيبها متصنعا الجهل التام
-أي عيب؟!
-عدم عذريتها، سقطها، تعذيبها.
انقلب فنجانه الذي كان يحتويه بكفه، يهتز ثباته أمامها، يخفض صوته
-كيف عرفتِ؟
-كنت ضمن الفريق الطبي عندما دخلت المستشفى.
عبس وجهه وتجمدت نظراته الطويلة فوق وجهها، وقال فجأة يواجه اتهامها باتهام
-ولماذا كنتِ تحضرين لها الحبوب يا أمينة وأنتِ تعلمين أنها توقفت عن العلاج.
قالت بحدة وقد تلبسها الجنون
-ولماذا استوقفتني عن جلبها وتكفلت أنت بالأمر؟
شظايا معذّبة تتناثر حولهم لتجرح قلوبهم معا
نظرته كمن أضاع شيئا..
ونظرتها كسعادة المحتضر وهي تراه رث الروح بقلب مهجور.
تلقت أميرة تلك الشظايا بصدرها وهي تعود إلى جلستها..
تقطع حديثهم الملتهب..
-الهواء هنا منعش يا أمينة ، هل يمكن أن نتمشى قليلا أثناء العودة.
وكأنها تتحدث إلى الهواء..
لم تلقَ صدى لحديثها فالتزمت الصمت لحظات.
ينظف بنطاله بمحارم ورقية اصطبغت بالسواد والمرارة، وهي تراقب انفعالاته التي يتردد صداها في رعشة كفها، وشرود عينيها.
قالت أميرة وقد لاحظت التوتر بينهم
-سأذهب لأحضر مثلجات، هناك متجر صغير مزدحم يبدو شهي.
يستوقفها عبد الرحمن وهو يترك المحارم فوق الطاولة
-انتظري، سآتي معكِ.
قام بطوله الفارع لتبدو أميرة كالصفر جواره، هيئة تسفح من يقابلها، سارقة للأنظار، بملابس منمقة لم تهتم برؤيتها في المنزل وهي تصارع خجلها.
تتجمع دموع باردة داخل عينيها المتألمة لما آل إليه الحوار بينهم، تنتقل ببصرها نحو سالم، فيتبدد الحزن فيهما، بشيء يشبه الترقب، تتطلع لصدق وعوده، وألا يخذل أختها كما خذلها خاله.
يسير جوارها برزانة وهيبة، بينما هي لا تحمل له سوى الغيظ منذ أول لقاء جمعهم لدى الخالة فوقية، سلطوي النزعة، يريد الجميع أن يأتمر بأمره.
هي لم تنسَ له ما فعله بأمينة، ولا حدته مع محمد، تراه نار موقدة تأكل ما حولها دون تردد.
وصلا إلى ذلك الطابور الصغير، وقف فيه وهي تجاوره..
تحدثت إليه بلامبالاة ترد معاملته الفظة لمحمد
-كيف حال زوجتك، هل ما زالت تذهب إلى جامعتي؟
تستند على شجرة ضخمة خلفها تكمل
-لقد رأيتها من قبل هناك، أتت لزميل لنا وركبت خلفه دراجته.
يضيق عينيه.. أشبه بابتسامة لم ترق لشفتيه
-محمد؟!
أيخبرها أن صورها وهي بين ذراعيه  مازالت بحوزته، أم يريها صورتها وهي خلفه فوق دراجته؟
انقلب سحرها عليها فاستقامت متفاجأة من معرفته
-لا أعرف زميلا لكِ بدراجة سواه، لقد أعادها سالم بنفسه يوم سقط في منزلكم.
يتقدم في مكانه في ذلك الطابور
-عاليا لم تدرس في جامعتكِ فلماذا تذهب إليها، لقد طلقتها بالمناسبة، ولا يجمعني بها شيء فتوقفي عن ذكرها أمامي.
تتجاهل صدمتها بالتوغل في إجابته
-لم تكن تشبهك على كل حال، لقد ضايقني ركوبها خلفه.
يعقد ذراعيه أمام صدره يضرب فوق ارتجافتها يستدرجها نحو حديث آمن
-شباب الجامعة في استطاعتهم فعل اي شيء لينالوا قلب فتاة خاصة لو كانت بريئة، يمكنهم تغيير مفاهيمها بكل الاشكال وابسطها، بينما هي تظن العكس، قد يبكي لها ويتوسل حبها، قد يقدم لها هدايا، وقد يقنعها بالمنطق ويجزم لها أن أي تقارب بينهم هو لا يقصده، المهم أنه ليس هناك أمان يا أميرة انتبهي لنفسكِ جيدا، واعلمي أنه كما شاهدتِ عاليا، هناك من يشاهدكِ ويشاهد غيركِ.
وهنا ارتجفت قدميها بشدة، وقد تذكرت كل ما حدث بينها وبين محمد في الأماكن العامة، تسب نفسها وتؤنبها لما كان بينهم.
لكن الآن..ماذا تفعل، إنها تحبه، كيف ستبتعد بعد أن رأته خائر القوى وقد تعلق قلبها به أضعافا مضاعفة.
إنها تعد الأيام والساعات حتى يعود للعمل فتتأخر لتراه، وتدعو الله عله يعود الجامعة، لقد أدمنته حد الوجع.
-تفضلي.
يناولها عبد الرحمن حصتها من المثلجات، وهي التي لم تنتبه للصمت الذي خيم فوق رأسها، ولا لمرور الصف وشراء عبد الرحمن ما أتت لأجله .
وفي طريق العودة قالت وكأنها لم تشرد
-لكن هناك أحاسيس حقيقيه قد نصفها بالحب، ويكون لديك الرغبة في مشاركة هذا الشخص كل شيء في حياتك كما لم تفعل من قبل.
ومع حديثها تعلقت عينيه بأمينة التي يراها شاردة من مكانه، يؤكد على كلمات أميرة بنظره إلى اختها.
-الفيصل في هذا هو صدق النية بالزواج، وخلال تلك الفترة لن يفيده العبث وتشويه سمعة من يحب، ليبتعد حتى يزن أموره ويأخذ قراره ومن ثم يعود وسيجدها بانتظاره حتما لو تبادله نفس الشعور.
تسير جواره، تزن كلماته وتقول
-وماذا لو كان الطرف الآخر في مشكلة
-لتكن جواره حتما لكن بحدود، الحدود التي تجعلها آمنة، وعزيزة.
كانا قد وصلا إلى أمينة، التي رفعت بصرها نحوهم، تنفض عنها أفكارها المتخبطة.
***
-لقد استأجرت مكان، واشتريت مكن للخياطة، لأجلكِ يا إيما.
لأجلكِ أشار نحو صدرها
إيما، نطقها بشفاهه ببطء لتشرع نوافذ قلبها جميعها له..وتجعله ينفذ من أيهما شاء..
حلاوة اسمها الجديد من بين شفتيه غير كتابته تماما..
ذلك التلامس البطيء لشفتيه وهو ينطق حرف الميم أشعل وجنتيها خجلا
. هل أنتِ موافقة على أن تكوني شريكتي-؟
تمسك بكفيها تحت الطاولة لم ترفعهما..
تهز رأسها توافقه..
فيشير
-هل تستطيعي تحمل مسؤولية التنفيذ بيدكِ، أم تحتاجين لعاملات يساعدنكِ في تنفيذ تصميماتكِ.
رفعت كفيها أخيرا تنزلق في حوارها الصامت معه، وتقول باشارتها
. سأصمم بنفسي، لكني أحتاج من يساعدني-
يشير بعملية
متى سنبدأ، لقد نجحتِ اليوم، مبارك يا ايما، أنا متعجل للبدء، أتوق إلى تذوق طعم النجاح.
كلمات ضخمة،  صعب تعلمها بالإشارة، لكنه أجاد الحديث بها بلغتها..
تشير إليه بأصابعها الرقيقة
هل تعلمت كل ذلك لاجلي؟!-
يشير بحب، وتناغم، وهدوء
لأجلكِ، ولأجل أطفالنا .
تزوي ابتسامتها، وقد طغت مشاعرها على وجهها، تغيم بعاطفة لمست قلبه، يخرج من جيبه قلم فحم، مطلي بالذهب..يضعه على الطاولة، غير مجازف بملامسة يديها مرة أخرى، فقد كانت عاقبة لمسه لها آخر مرة..ليالي طويلة من الأرق لم يعوضها  إلا برسوماتها التي تبدلها يوميا على تطبيق الواتس آب.
تمد يديها بخجل تفتحه، كيف استطاع النفاد بداخلها بهذه السرعة..
حسنا..ليس سريعا..بينهم علبتين من الحلوى، وكميات كبيرة من الخبز، ومشاجرة..
حسنا، لقد أصبح بينهم عشرة..
تتمسك بالقلم بحب، تتأمله، ترفع يدها نحو رأسها تشكره..
وفقط..دقائق من الصمت لم يتوقف على التدقيق بها..ستغادره بعد قليل..يجب أن يشبع من قسماتها الحبيبة..
عينيها البريئة، يغمرها شعاع الفرح، يود لو يضمها إليه مرة واحدة وينصرف..
لولا الناس حولهم..لولا خاله..لولا أمينة ..
وعلى ذكر أمينة وقف عندما سمع صوتها تتعجلهم للانصراف..
وفي طريق العودة، مع تجهم عبد الرحمن، وانهاك أمينة ..اتفق على زيارتهم مجددا بعد أسبوع، لشراء شبكة العروس..
والاتفاق على حفل الخطوبة..
***
خرجت من عملها للتو، تمسك هاتفها حاسمة حيرتها في الحديث إليه، لقد مر أسبوع على إختفاءه، ولم يأتِ للعمل ولا الجامعة، لابد وأنه ليس بخير.
يأتيها صوته الواهن
-مرحبا.
قالت باحراج، هي لم تحسب لخجلها، ولا لهفتها، ولم تحسب حسبانا لفيضان الشفقة الذي مر عبر صوتها وهي تناديه باسمه
-محمد..كيف حالك؟
ولولا وجودها في في الشارع لبكت في الحال.
-الحمد لله بخير.
إجابته التعبة رق لها قلبها، فقالت
-أين أنت؟
كان يعدل جلسته فوق فراشه
-في غرفة وردة.
عم الصمت فتنحنحت بغيظ وقالت مستفهمة
-هل أنت عند أبيك؟
-أجل، شعرت بالتعب فذهبت إليه .
-كيف أنت الآن؟
-أشعر بالتحسن يا أميرة، أشكركِ على إتصالك .
قالها وهو يشعر بالخزي منها، وقد حدث ما حدث أمامها، ومؤكد سألت عن السبب ويظن أن فوقية لن تقصر في إخبارها.
أتت حافلتها فأنهت الحديث معه.
-لا تشكرني، المهم أن تعود إلى عملك ودراستك، سأطمئن عليك ليلا.
لا تعرف كيف خرج منها هذا الوعد!
وهو لم يرفضه، رغم رغبته في الاختباء عن الأعين طويلا، وهي بالأخص فقد شهدت على بشاعته، لكن قلبه تعلق بها.
لحظات وفتح والده غرفته وهو يقول
-اللهم لك الحمد، لقد تحسنت كثيرا بني.
ربت على كتفه بود وقال
-سأذهب لصلاة العصر في المسجد القريب، هل تأتي معي.
اعتلى التردد وجهه، فلقد توقف عن الصلاة منذ ظن السوء بأمه، وكأنه يحرمها أي ثواب قد يذهب إليها منه، جاحدا باهتمامها وتربيتها الحسنة له.
سحب نفسا طويلا يجلي رئتيه من الضيق الساكن بها، يحتاج هو الآن القرب من الله، عل ثورته تهدأ، وأفكاره تترتب، وكرهه لذاته يتغير.
أزاح الأغطية عنه وهو يقوم ببطء
-حسنا أبي، سآتي معك.
***
عاد إلى منزله بعد أن أصر على المبيت فيه، فيكفيه بعثرة لعائلة أبيه بنوم وردة جوار أمها ونوم والده جواره.
يبتسم بوهن، لربيبة أبيه طابع خاص يجعله يبتسم الآن منها بمودة، يتذكر دخولها عليه الغرفة مرارا وهو في أوهن لحظات حياته، توقظه بحجة الاطمئنان
-محمد، محمد، محمد، هل أنت نائم؟
تأتي لتتأكد من نومه فتوقظه بطيب سريرتها.
الطعام الساخن الشهي المعد بأنفاس زوجة أبيه ساعد في شفاءه، لكن يكفي ذلك، ليعود كلا إلى حياته، لا يمكنه المكوث طويلا، يعلو رنين هاتفه فيأتيه صوت أبيه
-هل وصلت منزلك بسلام.
لقد رأى في تلك الأيام وجها آخر لوالده، لقد تركه يعتمد على نفسه منذ زمن طويل، إلا أنه جواره وقت الحاجة، سند صلب يحتمي به.
يضع علب الطعام التي أصرت زوجة أبيه على أخذها على الطاولة.
يخلع حذاءه وينزع سترته ليتوجه نحو السرير.
ساعدته الصلاة على الاسترخاء قليلا، استلقى فوقه ليسترخي أكثر..
يستمع لصوت الصغار في الشارع يلعبوا الكرة في هذا الوقت من الليل.
لحظات وسمع إحداهن تقذف فوق رؤوسهم الماء ليبتعدوا عن المنطقة، ليهدأ الجو إلا من انفاسه، فتلتحم عينيه بهدوء لينام نوما ثقيلا لم يفق منه سوى الواحدة ليلا.
يضع كوب شايه جانبا وهو يسألها بعد السلام الحار من قبلها والجاف من قبله، فلازال متحفظا في الحديث معها.
-لقد أخبرت الرؤساء بمرضك فمنحوك أجازة مسببة ستنتهي في الغد إن شاء الله، أشعر أن صوتك أفضل من الصباح، يبدو أن وردة اهتمت بك كثيرا.
اغمض عينيه مستشعرا ضيقها
-وأبي كذلك، كنت بحاجة شديدة إليه يا أميرة ولا أشعر.
يشعر بضربات داخل راسه ووهن في عظامه فقال باحتياج شديد
-وكذلك إليكِ .
اعتراف جديد أوهن دفاعاتها في محادثته، لم تسطتيع منع عتبها من الخروج للسطح
-كيف ولم تكن تجيب على رسائلي؟
أراحه عدم صدها فهو في مزاج لا يحتاج لتبرير أو ردع.
-كنت أفكر طوال الوقت في صورتي أمامكِ.
-كلنا نمرض ونسقط، لا تخجل مني
تنبه من قولها بأنها لا تعرف شيئا عما حدث، أيعقل أن فوقية لم تخبرهم بسبب سقوطه، أو لمنع أميرة عنه، رغم تخفيف الأمر عن كتفيه إلا أنه لازال داخل صدمته الغائرة
يبعثر شعره بحنق ويقول
-لست بحاجة لمن يسكن أوجاعي يا أميرة افهميني.
-إذا فيما تحتاجني، إن لم يكن في التربيت على روحك، لقد بدأت الترم الفائت بالاهتمام بدراستك، لقد نجحت بالمناسبة، علقت النتائج بالأمس .
قابلها بصمته فأردفت
-مبارك، أنت على وشك التخرج، ذلك يمنحك الأمل في الإستمرار على ما أنت عليه
-بل يمنحني الإستمرار على الحفاظ بكِ
لقد جرب صدر أبيه واحتواءه، فماذا عن صدرها هي
-أشعر بالألم في عظامي يا أميرة، مطارق داخل رأسي، غير قادر على التفكير سوى في مصيبتي وما أقدمت عليه
انفلت لسانه فأكدت على جهلها بالأمر
-ما هي مصيبتك يا محمد، أخبرني ما الذي حدث، لماذا سقطت بهذا الشكل، هل أهانتك خالتي فوقية، لقد كانت على غير طبيعتها في ذلك اليوم، لم نعتدها كذلك صدقني.
يستمع لكلماتها بتعب، بالتأكيد كانت على غير طبيعتها فصفعته وأهانته، ولم تخفف عنه الحقيقة، بل منحته إياها بمنتهى الصلف انتقاما منه.
لكنها امتنعت عن إلقاء التفاصيل، حسنا فعلت، فكيف كان لو علم التفاصيل.
يمسد رأسه بأنامل أصابعه، هو يريد التفاصيل، لن يهدأ إلا لو علم التفاصيل ليرسم المشهد في رأسه، يعلم بأنه قد يموت من معرفتها وهو سببا فيما حدث، لكن يدفعه جلد ذاته للحديث إلى فوقية الآن لمعرفة أدق التفاصيل التي تؤرق نومها، ليذبح نفسه مرارا ومرارا، ليتأكد من أنه قاتل دنيء.
-أميرة، هل يمكنكِ إرسال رقم فوقية لي.
-ماذا ستفعل؟
لو فقط يخبرها سبب ما حدث بينهم وتسبب في تلك الواقعة وتبعاتها
-ارسليه لي فقط، بدون أسئلة، بت لا أحتمل أي شيء.
-حاضر، لكن لا تخبرها بأني من أعطيته لك، ستغضب مني.
لحظات وأرسلته إليه بعد أن أنهت المكالمة، تبعته بحديث كتابي
-بالمناسبة، لقد جاء إيمان خاطب اليوم، ألا تريد أن تعرف من هو.
لم يبدِ اهتماما فقالت
-لقد أتى إلى بيتنا اليوم سالم بصحبة خاله، يطلب إيمان للزواج، وقد رفضت أمينة في بادىء الأمر ثم لانت لحديث عبد الرحمن المقنع.
أختها الصغيرة التي تحمل إعاقة ستتزوج، بينما الكبيرة والوسطى لازالوا بلا خطيب.
متعجبا من موقف سالم وإقدامه على هذه الخطوة، وذات التساؤلات التي مرت على رؤوس الجميع، لماذا إيمان بالذات التي يتزوجها سالم، ألم يقابل من هي أجمل وأصح منها!
يبدو أنه يحبها.
نجحت أميرة في تشتيت أفكاره وانتباهه عن فوقية ومشكلته معها، اردفت
-يبدو أنه يحبها بالقدر الذي يجعله يضحي بكل شيء لأجلها ، لقد استاجر لها مكان، واشترى مكن للخياطة لأجلها ، إيمان تدرس في مدرسة الصم والبكم دراسة عملية لصناعة الملابس ولها طابع خاص بالتفصيل.
تبتسم وهي تكتب له ما حدث بروح فياضة حالمة
-لو تشاهد سعادته بموافقة أمينة ، ولو شاهدته وهو يتحدث بالإشارة التي تعلمها لأجلها ، لصدقت قولي سريعا.
-أمينة منحته فرصة عامين للزواج فإيمان لم تتم العشرون بعد، لقد ازرق وجهه وأخبرها أن يترك الأمر للوقت ولا تحدد.
شعرت بأنها كتبت كثيرا فسألته
-محمد!، ما زلت معي.
-أجل، معكِ، وأصدقكِ، إنها خبايا الحب وصنيعه.
وعند حديثه عن الحب دق قلبها، واتسعت ابتسامتها
-محمد..
وصمتت وابتسامتها تتسع بدلال تحجبه عنه
-كن بخير لأجلي.
كان فوق سريره، مسترخيا بحديثها، يرى قصة سالم وإيمان كالقصص الحالمة التي لا توافق الواقع لكنها تحدث.
يرخي جفنيه دون وداع، وقد هدأت أعصابه بحديثها.
-محمد..
-لقد طلق عبد الرحمن عاليا بعد شهور من زواجهم..ولا أعلم السبب.
اتسعت عينيه، وانتصبت أطرافه، عاليا الرشيد الآن حرة..قادرة على لف القيود حول رقبته، هاهي علاقته بأميرة مهددة بكشف أسراره، الركن الآمن لديه بات على شفا حفرة من النار..المشتعلة!
***

بطل الحكايةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن