الرسالة الخامسة/ الجزء 1,5

27 6 15
                                    

نظرت إليها في توجس و رهبة وهي ممسكة بيدي برفق مريب...


قلت:"معذرة؟!"

"لقد سمعتني جيدا عزيزتي!" اضافت بصوة ضاحك :"اعرف ان الأمر قد يبدو مخيفا للوهلة الأولى... اعني من كان يتوقع ان تتحولي من مُدرسة بدوام جزئي سخيف إلى سيدة فاحشة الثراء تحصل على كل ما تريد دون ان تهتز شعرة من رأسها..." افلتُ يدي بخوف، فاعتدلت في جلستها قائلة :"اسمعيني جيدا، ذلك الطفل "حسن" ليس طفلا عاديا ... حفيدي المسكين ذو حظ سيء جدا..."

لاحظت دمعة تتسلل من عينها اليمنى لكنها مسحتها بسرعة و اضافت:" كنا عائلة صغيرة جدا متكونة من فردين فقط ،انا و ابني "جهاد" إذ تخلى عنا والده -اي زوجي آن ذاك- وهاجر للمكسيك وقبل ان يفعل تأكد من التخلص من كل ما نملك حتى الأثاث و المنزل! كان زوجي كاذبا محترفا و مقامرا من الدرجة الألى. كان يخسر كل ما يجنيه من عمله في القمار و الرهانات..."

تغيرت نبرة صوتها للشدة ثم اردفت :"كان الأمر يثير جنوني ،أناني حقير! لم يكن يفكر في ابنه الرضيع المسكين آن ذاك ولا حتى للحظة واحدة و رغم اني تحدثت معه في الموضوع مرارا و تكرارا و اخبرته ان يعتدل كي نحسن من عيشتنا الرديئة إلا انه كان يأكل عقلي في كل مرة و يبدي أسفه الزائف و يجثو على ركبتيه قائلا انها آخر مرة و انه لن يعيدها و انا الغبية كنت اصدقه في كل مرة و يحنو عليه قلبي فأسامحه... إلى ان رجعت للمنزل في احد الأيام بعد زيارة خفيفة لأحد جاراتي لأجد ان المنزل ما عاد منزلنا..."

كنت استمع إليها في قلق و رهبة و الافكار في عقلي تنهمر دون توقف معلنين :"هذه نهايتنا!"

اكملت:" عندما هممت بالدخول للمنزل كان بداخله رجال بالفعل، ظننت انهم اصدقاء لزوجي لكني فوجئت بوجوه لم يسبق لي ان رأيتها و فوجئت اكثر عندما امرني احد الرجال مزمجرا بأن انقلع من البيت اذ لم يعد بيتنا بعد الآن..."

كانت تبدو على قسمات وجه السيدة خليط من غضب و الحزن لكني لن انكر اني لم اتعاطف معها ولو لثانية إذ كان تهديدها لي بالقتل لا يزال يرن في أذني.


اكملت:" اخبرني ان المنزل بكل ما فيه لم يعد يخصنا إذ خسره زوجي في احد رهاناته... ذلك اللعين! كم اكرهه !"

"جدتي...اريد قطعة الكعك التي وعدتني بها" قاطعنها "حسن" وهو واقف عند باب المعيشة. :"اووه لقد نسيت بالفعل! لكن الوقت قد تأخر بالفعل الآن ،اعدك بأن اعطيك قطعتين غدا" اجابته بحب كما لو انها لم تكن تتكلم عن اسوء ايام حياتها منذ قليل... هز "حسن" رأسه بالقبول ثم انصرف.


تغيرت ملامح وجهها للغضب مجددا ثم اكملت:" اخذت ابني الرضيع آن ذاك لمنزل اختي و حاولت مرارا و تكرارا ان اتصل على زوجي لكنه لم يكن يجيب. اتصلت بأحد زملائه في العمل لأسأله إن كان يملك فكرة عن مكان تواجده فاخبرني بأنه زوجي استقال بالفعل منذ شهر تقريبا و انه كان يتحدث عن الهجرة للمكسيك... هل تصدقين؟ ذلك الحقير قد جمع كل ما تبقى له من مال و هرب إلى المكسيك دون حتى ان يخبرني! ذلك النذل الجبان لم يتكبد حتى عناء الاتصال بي ليخبرني مباشرة."

زمت شفتيها في حنق وقالت:" شعرت بالعار اكثر من اي شيء، حتى اختي لم اعرف كيف اصارحها ان ذلك اللعين قد تخلى عنا...لطالما كانت اختي تكرهه و كانت رافضة تماما لزواجي به لكن... اظن ان تلك مشاكل عائلية لا علاقة لكِ بها"

ربتت بيدها على كتفي و اعطتني ابتسامة لم استطع تحليلها ثم اردفت:" بحثت عن عمل بأسرع وقت و بعد شهرين من العيش على عاتق اختي و زوجها استطعت ان استأجر شقة في حي فقير انا و ابني و رغم ان اختي قد توسلت لي كي امكث معها حتى يكبر "جهاد" قليلا لكني امرأة ذو كبرياء جامح فرفضت، يكفيني اني كنت اتركه عندها في وقت عملي... عشنا اياما صعبة جدا لكننا عشنا و لم ابخل بشيء كي يكبر "جهاد" دون اي نقص لكني فشلت..."

لاحظت الحزن يتسلل لقسمات وجهها مجددا وهي تقول:" عندما بلغ "جهاد" عامه السادس عشر كان يدرُس و يعمل بدوام جزي كي يساعد في اعباء الشقة، كان يخبرني دائما كم انه سيعوضني عن كل شيء و انه سينسيني كل الالم الذي مررنا به...وفجأة لاحظة ان "جهاد" بدأ يعطيني مالا اكثر بكثير من العادة ،كما اخبرني اننا سننتقل عن الشقة "الكئيبة" -كما كان يصفها- لمنزل في الحي الراقي! كنت مصدومة و بدأت اسأله عن مصدر المال إذ خفت و بشدة ان يكون قد انخرط في متاجرة المخدرات او الاعمال الغير قانونية لكنه طمأنني قائلا انه يستحيل ان ينخرط في تلك الأمور و وعدني بأنه سيخبرني عن مصدر المال فور انتقالنا للمنزل الجديد..."

تناولتْ كوب الماء الموضوع فوق المنضدة الصغيرة امامنا و تجرعت منه ثم اكملت:" فوجئت بحجم المنزل، كان كبيرا و أثاثه انيق و عصري. لم اكف عن القلق للحظة حول مصدر هذا المال و فور استقرارنا في المنزل اخبرني و يا ليته لم يخبرني عن مصدرها...لقد تعاقد مع شيطان..."

اتسعت عيناي في دهشة ممزوجة بالذعر وقلت :"م...ماذا!!"

ازاحت بناظريها عني كما لو انها تشعر بالخزي و اردفت:" جنون اليس كذلك؟ عندها عرفت كم اني امُ فاشلة...يبدو انه ضاق ذرعا بحالنا و اراد التخلص من الفقر في اقرب وقت... على حد قوله لقد عرفه احدهم على مشعوذ موثوق-يا للسخرية ! مشعوذ و موثوق!- وقد اطلعه على الطريقة كي يتعاقد بها مع احد الشياطين وان الامر لن يكلفه الكثير... فقط روحه..."

شعرت ببرودة تتسلل لأطرافي و جميع انحاء جسمي...اكملت:" ابني الساذج المسكين...لم يكن على دراية بهذا الامر او كان لا ادري حقا ،لا أزال عاجزة عن فهم ما حدث، كل ما اعرفه هو انه لم يذكر لي الثمن قط و اكتفى بإخباري انه قدم تضحيات معينة لا ترضه بشيء كي يتم هذه الصفقة...بعدها عشنا عيشة هانئة و هذا الامر كان يقلقني و بشدة لكن مع مرور الوقت تناسيت ذلك القلق و اخذت استمتع بهذه العيشة... تصدقين كم انا امٌ سيئة؟..."

سكتت لوهلة فقلت والرعشة في صوتي بارزة كشمس الصيف الحارق:" سيدة 'حورية' اتفهم صعوبة ما مررت به...لكني اعجز عن فهم صلة الامر بي!"

اكملت كما لو انها لم تسمعني :" مع الوقت نسيت الصفقة والغموض الذي يحيط بها. كبر "جهاد" و تزوج و انجب 'حسن' و يا لها من فرحة غمرتني حينها... انتقلنا لهاذا المنزل بحكم ان عائلتنا اصبحت اكبر و..."

زمت شفتيها في حسرة :"... في احد الايام ذهب "جهاد" و زوجته في زيارة لأختي و تركوا 'حسن' معي إذ كان محموما ذلك اليوم، وفي طريق عودتهم انحرفت سيارتهم عن الطريق و ارتطمت بأحد الشاحنات...لكنها لم تكن اي شاحنة...كانت شاحنة محملة بالبترول...كان احد ابشع الانفجارات التي حدث في مدينتنا و الغريب في الامر ان سائق الشاحنة لم يتضرر بشكل كبير بينما جثة ابني المسكين و زوجته كانت متفحمة تماما بالكاد حتى تم التعرف عليهم..."

سالت عبرات من عينيها و تذبذب صوتها :" ابني المسكين... حزنت حزنا شديدا عليه و على زوجته المسكينة كانت لاتزال شابة و يافعة... رجعت وحيدة مع حفيدي "حسن" و حاولت ان استجمع شتات نفسي من اجله.


وفي احد الليالي و بعد الحادثة بشهر تقريبا، كنت قد وضعت "حسن" في مهده و بقيت مستيقظة في غرفة المعيشة اتحسر على فقيدي...ثم فجأة شعرت بيد تربت على ظهري! التفت في جزع فإذا برجل طويل القامة و نحيل البنية، بوجه مشعرٍ للغاية لدرجة ان ملامحه لم تعد واضحة و قرون...قرون كبيرة معكوفة تخرج من رأسه!"


رسائل مهجورةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن