الفصل الثالث عشر : المادة الجد الأكبر

1 0 0
                                    

هو، كما كان يحب أن يدعوا نفسه، مجرد ضمير كان اسمه، لقد تربى في المكتبة بعد أن قُتل والده، فلم تجد الساحرة المدعوة فايث مكانًا تضع وليدها فيه غير ذلك، لقد كان الوحيد من سلالته الذي عاش برفقة والدته لسنتين كاملتين، لعل ذلك لأن والدته لم تخرج من المكتبة قط بعد أن ولدته، لكنه قرر أن يخدعها لتخرج في النهاية، وغبارها القذر لوث المحيط بعد أن دفعها إليه، لم يكن الابن يختلف عن والدته، لقد كبر قبل أوانه كما يقول ليفنو، كان يعرف من هو، وما هي المهمة التي أوكل نسله نفسه بها، وقد أداها على أكمل وجه، لقد غادر المكتبة مباشرة بعد أن أنهى حياة فايث، لقد أتقن التشكل بشكل مختلف الكائنات بشكل مبهر بالرغم من صغر سنه، لعل الخداع والتحايل كان أسلوب فايث التي لم تحب أن تلوث يديها إلا بالخطط القاتلة، لكن أسلوبه هو، كان القتل بأيدٍ عارية غالبًا، لم يكن يتوخى الحذر ويتكتم في أفعاله، لقد كان يفعل فعلته أمام الناس، في زمانه كان البيربور والغاريين والحور والرفقاء بين طبقات الماء، وفي الفضاء كان النجوم والجنيات والمونتر، لقد كان معروفًا في كل أنحاء العالم، لقد كان طاغية بالنسبة للكائنات الأخرى وقد رويت القصص المخيفة عنه وحكت القصص المرعبة للأطفال قبل النوم عن العفريت الأسود ذو العينين الخضراوتين، وأحيانًا الوحش ذو النيبان الطويلة ذا العينين الخضراوتين، أما في الفضاء فقد عُرف عند المونتر بالغول أخضر العينين، وتنوعت التسميات عند كل جنس وكل قبيلة، صحيح أنه لم يتهاون قط في مهمته، لكنه كان يسبب ضرر غير لازم أثناء عمله ويدب الرعب في قلوب من يراه دون ان يشرح أسبابه؛ بعد أن اصبح عمره ألفي سنة وزيادة، كان يتجول في الفضاء، حين وجد الحسناء، جنية ذات صفات المكروهين، شعرها أسود كالفضاء الفارغ وقد اعترته لآلئه التي تسبح في كل أرجائه فتجعله ممتلئّا بالحياة، لقد كانت بشرتها البيضاء كبياض شمس في أول أيام عمرها، وعيناها كحبتي اللوز ولونٍ أحمر يلمع في الظلام، كانت جناحاها التان تشبهان أجنحة الخفافيش قد كانت أطرافها مدببة تكاد تجرحك ان لمستها، لقد كانت حافية القدمين، وجلست على تلة في ذلك النيزك وهي ترى المحيط المتجسد في كرة عملاقة، كانت تضع فكها على يدها وتسند رأسها عليها، كانت ترتدي فستانًا أبيض لطيفًا وقصيرًا، لطالما كان الجنيات أبرع الكائنات في الخياطة، فرغم بساطة الفستان فقد بدت فيه كملاك بالرغم من الملامح التي اعترتها، لقد لفتت الحسناء انتباهه هو، اقترب منها وقد تهيئ بهيأة شعبها، ((أهلًا يا آنسة))، لم تلتفت وردت عليه
((الآنسة ليست أنا***** هذا قولهم وأقوال الشعب قاسية
   لعل العمر قد فنى***** لكن الأمر كان بيد الناس الحاقدة))
جلس بجوارها وقد كانت ملامحه كملامح المحبوبين من الجنيات، ((أرى انكِ مررتِ بفترة عصيبة إذًا)) أنهى كلماته ثم وجه رأسه إلى المحيط، حين التفتت اليه لاحظت ملامحه غير أنها لم تكتشف من هو، قالت له:
ـ((وهل جئت للمواساة أيها الغريبُ؟ أم أنك مثلهم تترك رأيك وتغيب؟
     لقد تعبت من أمثالكم، النفاقُ        والرأي المسيء لتعذيب الناس
   اني قد مر علي أربعة على هذا الحالُ،   والخامس سيحل بعد أيام))
لم يفهم المعنى قط، لكن لحن الكلمات أعجبه، ((آنستي، وافضل ان اناديك هكذا، لقد أعجبني شِعرك كثيرًا، فهل اسمع منك المزيد؟))
نظرت اليه بانزعاج وقالت ((يا لوقاحتك، تحب ان تسمعني اخبرك بحقيقتك القذرة أيها الغريب؟))، لم تكن قد انتبهت له بعد او علمت حقيقته، لقد ضنت ان الجني يسخر منها ومن شِعرها ولا يهتم بما تنعته به، رد عليها بأدب على نحو غريب ((المعذرة لم اقصد اثارة انزعاجك، لعلي لم أفهم شِعرك غير اني أحببت لحنه))، تنهدت ووقفت ((ما الذي ترغب به الآن؟ فقط دعني وشأني يا قليل الذوق)) لم تحبب الآنسة ما قاله فقد بدا كإهانة، وقفت وقد همت بالمغادرة لكنها حين التفتت اليه وجدت ملامحه قد تغيرت، غطت فمها بيديها وشهقت ((أوه، لا!))، لم يفهم ما كان يحدث، ((ماذا هنالك آنستي؟))، ردت عليه بعد ان اقتربت ((لقد تحولت للتو!))، لمست احدى جناحيه التين تحولتا للتو الى اللون الأسود ((هذا خطأي حتمًا، لا أريد ان اتسبب بذلك لك حتى ولو كنت وقحًا))، نظر الى جناحيه التين ظهرتا للتو، وقد انتبه الى القرنين اللذين ظهرا على رأسه توًا كذلك وقال ((لا تقلقي هذا ليس مهمًا)) قال كلماته بأسلوب ودود، ((انتظر سأحاول تغيير الأمر!)) قالت بقلق، أغمضت عينيها وبدأت تتمتم ((انه شخص لطيف، لقد أتى لمواساتي فقط، لعله أهان شعري لكن لعله لم يقصد، انه شخص طيب حتمًا!))، فتحت عينيها ووجدت الملامح الجيدة قد عادت مجددًا، ((آمم، شكرًا)) قال هو محاولا اظهار بعض الاهتمام بالرغم من أنه لم يكن يحتاج هذا الجميل، ((ما اسمك؟)) سألت الفتاة على نحو مفاجئ، ((ماذا؟)) سألها وكأنه لم يسمع السؤال، ((لقد قلت ما اسمك))
ـ((أوه، اسمي؟ اسمي هو، هو))
ـ((اسمك هو؟))
ـ((نعم))
ـ((كيف ذلك؟))
ـ((لم تمنحني امي اسمًا، فأصبح اسمي هو "هو"!))
ـ((بهذه البساطة؟))
ـ((نعم))
ـ((توقف عن السخرية!)) كانت الفتاة غاضبة نوعًا ما
ـ((انا لا أسخر!))
ـ((آه انت مزعج!))، عقدت الفتاة ذراعيها وضيقت عينيها وعقدت شفتيها موضحة انزعاجها، وفي لحظة انتبهت الى العينين، ((الجني أخضر العيون! انه أنت))، قالت الفتاة متفاجئة وقد تراجعت للخلف خطوة ووجهت سبابتها نحوه ((انه أنت أنا متأكدة! الجني الأكثر شرًا في العالم))، مع كلماتها تحول من ملامح المحبوبين المسالمة الى ملامح المكروهين المدببة والأنياب الطويلة، ((وماذا إذًا؟))، اقتربت الفتاة منه وقربت يديها نحو وجهه، ((ما الذي تحاولين فعله؟)) امسكت الفتاة بوجهه وأخذت تشده ((لا تبدوا بذلك الشر))، أمسك بيديها وابعدهما عن وجهه ((ما الذي تحاولين فعله؟ هل انتِ مجنونة؟))، تراجعت خطوتين وبدأت تفكر بصوت عالٍ ((انت بهذا الشر لكن امتلكت صفات المحبوبين، لا بد انك وجدت طريقة تغير بها ملامحك!))، اقتربت منه الآنسة وقالت ((أرجوك هلا تطلعني على سر ظهورك كالمحبوبين؟))، نظر الى الفتاة باستغراب وكذلك كان قد شعر بالإهانة، ((ولماذا سأطلعك عليه يا قليلة الاحترام؟))، فكرت الفتاة قليلًا وقالت ((سأمنحك اسمًا!))، رد عليها ببرود بعد ان ابعدها عنه ((لا أحتاجه!))
ـ((أنظر الى وجهك! أنت تتمنى ان يكون لك اسم!))
ـ((أنا لا أريد اسمًا))
ـ((أوه، والآن تبدو كطفل!))
ـ((ماذا؟ أنا لست طفلًا!))
ـ((إذًا لماذا تبدوا وكأنك كذلك!)) شعر هو بالإهانة كما لم يشعر بها من قبل، ((أنتِ أيتها الساذجة، بإمكاني انهاء حياتك الآن لذلك راجعي كلماتك قبل أن تتفوهي بها!))، قالت الفتاة بدون اهتمام ((نعم، نعم طبعًا، الآن لنجد لك اسمًا))، استشاط هو غضبًا قبل أن تسحبه الفتاة من ذراعه ((سنستمتع كثيرًا، لا تقلق!))، انهت الفتاة كلماتها بابتسامة صديقة، لم تنتظر الفتاة رده واستمرت بسحبه الى دخل احدى مسامات النيزك التي كثرت فيها الانفاق، ((لقد اقتربنا!)) قالت الفتاة، ((إلى أين تأخذينني؟)) قال قبل أني يرى تلك الحجر الكريم الضخم التذ كان يقبع في قلب النيزك ((تا دا! أليس جميلًا؟)) قالت الفتاة بحيوية، قفزت الفتاة الى الأسفل لتكون قرب الحجر الكريم، ((ما هذا؟)) سأل قبل أن يتبعها الى الأسفل، ((لست متأكدة، لكن لديه قدرة عجيبة!)) نظر الى الفتاة بريبة، كان المكان هادئًا جدًا وقد كانت مسامات النيزك الضيقة تسمح لبعض من ضوء القمر من العبور، ذلك الحجر الضخم كان بلونٍ ارجواني فاتح، اما النيزك من الداخل فقد كان رماديًا ليس كالخارج الذي كان بنيًا، ((ما الذي نفعله هنا؟))، ردت عليه الآنسة ((راقب فحسب!)) اقتربت الفتاة من الحجر الكريم ولمسته فبدأ يشع عند موضع يدها، ثم انتقل الاشعاع اليها، غير ان لونه قد اختلف فقد توهجت الفتاة بلون أصفر كلون اشعة الشمس، وقد ظهرت حولها هالة تجسد آنسة جميلة ذات خصلات شعر ذهبية كانت الآنسة التي تجسدها الهالة ترتدي فستانًا مشعًا طويلًا وكانت تطوف حول الفتاة حلقات من الضوء الأبيض، هو دهش مما رآه، وبعد لحظات من سحب يدها عن الحجر الضخم اختفت الهالة اللطيفة عنها، ((ما هذا؟))، كانت العينان هما آخر من تخلى عن ضوء تلك الهالة حين ردت عليه الفتاة ((انه حجر يخبرك عن نفسك، على ما اعتقد))، كانت الحيرة بادية على وجهه ((لم اكن اعلم انهم يصوغون احجارًا كريمة بهذا الحجم، لكن كيف وصل إلى هنا؟))، وضعت الفتاة كفيها على ذراعه وقالت ((حان دورك الآن!)) ثم دفعته نحو الحجر، حدق في الحجر لمدة ثم قال (( وما دخل هذا في الاسم؟))، ردت وفي كلامها نبرة انتصار ((قلت لك، انت تريد اسمًا!))
ـ((لا، ليس كذلك ... فقط أود معرفة العلاقة بين الاسم وهذا الحجر))
ـ((يجب أن يكون اسمك اسمًا يشبهك، وهذا الحجر سيسمح لنا بمعرفة من أنت!))
ـ((أنا اعرف من أنا!))
ـ((لكن أنا لا، وان لم اعرف فكيف سأختار لك اسمًا؟))
تنهد مستسلمًا وقدم يده من الحجر متوترًا، حين لمسها أخيرًا ظهرت الهالة الخضراء حوله، خضراء كعينيه وقد جسدت وردةً خضراء بالكامل، لم تكن الوردة تملك أشواكًا، لكنها كانت محمية من أي شيء بالرغم من ذلك، نظر الى نفسه بغرابة، ثم سحب يده فبدأت الهالة بالتلاشي، نظر الى كف يده لفترة ثم نظر الى الفتاة قبل أن يختفي الضوء الأخضر عن عينيه، قالت الفتاة ((كان هذا جميلًا! لقد كنت أتوقع تنينًا أسود ينفث النار، لكن هذا يفي بالغرض أيضًا))
ـ((لماذا توقعتِ ذلك؟)) كانت الأجنحة السوداء تعود الى اللون الأبيض، وملامحه المنفرة تعود الى ملامح محببة، قالت الفتاة ((الجميع يحكي قصص سيئة وأنك شرير قاتل وشيء من هذا القبيل، لكن يبدوا أنك طيب من الداخل)) نظر اليها بودية ثم قال ((في الواقع لدي عمل يجب علي انجازه، وغالبًا لا يهمني رأي الكائنات)) امسكت الفتاة ذقنها بسبابتها وابهامها للحظة لتفكر ثم قالت بحماسة ((وجدتها! اسمك سيكون ثريدال، انه اسم تلك الوردة الخضراء التي ظهرت خلفك كما أنها تعني ....))
ـ((تعني الأمل باللغة القديمة!)) أكمل الجملة التي كانت على وشك قولها، ابتسمت الفتاة ثم سألت ((إذًا ما رأيك .... ثريدال؟))
ـ((لم أكن أضن ذلك لكن، لقد اعجبني يا ...))
ـ((يمكنك مناداتي ميلارن!))
ـ((وئام، اسمٌ جميل ويشبهك تمامًا، اذًا ميلارن لقد قمتِ بعملك والآن علي أن احقق اتفاقنا، سأحضر لك ما تحتاجينه))
ـ((هذا يسعدني، لكن كيف ستعثر علي؟))
ـ((سنلتقي هنا في نفس الوقت، لا أعلم كم سأتأخر لكن كوني هنا كل يوم حتى نلتقي!))
ـ((سأفعل!))
غادر ثريدال المكان واتجه نحو كرة الماء ليجد الشيء الذي يحتاجه، لم تكن مهمته سهلة فقد كان الجميع يكرهه أو يخافه، وقد واجه تبعات ذلك فور أن وصل الى الجزيرة المطلوبة، لم يكن من الصعب ملاحظته، لا يوجد كائن يتميز بتلك الأعين الخضراء البراقة، كان الناس يهربون ويختبؤون في أي مكان يذهب اليه، كان يسمع الشتائم وبكاء الأطفال، لم يكن يهتم لهذا سابقًا لأن مهماته كانت تتجسد في دفع الجحر من آن لآخر، أو استرجاع افراد شعب الفايوار المخطوفين، وأحيانا اغتيال من يعرفون الكثير عن هذا الشعب، لم يكن مضطرًا للتعامل مع الكائنات أو كسب محبتهم، لكن هذه المرة مختلفة، هو حقًا لا يدري لما يفعل هذا على أية حال، لقد عاش خمسة آلاف سنة وزيادة بدون اسم فلما يجد نفسه مضطرًا لاعتبار هذا جميلًا؟
اليوم كانت مهمته العثور على صائغ احجار كريمة ليصنع له الشيء الأمثل، لكنه كلما توجه الى دكان وجده فارغًا او مغلقًا، مر اليوم بطوله حين شعر بالتعب وحينها نظر حوله وأخذ يصرخ ((أرجوكم، انا احتاج مساعدة، اود شراء شيء وسأدفع ثمنه حالّا، لدي ما يكفي أرجوكم!)) انه يعلم ان هناك من سمعه، لكنه أيضّا يعلم انه لن يكون هنالك من يجيبه، نزل ثريدال الى الأعماق، ففي ذلك الزمن، كانت أعماق الجزر ينشط استعمالها لعمال المناجم أو الغاريين الذين كانوا يزورونها من وقت لآخر للاستجمام، أما الأعلى فقد كان مسكنًا للغاريين والبيربوريين والمجنحين، كان يعام بأنه بحاجة الى صائغ والصواغ الحقيقيون يفضلون الحمم كثيرًا، لكن حدث الأمر ذاته، أينما اتجه وجد المكان خاليًا، بالرغم انه كان يسمع أصوات الضجيج قبل دخوله مباشرةً، استمر الوضع بضعة أيام، قبل أن يقرر ان يمسك بطفل صغير ويهدد سكان الجزيرة به، كان الطفل من البيربور وقد خرجت أمه من مخبأها متوسلة ((طفلي! أرجوك خذني بدلًا عنه، لا تؤذه أرجوك))، لم يكن مهتمًا بأمر على أية خال، رد عليها ((لا أريدك انت ولا طفلك!)) اقتربت السيدة منه وجلست على الأرض ((اطلب مني ما شئت فقط اترك طفلي))
ـ((عليكِ ان تخبري كل سكان البلدة أن من يهرب من أمامي سيعدم، أي محل فارغ أو مغلق اجده في طريقي سيهدم، لقد حاولت ان اكون لطيفًا لكن هذا لا ينفع معكم ايتها الكائنات البغيضة!))
ـ((كما تأمر، فقط اعد لي طفلي وسأذهب لإعلام الجميع!)) اقتربت الأم من طفلها وأمسكت يده قبل أن يسحبه ثريدال بعيدًا عنها ((لا، لن تسترجعي طفلك حتى أجد ما أمرت!))، خافت السيدة وعادت للتوسل ((أرجوك سأفعل ما تطلب فقط لا تؤذه!))، أظهر ثريدال ملامحه الباردة وقد تجسد على هيأة غاري ذو أنياب كأنياب الذئاب ((سأؤذيه ما لم تذهبي الآن))، تسللت قطرات دموع من عيني السيدة وزحفت على وجنتيها قبل أن تركض وتأخذ بالصراخ في الشوارع لإعلام الناس بما قاله ذو العينين الخضراوتين، كان الطفل يبكي وينازع ليتحرر من يد آسره، لكن ثريدال لم يتركه وبقي في مكانه جامدًا منتظرًا، بعد نصف ساعة عادت السيدة ((سيدي لقد فعلت ما طلبت ولم أنس كلمة واحدة، هل لي بطفلي رجاءً))، اعطى ثريدال ظهره للسيدة قبل أن يقول ((دعينا نأخذ جولة في المدينة أولًا))، كان الطفل ينادي امه بأن تحرره وهي كانت تخبره بأن يصبر لحظة، أخذ يتجول في الشوارع وهو يمسك بالفتى، لقد كان الناس يصطفون في أماكنهم برعب، حتى الأطفال منهم، في النهاية وصل الى المحل الذي يريد التعامل مع صاحبه، حينها فقط حرر الطفل وترك السيدة ترحل، ((أنت أيها الصائغ، أحتاج حجرًا كريمًا))، كان الغاري يرتجف وهو يقول ((نعم نعم، ستصوغ لك العاملة أحسن حجر تريده!))، استغرقت صياغة الحجر ثلاثة أيام وقد قالت العاملة أنه أول حجر تصوغه من نوعه، لم تفهم الغرض منه حتى، هذا الحجر كان له وجه مسطح كالمرآة تعكس ما تراه، ظهرها كحجر كريم عادي ذو لونٍ أخضر فاتح، اخذ ثريدال الحجر أخيرًا وعاد الى النيزك لكن المكان كان خاليًا، انتظر لبضعة دقائق حتى لاحظ نقشًا على الأرض مكتوبًا باللغة القديمة، "كرو ليان مو كريهال" أو ما يعني "قرية الجنيات ذات الأقراص" كان ذلك اسم قرية قريبة على ذلك النيزك، كان ثريدال واثقًا من أن ميلارن من نقشت ذلك على الأرض لأن اللغة القديمة فد انقرضت من هذا العالم ولا أحد يستعملها أو يفهمها، ذهب ثريدال وحين وصل للمدينة وجد الناس متجمهرين عند المشنقة، كان الحشد كبيرًا، وكلهم يصرخون ويشتمون فتاةً كانت مربوطة الى الجدار وبعض الرجال من الجنيات ذوو الملامح المحببة يجهزون المشنقة للإعدام، كانت الفتاة هي ميلارن، غير ان المحتشدين كانوا يلقبونها خوري، حين لاحظ ثريدال الفتاة طار بالأجنحة البيضاء نحوها، حين رآه أسياد الجنيات طلبوا منه التراجع: ((أيها العفيف، لا يمكنك الاقتراب من الشيطانة لذا عد الى الحشد))، لم يهتم بما قاله أسياد الجنيات فقد واصل التقدم، بعد لحظة فقط انتبهوا لحقيقته فتحولت ملامحه من البيضاء الى السوداء صرخ أحد الرجال ((الجني أخضر العيون!))، شهق المتفرجون وبدأوا يصرخون ويشتمون أو يهربون، تقدم ثريدال نحو ميلارن وفك قيودها، كانت الفتاة مصدومة اذ انها منذ لحظة فقط ظنت نهايتها حانت، قالت له ((لماذا تأخرت كثيرًا؟))، رد عليها ((لم اعلم ان هذا كان ليحدث والا لاستعجلت!)) اسفل المنصة كان أشداء القوم قد سَّلوا اسلحتهم للمحاربة، كان عددهم كبيرًا لذلك قرر ثريدال التراجع لحمايتها فهي على عكسه قد تفنى من ضربات الاسلحة، لم يكن التحليق خيارًا فالكل بإمكانه ذلك، لذلك تهيأ بهيئة خلد ضخم تشتعل النار على فروه، لا يملك قوائم خلفية بل ذيلا، لون فروه برتقالي وحين يشتعل يصبح أبيضًا أثناء تهيئه يتحول الى لون أبيض مضيء فلا يظهر منه شيء، حفر الخلد الضخم حفرة بسرعة فتبعته ميلارن بشكل لا إرادي، ضرب الخلد بذيله الحفرة خلفه فهدمت مانعًا الجنيات من تتبعه، استمر الخلد بالحفر وبدأ فروه يشتعل فأصبح النفق مضيئًا بدأت الفتاة تسير بتوتر، استشعر الخلد توترها فتوقف عن الحفر والتف اليها، تفاجأت الفتاة وتراجعت خطوتين وقالت بحذر ((ماذا؟ ما الأمر؟)) لم تتمكن ميلارن من النظر اليه مباشرةً فالتفتت نحو كتفها الأيمن، وأمسكت ذراعها بيدها، الخلد لا يمكنه التكلم، وان تحول ثريدال إلى هيئة الجني سيصبح النفق مظلمًا، خفض الخلد رأسه فانخفض لهب النار عنه وظهر فرو رأسه البرتقالي، اقتربت الفتاة من الخلد وقالت ((إذًا انت لست جنيًا بعد كل شيء))، اصدر الخلد صوتًا مسالمًا وجلس على الأرض، جلست ميلارن بجوار رأسه وأخذت تمسح عليه بيدها وقالت ((لقد ظننت أنك تخليت عني للحظة، مثلما فعل الجميع....)) ساد الصمت للحظات ثم قالت الفتاة ((اذا لا يوجد شيء يجعلك تظهر كالطيبين، لم يكن لديك شيء كهذا، لعل هذا هو سبب تأخرك لقد كنت تبحث عن شيء غير موجود)) اتسعت عينا الخلد الصغيرتين للحظة قبل ان يتمكن الجنيات من فتح مدخل النفق، التف الخلد بسرعة وبدأ يحفر، كان من الخطير أن يضرب بذيله النفق خوفا من أن يهدم تماما وتغرق ميلارن تحت الأنقاض لذا كان الحل الوحيد هو الحفر بسرعة، لن يستمر الخلد بالحفر كثيرًا ففي لحظة وجد نفسه والفتاة يسقطان بداخل كهف ضخم، في طرفة عين وجد الخلد رأسه قد نقلب من مواجهة الأرض إلى مواجهة السقف، كانت الفتاة سريعة بديهة فقد استعملت اجنحتها فورًا، غير ان ثريد لم ينقذ نفسه الى في اللحظة الأخيرة حين تحول الى كائن مجنح بنفسجي اللون ذو أربعة عيون وقرنين ضخمين، اجنحته كانت صغيرة ولا يمكنها حمله طويلًا لكنه نجى من السقطة، نزلت اليه ميلارن ((هل أنت بخير؟))، رد عليها بالإيجاب، وبعدها مباشرةً نزلت الجنيات المسلحة، صرخ ثريدال ((بسرعة!))، بدآ الركض على الأقدام، قال ثريدال ((لماذا ما زالوا يتبعوننا؟))، ردت عليه وهي تلهث ((انت الجني أخضر العيون وشكلي كالمكروهين منذ خمس سنوات))، كانت تشعر بالتعب من الركض لذلك استعملت اجنحتها لتطير بجواره وهما يلتفان حول الكهف بداخل انفاقه لتجنب الجنيات الذين يطاردونهما، قال لها ((ما الذي تقصدينه؟)) استفسرها عن سبب ملاحقتهم لها، ((كما تعرف حين تمر خمس سنوات وأنت على هذا الشكل المنبوذ يقومون بـ ...)) حركت ابهام من جانب عنقها الى الجانب الآخر، اقترب جني كثيرًا وتمكن من القيام بضربة سيف كادت تصيبها، قال ثريد ((كان هذا وشيكًا؛ لكن هذا ظالم كيف يقتلونك لأجل شيء لا دخل لك به؟))، لأن ضربة السيف كادت تصيب جناحها قررت المتابعة على أقدامها، قالت ((هم لا يؤمنون بذلك، بالنسبة لهم اذا تحولت الى الأجنحة السوداء فهذا يعني أنك شرير أو شيء كهذا))، تأخر رد ثريدال قليلا كونه كان يتنفس بقوة ((آخ، هذا سخف..... لماذا لا ينتهي هذا الكهف؟))، نظرت ميلارن حولها ثم قالت بحماسة ((أنا اعرف اين نحن! اتبعني لدي فكرة))، ما يميز هذا الكهف هو الحلقات المفرغة التي تزين كل الجدران ما يجعل الاختباء صعبًا لكن تلك المسامات تصنع صوتًا جميلًا حين يعبرها الهواء؛ الفضاء لا يحتوي على هواء عادتًا، لكن الفضاء بجوار الكرة المائية يحتوي على ذرات الأكسجين الثلاثي بشكل غزير، والشكر للجذب المغناطيسي حول الكوكب المائي الذي يسمح للهواء بالتحرك عبر حلقة النيازك مجيئة وذهابًا.
بعد الركض لمدة طلبت ميلارن من ثريدال التوقف للحظة ليتأكدوا من أن الجنيات تبعوهم، لقد كانوا يتبعونهم بالفعل وتأكدت ميلارن من ايصالهم الى الحجر الكريم العملاق، طارت ميلارن أعلاه ولمسته بقدميها الحافيتين، وعلى أنظار الجنيات ظهرت الآنسة المضيئة ذات خصلات الشعر الذهبية، والحلقات الطافية حولها واللآلئ التي لا تفارقها، ابتسامة ذلك الطيف كانت خلابة وآسرة، عند المونتر يوجد شخصية خيالية بصفات كهذه يسمونها كوكب الحياة، لكن هنا عند الجنيات لديهم أسطورة سيدة السلام، أو بمعنى آخر سيدة الوئام فهؤلاء لم يسمعوا بالحرب من قبل لكي يعرفوا السلام؛ لاحظت ميلارن دهشة الرجال الذين كانوا يلاحقونها، اقتربت نحوهم خطوة بخطوة وتقدمتها هالتها مسببة الرعب في قلوب الجنيات الذين يراقبونها، صرخ احدهم ((هذه خدعة من خوري، سيدة السلام لا تسكن أجسام المنبوذين!))، تشجع الجنود ورفعوا اسلحتهم تجاهها، التفتت نحو ثريدال وقالت ((الآن ماذا؟))، صرخ ثريدال ((تعالي الي))، ركضت ميلارن ناحيته وهالتها الخلابة تتبعها بأقدامها الرشيقة المضيئة، حين قفزت من على الحجر الضخم بدأت الفتاة المضيئة بالتلاشي، استعملت ميلارن اجنحتها لتخفيف حدة السقطة، ((الشيء الذي ذهبت لإحضاره في الأعلى حيث التقينا المرة السابقة)) قال ثريدال، عادا للركض للأعلى واحيانًا الطيران حتى وصلا للأعلى، سألت ميلارن ((أين هو؟))، طلب منها ان تتبعه لترى المرآة، حين رأت انعكاسها لم يكن كما المرايا العادية، لقد رأت نفسها تتزين بالملامح المحبوبة لأول مرة منذ خمس سنوات، لم تنتبه لنفسها حتى بدأت عيناه تدمع، ((هذا... هذا جميل!)) قالت ميلارن، لكن ذلك لم يكن الا الانعكاس فهي في الحقيقة لم تتغير، قال ثريد ((لم اكن اعلم انكِ كنتي تريدين ان تتحول ملامحك من اجل... ان تبقي حية، لو علمت ذلك لوجدت لك شيئًا يغير شكلك...))، مسحت ميلارن دموعها وقالت ((لدي فكرة))، تبعهم جنود سيد الجنيات بأسلحتهم الفضية، ووجدوا ميلارن مقابلةً المرآة، ركض أحد الجنود نحوها واحاط خصرها بذراعيه ورفعها ((امسكناك ايتها الشيطانة خوري))، لم يستغرق الأمر لحظة قبل أن يلاحظوا المرآة، بالرغم من أن اغلبهم ظهر على طبيعته، الا ان البعض ظهروا بشكل مختلف، ((ما هذا السحر؟)) قال احد الجنود، صرخ آخر ((انا لا أبدوا هكذا!))، بعد مدة قصيرة، ظهر كائن يطوف في الهواء كالأشباح، مضيئ ولديه أجنحة صغيرة؛ ما يميز الجنيات ان أرواحهم الدفينة تظهر جلية حين تغادر أجسادهم، بعضها يكون قبيحا، والبعض الآخر يكون خلابًا وذلك حسب روح الجني الدفينة، وعلى مر التاريخ، يتداول شعب الجنيات قصصًا عن أفضل الجنيات واشكال ارواحهم المغادرة، والكائن الذي ظهر توًا يشبه روح جني نبيل، كان يدعى هوار، لكنه روحه عرفت باسم القائد المغوار؛ تفاجئ الجنيات من رؤيته، قال الكائن ((ماذا تظنون انفسكم فاعلين؟))، قال اضخم الجنيات وقد بدا قائد المجموعة المسلحة، ((نحن ننفذ الطقوس سيدي))، رد الكائن ((هذه الطقوس ظالمة!))
ـ((آسفون سيدي، لكن ما الذي علينا فعله؟ هؤلاء الأفراد مؤذون))
ـ((هؤلاء الأفراد مظلومون)) قالها الكائن بصراخ
ـ((المعذرة سامحني)) سقط الجندي على الأرض فور سماعه صراخ الكائن
ـ((لكني لم اترككم للمجهول، لقد أحضرت لكم هذه المرآة التي تفرقون بها بين الجيد والسيء!)) اشار الكائن بيده نحو المرآة
ـ((نشكرك سيدي، لكن ماذا نفعل بالجني أخضر العيون؟))
ـ((دعوه وشأنه فهو لديه عمل لينفذه))
اعتذر الجنود من ميلارن وأخذو المرآة الى القرية ليخبروهم بما حدث، فور ان ابتعد الجنود اختفى الكائن وظهر بدلًا عنه ثريدال بهيئة الجنيات، ((اضن انني وفيت بوعدي لك... خوري)) قال لها ثريدال، ردت عليه ((آه اسفة، خوري هو الاسم الذي ينادونني به في القرية لكنه لا يعبر عني، ليس له معنى لذلك...)) لم تجد ميلارن كلمات لإكمال جملتها، قال ثريد ((اخترتِ اسمًا يشبهك، افهم ذلك))، ساد صمت محرج للحظات حتى تكلمت ميلارن أخيرًا ((إذًا هذا هو الوداع؟))
ـ((لم نلتقي الا مرتين، لا يجب ان يكون هذا مهمًا)) التف ثريدال نحو الشمس ليستعد للانطلاق اليها
ـ((لكن اريد ان نلتقي مجددًا!)).....

مملكة بيربور - أرض العجائب الطافيةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن