الرسالة الثالثة

34 3 2
                                    


كيف حالكَ يا بنيّ اليوم؟ أتمنى أن تكون بأفضل صحة، ها أنت ذا تنمو بداخلي ومن قبل أن أراك رحت تؤثر على حياتي بشكل لا يصدق، لقد صرت مهووسة بالأكل، وتحديدا الأكل الصحي، بجميع أنواع الفواكه والخضراوات التي لم أحبّها قبلا، أتخيل جميع أنواع الفيتامينات والمواد الغذائية تتسرب إليك وتسعدك وتحافظ على صحتك، فأشتهي أن آكلها، وهو أمر لم يحصل سابقًا، حتى والدك متعجّب من أمري ومن هوسي الشديد بك، ويضحك عليّ دومًا عندما أخبره أنّي أتحدّث إليك، ولكنك تسمعني ألست كذلك؟ بالطبع، أنّى لوالدك أن يدرك ذلك وهو لن يصبح أمًّا!

ولكنّه يحبّك كثيرا، بل إني أظنه صار مهووسا بك هو الآخر، لكن بطريقة مختلفة، وخفيّة أيضا، فقد لاحظته أكثر من مرّة يرصد محلّات الألعاب والثياب ويقرر أنه سوف يشتري منها هذا النوع من اللعب أو ذاك الصنف من الثياب، وأراه يحدّثني عن هذه الشؤون وهو يتخيّلك يا بنيّ، أدرك ذلك من ملامحه الشاردة وعينيه الحالمتين والمفعمتين بالأمل حينما ينظر إلى هذه المحلّات، بل إنّي قد سمعته ذات يوم يتحدّث إلى إسكافيّ عن بناء سرير بتصميم خاصّ من أجلك، وأظنه ينوي تجهيز غرفة لطيفة لنستقبلك فيها، أليس ذلك رائعا؟

لم أحلم في حياتي يا بنيّ بأكثر من ذلك، بيت دافئ نملأه بكل ما نحبّ، وعائلة يحتضن كل فرد فيها الآخر، فقط لا غير، ولا زلت أذكر إلى يومنا هذا ساعة تحدّثت إلى والدك في لقائنا الأول وأخبرته بأنني سأؤثث بيتي مستقبلا كما أحب، وليس كما يحبّ الناس، وأنني لن أريه لأحد، فضحك كثيرا من النبرة المستاءة التي حدّثته بها، وعلمتُ عندئذ أنه كان يفهم قصدي، وأنني سوف أتزوجه. كثيرا ما حدّثتُهُ عن أحلام طفولتي وما حفلت به من أحداث دراميّة، فينصت إلى بعض منها باهتمام، ويأبى تصديق البعض الآخر، وعلى الرّغم من أن ذلك يبدو مزعجًا إلى حدٍ ما، إلّا أنني لا ألومه، فحتى أنا أجدُ صعوبة في تصديق بعضٍ من هذه الأحداث، لما تجسدهُ من خيالٍ بعيد. ولكنك ستصدقني، أليس كذلك؟

أخبرتك سابقا أني بدأت أرسمُ منذ سنّ مبكرة، وأني فعلت ذلك تعبيرًا عن ذاتي عندما عجزت عن عقد تواصلٍ صحيّ مع والدتي وغيرها من النّاس، بيد أن رسوماتي ظلّت سطحية للغاية، حتى جدّ ذلك الموقف الذي تركتني فيه والدتي ستّة أشهر، إذ أن ما عايشتهُ في تلك الأيام من شعور صعب، كثّف المعنى الضبابيّ في رسوماتي، وأضفى عليها طابعًا غريبًا.

عندما عدتُ إلى البيت مع والدتي في ذلك المساء، التزمتُ بالصمت، ولم أتحدّث إليها أبدًا، شعرت فجأة بأني لا أقوى على ذلك، وأنني ينبغي عليّ ألا أنطق ببنت شفة، وقد عمدت والدتي إلى الصمت هي الأخرى، وكان صمتها هذا مؤلمًا للغاية. مرّت الأيام، وظللتُ أراقبها وفي داخلي شعورٌ ثقيل بأنّها امرأة غريبة عني، إذ بدت مختلفة تمامًا، أكثر عصبيةً، بملامح ملأى بالتعب، ضائعة كأنها لا تراني أبدا، عندئذٍ عدتُ للرسمِ، ولكنني رسمتُ هذه المرة بطريقة مختلفة، ورأيتُ من خلالي رسوماتي عالمًا مختلفًا.

وهنًا على وهنٍحيث تعيش القصص. اكتشف الآن