الرسالة الخامسة عشر

14 3 11
                                    


التزمتُ صمتًا مأتميًا طوال فترة الجنازة، يشبه ذلك الصمت الذي تمسّكت به في يوم ميلادي السابع عشر، عندما ضربتني والدتي، فقررتُ، على إثر ذلك الرّحيل. قررتُ في ذلك اليوم أيضًا، أنها أمّ غير صالحة، وحوّلتها إلى امرأة شريرة، ليس فقط بسبب غضبي منها، بل لأبرر لنفسي هذا الغضب الذي ما كنتُ سأسامح نفسي عليه، لولا ذلك، فمن أنا إذن، لأغضب من أمّي؟ وفي غمرة ذلك يا بنيّ، نسيتُ، انشغالًا بنفسي، وانغماسًا في حياة أوسع من إدراكي، أنّها أمّي. لم أتذكّر، إلا في جنازتها، أنها مجرّد إنسانة، امرأة جرحها الزمن، ولم تُشف.

لست أدري، عمّا مرت به من مصاعب أدّت إلى جعلها على ما هي عليه، من نرجسية مُفرطة، ومشاعر عليلة متقلّبة، ولكنني على الأقل، صرتُ قادرة على التعاطف معها، ومسامحتها، وكم كنتُ ممتنّة، أن شاء القدر رجوعي إليها، كي يتسنّى لي رؤية جزء من ذاتها، ذلك الجزء الجميل المليء بالمشاعر والحبّ، والذي لعلّه كان ليصبح سِمَة حياتها، لولا أن حالت الظروف دون ذلك. تساءلتُ في يوم المأتم بألم شديد، ما الذي كان سيحدُث، لو لم آتِ؟ من سيعوضني، عما حصلتُ عليه، في هذه الأشهر القليلة؟ ولم أدر يا بنيّ، وأنا أرتجف خوفًا وتأثُّرًا من مجرّد تخيّل هذه الفكرة، أن والدتي ما كانت لترحَل، دون أن تراني. لقد رحلت بعد أن أصلحت ما أفسدته الأيام فيما بيننا. غادرت مطمئنة البال، مرتاحة الضمير، أو على الأقل، هذا ما رأيتهُ في ملامحها المتبسّمة صبيحة ذلك اليوم.

أُقيمت لأمّي جنازة في بيتنا، حيث عُنيت جاراتنا بتنظيم الأمور، مع بعض من الأقارب الذين لا أتذكّر منهم أحدًا، وصديقات لا أعرفهن، وقررت أني لن أشترك في هذه الجنازة، إذ شعرت بأنها ستكون مهمّة ثقيلة للغاية، ولا فائدة ترجى منها حقًّا. ماذا سأفعل بتلقّي تعازي من لم يزر والدتي يوما؟ ناهيك عن الذين سيحدجونني بنظرة مشكّكة، خبيثة، تحمل تساؤلات عن الابنة الهاربة. تخيُّل الأمر لوحده مرعب يا بنيّ، ناهيك عن عيشه واقعًا. أعلنتُ أنّي لن أكون حاضرة، لكنني كلّفت نفسي بمهمّة أخرى، سأحكي لك عن تفاصيلها حالا.

كنت قد تقصّيتُ عن طريق بعض الأشخاص عن والدي، حتى استطعت معرفة مكان منزله ورقم هاتفه. حاولتُ أن أتصل به بداية، لكنّه لم يرد، عندئذ طلبت سيارة أجرة، وذهبت إليه. حدث ذلك في ثالث يوم من الجنازة.

طرقت باب بيته، ففتح لي فتى يبدو من مظهره أنّه في السادسة عشر من عمره أو نحوها، وأول ما طرأ على بالي في تلك اللحظة، أن هذا الفتى الذي يقف أمامي، هو شقيقي محمّد. عنّ ببالي، في جزء من الثانية، أن أسأله، إن كان يتذكر الأيام التي قضيناها نلعب سويّة لا يفرّق بيننا شيء، ولكنّ أحجمتُ، وكبحت مشاعري الطفوليّة تلك، مُستبدلة إياها، بملامح جادّة وسؤال ألقيتهُ بنبرة متحفّظة لأستفسر عن والدي. ألقى الفتى علي بملامح حيرى، ثم انصرف ليُعلم من في الدّاخل بقدومي.

وهنًا على وهنٍحيث تعيش القصص. اكتشف الآن