الرسالة الثامنة

12 2 12
                                    


حتى يومِ ميلادي السّابع عشر، ظلّت معالم الحبّ مجهولة بالنسبة لي. أهو شهوة أم لذّة معنوية أم مصلحة أم شعورًا أفلاطونيًا أم غير ذلك، لم أدر. لكنني قررتُ أنّي أحببتُ آسر، وأني رغم خوفي الشديد، سأحبّه وأمضي في رحلتي هذه. ولكنّ الغريب في الأمر يا بنيّ، أنّي لم يوتّرني حبّي له، بقدر ما وتّرني حبّه لي، والذي اعترف لي به في تلك الليلة تحت أضواء الشفق القطبي. جافاني النوم ذلك المساء وأنا أسترجع تفاصيل ما حدث. تعرّقتُ بشدة، وشعرتُ بقدمي تؤلمانني طوال الوقت.

كنت غير قادرة على التّحكم في انفعالاتي، فقد كنتُ في المنزل. ذلك المكان الذي لم أمتلك فيه حريّة التعبير عنّي يومًا. مكان أحجبُ فيه ذاتي ومشاعري ورغباتي كلّما حللتُ فيه، وكلّما كنتُ هناك، كلّما عانيتُ أكثر من التعرّض لضغطٍ شديد ينوء بثقلهِ عليّ.

بدت لي الأشياء غريبة تحت وطء هذا النوع من التعذيب النفسي، إذ كنت أشرد في قطع الأثاث المحيطة بي، دون أن أراها، وأحيانا أمر بها وأتعثّر، وعندئذ فقط ألاحظ وجودها. وكان أكثر ما يخيفني هو والدتي. تتبدّى لي أحيانا في هيئة شبحٍ أشعر بأنه سيخترق داخلي وينتزعُ منّي عالم أسراري كلّه، ثمّ يقتلني بعد ذلك دون رحمة. داهمتني الكوابيس، وكثيرا ما تمنّيت، في بعض لحظات الجنون، أن أذهب إلى حجرة والدتي وأعترف لها بكل شيء، بصراخ هستيريّ، حتى أتنصّل من ثقل هذا الخوف، وأتحرّر.

وبالرغم من أنّ هذه الفكرة بدت لي رائعة في كثير من الأوقات، إلا أنني كنتُ أجبن من تنفيذها، وليس ذلك إلا رحمةً وشفقةً بأمّي، وهو أمر عجيبٌ يا بنيّ. كيف لي أن أكره أمّي وأحمل في قلبي شفقة نحوها؟ أتراها تلك العادة التي تربّيت عليها، من رغبتي الدائمة في إرضاء الناس وتجنّب إزعاجهم، ولو على حساب نفسي؟

قررت أن أترك فراشي بعد أن سيطرت عليّ الأفكار وجعلتني أصاب بما يشبه نوبة هلع مفاجئة. شربتُ كوب ماء ثمّ غنّيتُ قليلا، حتى ينساب ما في داخلي تدريجيا. أخرجت لوحاتي ونظرتُ إليها واحدةً تلوَ الأخرى، حتى توقّفت عند الأخيرة، فأمسكتُها وابتسمت. كانت لوحة الشفق القطبي، والتي تحمل صورتي وآسر مساءً، بقلبين متوهّجين كأنّ شلالًا من الحبّ أضحى يفيض منهما.

تحسستُ تعرجات الألوان بين يديّ، كأني أتحسس دقّات قلبي المرتجفة. مضحكٌ يا بنيّ كيف أن حدثًا سخيفًا واحدًا قادرٌ على أن يمتهن كيانك إلى هذا الحدّ، فعلى الرغم من كلّ ما اكتسبتهُ من ثباتٍ وثقة في خلال آخر سنتين من عمري؛ ها أنا الآن أرتجف مثل هرّة بللتها أمطار ديسمبر. قاطع تأملي وابتساماتي البلهاء صوتٌ نَفذَ من الخارج فارتعدتُ وشرعت في تغطية كلّ لوحاتي وإخفائها تحت خزانتي. حرصتُ دومًا ألا ترى أمّي هذه اللوحات أبدا، فهي لن تفهمها ولم أشأ خوض جدالٍ حيال ذلك البتة. كانت والدتي بسبب تيقظها وعدائها الشديد ناحيتي سريعةً في اقتحام حجرتي، ولذا استطاعت رؤيتي أحزم لوحاتي قبل أن أتمكّن من إخفائها. انتفضتُ.

وهنًا على وهنٍحيث تعيش القصص. اكتشف الآن