الرسالة الخامسة

23 4 3
                                    


عدت إلى البيت في ذلك المساء منتشيةً فرحًا، حتّى إنني لشدّة فرحي ارتبكتُ قليلا. كان أول ما فعلت هو أنّي نظرتُ إلى نفسي المرآة. عاينتُ ملامحي التي بدت ذابلة قليلا، بشعري المنكوش وثيابي غير المهندمة، وضحكتُ على نفسي مما بدوتُ عليه، مُتذكّرة ثياب آسر المرتبة التي ارتداها. جلستُ على كرسيّ أمام المرآة ورحتُ أسرّح شعري. غنيتُ. بدلت ثيابي بأخرى أكثر ترتيبا، ثمّ لبست بعض الإكسسوارات ورششتُ عطرا. غدوتُ أراقب نفسي جيدا أمام المرآة، أستكشف أنوثتي وأتساءل عن السبب الذي جعلني أنسى كيفية الاعتناء بنفسي كفتاة؟ واكتشفتُ في ذلك اليوم فقط، أنّي لم يسبق لي من قبلُ الاكتراث بمظهري.

في اليوم التالي أقلّتني والدتي إلى المدرسة، وفي أثناء ذلك ظلت تحدّثني عن لقائها المرتقب مع صديقاتها بمناسبة إنجاب إحداهن ولدا.

امتلكت والدتي شبكةً واسعة من العلاقات الاجتماعية، وكانت محبوبة من قِبل الجميع يا بنيّ، الجيران والأقارب وأقرباء الأقارب، وحتى زبائنها في الكوافير الذي تعمل به أمسوا صديقاتها، ولذا فإنها تضيّع وقتها كثيرًا وسط هذه العلاقات، فتزور هذه وتبيت عند تلك، حتى إنّني لم أكن ألتقي بها طوال النّهار لتلهيها، سوى عدّة دقائق صباحًا، وأخرى قبل النوم. لطالما لاحظتُ أن والدتي تتبنى أسلوبًا منافقًا في علاقاتها، فكانت دومًا ما تحدّثني عن الجميع بسّوء، ولا تنفكّ عن اتّهامهم بالكثير مما هو قبيح وسيء، وتنتقدهم على كلّ شيء، فجعلني ذلك أتعجّب من أسلوبها اللطيف جدًا معهم. إن كانوا بمثل هذا السوء، فما عساه يدفعها لمعاملتهم بالحسنى؟

وعلى أي حال، لم تكن والدتي وحدها التي تنتهج مثل هذا التصرّف السمج، إذ اتّضح أن كلّ نساء المجتمع يتصرّفن بمثل هذا الأسلوب، لكأنه ناموس ينتهجنهُ جميعهن بولاء مستميت حتى الموت. وما أحزنني يا بني، بعيدا عن كلّ هذا، أن علاقات والدتي هذه كلّها لم تُفدني في شيء لاحقًا، بل إنّها ساهمت في إلحاق ضرر جسيم بحياتي، فبعد أن تبدّل الحال بمرور السنوات وتدهور وضع والدتي، لم تكلّف واحدة من هذه النساء نفسها عناء تقديم المساعدة، أو القيام بواجب الصداقة التي حسبتُ، لجهلي، أنها كانت قائمة. بل إنهنّ كنّ أول النّاس في نشر إشاعات عن جنون والدتي، وإظهار شماتة مغلّفة بالحقد والغيض، كما سيتبين لك لاحقًا.

والحاصل أن ما سترتديه والدتي في تلك المناسبة وغيرها، لم يكن مهمًّا يومًا، وبالنسبة لي، فإنه لم يعن لها شيئا عدا كونه وسيلة لتضييع الوقت، والبحث عن مواضيع تافهة للنميمة، ومحاولة التنافس في إظهار جمال المظهر، ولفت الانتباه، والحصول على مجاملات. هذا ما كنت أفكر فيه عندما سألتني عمّا ينبغي عليها أن ترتديه في هذه المناسبة، فأجبتها مهمهمةً دون تركيز. عندئذ انتبهتْ إلى أنّي كنت شاردة الذهن فسألتني عمّا يشغلني. أعلم يا بنيّ أن هذا السؤال يبدو لطيفا، لكنّ نبرة والدتي في حين سؤالها إياي دوما ما تبدو مبطّنة بالتهديد، تُشعرني بأنّي في مكتب تحقيقات، وأنّي سأعاقب فقط على ما يدور في ذهني. كنت أحتاط منها بحذر خشية على نفسي، لأني سلكتُ لنفسي طريقًا يختلف تماما عمّا ودّته لي، الأمر الذي إن علمتْ به فإنه سيوقعني في مشاكل لا قبل بحصرها. عندئذ تذكّرتُ آسر، وخُيّل إليّ كما لو أنها تسألني عنه. فارتعبتُ، ووسوس لي شيء ما، أن هنالك احتمالية بأن والدتي ستكتشف ما أخبئه عنها. أتراه ذلك معقول؟ ازدردتُ ريقي وقلت:

وهنًا على وهنٍحيث تعيش القصص. اكتشف الآن