الرّسالة الثامنة عشر والأخيرة

55 4 0
                                    


استيقظتُ صباح اليوم يا بنيّ، على الساعة التاسعة تماما. تكوّرت على الفراش بحذر كي أدفع بنفسي للجلوس، دون أن أختنق، وذلك لأنّك صرت ثقيلًا إلى حد ما، وبات وجودك محسوسًا، وقريبًا أيضًا. حدّثتك، بلكنة طفوليّة تشبهك، عمّا أعددتهُ من فطور، وقد شعرت بك تركل بداخلي، لكأنك كنت تستمع إليّ، وتجيبني. تناولت بيض، وجبن، وزيت زيتون، وزعتر، وشاي، وأنا أستمع إلى زقزقة العصافير تغرّد خارجًا، يتداخل صوت تغاريدها مع صوت جارتنا التي كانت تفرد الغسيل، مُتحدّثة إلى زوجها على الهاتف، تطلب منه أن يجلب بعض نواقص المطبخ. وفي خضمّ هذا الملل المشبّع بصوت الحياة الرتيبة، تذكّرت والدتي، وظهرت أمام عينيّ صورة من الماضي، لكأنها حقيقة، حتّى إنني استطعت أن أرى كلّ تفاصيلها.

كانت الرؤية تظهر لي من مستوى منخفض، إذ أني كنت طفلة قصيرة القامة وقتذاك، وكانت والدتي تجلس مثل جلستي هذه، تتناول فطورا كفطوري هذا، مستغرقة في ذاتها، وخُيّل إليّ يا بنيّ، أنّي رأيت صوت جارتي هذه، وصوت العصافير، وصوت الحياة الذي حدّثتك عنه؛ إن كان للأصوات أن تُرى في مخيّلتنا. وعنّ ببالي، أنّي أشبه والدتي كثيرًا، بالرّغم من اختلافي الشديد عنها أيضا، فأنا أتحدّث بمثل صوتها، وأستخدم كلماتها، أرتّب البيت بمثل طريقتها، وأطبخ تمامًا كما تعلّمتُ منها، بل إني أنظر إلى نفسي في المرآة أحيانًا، فأراها في ملامحي، في عينيّ وشفتيّ. لقد صرت أتحول إليها، ولست أدري ما الذي يعنيه لي ذلك حقًا، أن أشبه والدتي بعد أن رفضتها وعاندتها، معتقدة لسنوات طويلة أنّي لا أنتمي إليها أبدًا، وليس ذلك إلا أمر أردت أن أحكيه لك، في رسالتي الأخيرة هذه، لأني أعتقد، بشكل ما، أنه يمثل مرحلةً ما من مراحل تطوّر علاقتي بأمّي، حتّى في غيابها.

أوه، ولكن كم هي صعبة الخاتمة يا بنيّ؟ لستُ أدري ما أقول، أو لعلي فقط لستُ أريد أن أقول شيئا، أن أتظاهر بأن ليس هنالك نهاية، أو وداع، لا أريد أن تنتهي محادثاتنا هذه، ولكنّه أمر لا مفرّ منه، لأنك ستأتي قريبا. لقد ساعدتني هذه الرسائل يا بنيّ، وجعلتني أتوصّل إلى فهمٍ عميق لعدّة أمور لم أكن أتوقع أنّي سأفهمها. كتبتُ لك يا بنيّ، كي أتعرف عليك، وأكسر حاجز الجليد ذاك، من قبل حتى أن أراك، وأظن اليوم أن ذلك عكس شيئا بيّتُه في نفسي، متعلّق بطبيعة علاقة والدتي بي، وتحديدا عن كونها بنت حاجزا جليديا فيما بيننا، لكأني خشيت أن يتكرر الأمر بيننا، كنت مرتعبة يا بنيّ، لأني لم أدرك يومًا، كيف تكون العلاقة بين الأم وابنها، فلم أجرّب ذلك قطّ بشكل سليم، ولم أعلم كيف يمكنني تولّي أمر علاقتي وإياك. أردت فقط أن تسير الأمور فيما بيننا، بطريقة صحيحة، مدفوعة بتجربتي التي لم تمرّ بطريقة صحيحة يا بنيّ.

وعلى الرغم من كلّ تكهناتي وأحكامي حيال طريقة والدتي، ومحاولاتي لتصحيح أفعالها، وتثبيت أخطائها، وادّعاء معرفتي الصواب؛ إلا أنني أدرك الآن، أني لم أفعل شيئا سوى أنّي أبصرتُ العيبَ، وحدست الخطأ، وفيما عدا ذلك، فإن الصورة الوحيدة التي أمتلكها عن الأمومة، هي في حقيقتها صورة معطوبة، مشوّهة، وليس في خيالي صورة عداها.

وهنًا على وهنٍحيث تعيش القصص. اكتشف الآن