ها هو نهارٌ آخر يا بنيّ يطلعُ فينبئني بقرب مجيئك، وهو أمر يغمرني بالسّعادة، إنما يجعلني أرغب في إنهاء هذه المذكّرات في أقرب وقتٍ ممكن. انتهيتُ عند آخر مرّة إلى حديثي عن لقائي الأخير بآسر، ومحادثة الصُّلح التي خضناها، ولكنّني فيما يبدو غفلتُ عن شرح مكنون هذه الحادثة، وما استخلصتهُ منها، فبدت محيّرة وسطحية على نحوٍ لم يرُق لي كثيرا. ولذا دعني يا بنيّ، أوضّح لك مزيدًا، وأشرح لك ما وقع بين الأسطر، فمنذ تلك المحادثة القصيرة استطعت أن أفهم بشكل تدريجيّ، مدى تجذُّر علاقتي بآسر، وحقيقتها بعيدًا عن ألوان الحبّ وتعويذات الهُيام. إذ اتّضح لي، برؤية نقيّة لا يشوبها الشكّ، أنّ حبّي لهذا الرّجل لم يكن طبيعيًا، بل كان، مثلما وصفهُ هو، تعلُّقًا مرضيًّا.ولكن ما هو التعلّق المرضيّ يا بنيّ؟ إنه نوع من الانجذاب المتشبّث الذي يجعلك غير قادرٍ على التنصّل من محبوبك دون معاناة حقيقيّة. يشبه الأمر أن تغيب إحدى ضرورات الحياة عنك، فتبدأ تدريجيا بالاختناق، ثمّ يصبح كلّ شيء باهتًا قبالتك، غير قادر على رؤيته وعيشهِ. إنه أشبه بإدمان مخدّر لا تغدو قادرًا على التركيز والانتباه والتفكير، إلا بوجوده. وهذا التعلّق يا بنيّ خطير، إنه ثقيل، يكبّلك فلا تستطيع أن تستطعم لذّة العيش الحقيقية في وجوده، إذ يظلّ فكرك وقلبك معلّقان بشخص، محصوران فيه، متشّبهان به، متقلّدان صفاته، وإن رحل، فإن علائم الانهيار، النفسيّ والجسديّ، ستبدأ في التبدّي بسرعة، وهو أمر لابد أنك لاحظته من خلال تصرفاتي السّابقة التي سردتها على مسامعك. وكنتيجة لهذا التحليل البسيط، أدرك آسر أن وجودي وإياه في علاقة جادّة سيحوّلها إلى شيء سامّ سيقطع أواصر المحبّة فيما بيننا إلى الأبد، ولذا فإنه لم يجد بدًّا من تركي أمضي بعضا من الوقت وحيدة، أملًا في أن يتلاشى هذا التعلّق، وأتعافى منه، وإن بشكل تدريجي، وعلى الرّغم من أنّي لم أسامحه بدايةً، على الجُرح الغائر الذي سبّبه لي، إلا أنني لم أستطع إلا أن تعاطف معه، وأتفهّمه، وإن بشكل متحفّظ للغاية.
من عساه يا ترى، يقبل بوجود شخص مهووس في حياته، يحاول أن يمتّص كلّ متعته فيها، ويبقي على علاقته معه متوتّرة بشكل دائم؟ إن ذلك لا يصحّ يا بنيّ، وهو أمر يمرّ به كثير من الناس، دون أن يدركوا حقيقته، أو يحاولوا تفسيره وعلاجه. يعتقدون أن هوسهم حبّ، وتدقيقهم ذكاءً، وأفكارهم الداخليّة السّامة؛ حقائق ودوافع مُبرّرة تجعلهم يتصرّفون على نحو ضارّ، يؤذون به أنفسهم ومن حولهم، ثم يلومون الغير على ما أصابهم، ويعتقدون أن حبّهم المشوّه صكًّا لبراءتهم، فينتظرون شفقة الناس واهتمامهم.
إن الحبّ المتّزن يا بنيّ، لا يتصرف وفق هذه المشاعر المضطربة، والأفكار الملتبسة، والرؤية المبهمة، بل إنه ينبع من قرار عقلاني يُتّخذ من شخص مستقلّ نفسيًّا قادر على الاختيار، وليس مجبرًا عليه ومدفوعًا بعاطفة لا يمكن ردُّها، ناهيك عن أن وجود الحبيب في أصله ليس ليكون غرضًا نستخدمه، لنطبطب به على قلوبنا المنهكة، ونعالج مشاعرنا المبعثرة، ونريح أجسادنا المرهقة، فتلك أمور ندين بها لأنفسنا، وما وجود الحبيب، إلا ليؤنسنا في رحلتنا للبحث عن هذه الأشياء، ولكنّه ليس مسؤولا عنها، أو مكلّف بها.
أنت تقرأ
وهنًا على وهنٍ
Romantizmمذكّرات منسيّة من أمّ حبلى. الرواية مكتملة. الغلاف من تصميم الصديقة: @dojaAlgatos