الرّسالة الثالثة عشر

18 2 1
                                    


لعلّ هذا الجزء، هو أصعب جزء من الحكاية وأكثرها ألمًا يا بنيّ، حتى إنّني قد تركت كتابة مذكراتي هذه لأيام، إذ شعرتُ بغصّة تعتصرني، وتمنعني عن الاسترسال. لكنّني أودّ أيضا، أن أكون شجاعة بما فيه الكفاية فأُنهي هذه القصّة، وأتغلّب عليها. لا يمكنني استقبال ولادتك يا بنيّ، وهذه المذكرات عالقة في المنتصف، أليس كذلك؟

انتهيتُ في حديثي المرّة السابقة إلى اطلاعك على أني قررتُ إنهاء علاقتي وآسر، بكلّ هدوءٍ وتصالح مع النّفس. لكأنّ تلك الفتاة المجنونة، والمتيّمة عشقًا، لم تكن. لكنّي لم أفصح عن قراري هذا أبدا، واحتفظتُ به، كحمل ثقيل جرجته معي لأسابيع، منتظرة اللحظة المناسبة.

في الأثناء، لم تزل علاقتي به على ذات عهدها، مشحونة بالكثير من الودّ والحبّ، لكنّ شيئا من الشغف أضحى يتبخّر بمرور الأيام. لم يعد قُربه يغريني، فقد كان جرحي منه غائرًا إلى الحدّ الذي حرمني من أن أسعد بمن كانت همسة من شفتيه كفيلة بجعلي أمضي الليل كلّه مضطربة نشوةً وفرَحًا. اكتفيتُ بمعاملته بكلّ الحبّ والودّ الممكن، مانحةً لنفسي فرصة التطّهر وغسل قلبي بالحزن، ولا شيء سوى ذلك. لم أشتك، ولم أغضب، ولم ألُمهُ، فقط استسلمتُ، وسلّمتُ، وبكيت كثيرا. كنتُ حزينةً للغاية، ولكنّه كان حزنًا بطعم يشبه النقاء، إن كان للنقاء طعم يا بنيّ.

علّمني الحزن في تلك الأيام، وجعلني أُبصر بعين الحقيقة. تمعّنتُ في حياتي، فوجدتها كخرقة يصعب ترقيعها، فأيُّ نجاح يمكن أن تحتفي به فتاة هربت من أهلها وبلادها ملاحقةً رجلًا تركها ليتزوّج امرأة أخرى، واعدًا إيّاها بالبقاء رغم ذلك؟ كانت أفكاري مُحطّمة للغاية.

لكنّني تشبّثت بالأمل، ذلك الذي حدّثني عنه شبحُ آسر، الوجه الذي يشبههُ، والذي بدأ يزورني مذ علمتُ أنّ علاقتي به ستنقطع، وظلّ ملازما لي لسنوات. لعلّك يا بنيّ تعتقد أنّي كنت مجنونة، أتحدّث إلى الأشباح، وأتخبّط بين شخصيات متعددة، كأني مصابة بالفصام. لستُ ألومك إن ظننت بي ذلك، ولكنّي لستُ أحكي لك إلا الحقيقة، كما قُدّر لي تذكرها.

لم يكن سهلا عليّ تجاوز حقيقة أنّي سأغادر الشّخص الذي أحببتُ إلى غير رجعة. وقد مررتُ بعدّة ردود فعل نفسيّة، حاولتْ نفسي أن تصدّ بها هذه الحقيقة. من ذلك أنّي بدأت أشعر بتدفّق حبّي له، إلى الحدّ الذي جعلني أتخيّله كسراب لملاكٍ منزّل من السماء، رجل بلا خطايا، وأمير ملحمة أسطورية لقصّة عشق لن تتكرر. لكنني أدركت أن هذه المشاعر والأفكار ليست إلا وهمًا تحاول نفسي أن تقنعني به، ألا أرحل، لشدّة ما أدمنتُ هذا الرّجل، وتعلّقت به تعلّقا مرضيا. وعلى النقيض من ذلك، مرّت عليّ أيام شعرتُ فيها بالظلم، فرحتُ أعدد هذه المظالم ببؤس، وألومه عليها، لكنّي سرعان ما سألتُ نفسي عن الغاية من وراء ذلك؟ ومدى تأثيره على الواقع الذي نعيشه جميعنا؟ كانت فترة تعذّبتُ فيها طويلا، وشُفيت قليلا، دون أن يشاركني في هذه الرّحلة النفسية من الاستشفاء أحد.

وهنًا على وهنٍحيث تعيش القصص. اكتشف الآن