الرسالة السادسة عشر

29 4 5
                                    


اتخذت حياتي منحًى مختلفًا منذ أنّ عدتُ من تلك الرّحلة. بعثت برسالةً إلى والدي، باعتباره القريب الوحيد الذي تبقّى لي حاليا؛ لأعلمه بأنّي سأترك البلدة، وأرحل إلى مدينة قريبة، كي أبدأ دراستي الجامعية هناك. اعتذرتُ منه في رسالتي تلك عن اسلوبي الفظّ الذي عاملته به في آخر لقاء، وذلك بعد أن شعرت بضغينتي ناحيته تختفي، ثمّ طلبت منه تسوية أمر بيت أمّي، والذي اتّضح أن والدي قد منحها إياه بُعيد الطلاق، وسجّله باسمها، والآن فإنّ ملكيته أصبحت تعود إليّ. ردّ علي بعد يومين، موضّحًا لي في ردّه أنّه سيعرضه للإيجار كي يعود عليّ بمبلغ ذي فائدة يمكنني الاستفادة منه شهريًا، وذلك إلى حين أقرّر أمرًا آخر بشأنه. هكذا سوى والدي أمر البيت، بعد أن جمعت أغراضي منه في عدّة صناديق، ورميت ما تبقّى، أمّا لوحاتي، فقد قُمت بحرقها كلّها دون هوادة، ما عدا تلك التي رسمتها آخر مرّة ورأيتُ فيها والدتي في اليوم السّابق لوفاتها.

لعلّك تتساءل يا بنيّ، لماذا تركتُ المدينة ورحلتُ؟ والحقيقة هي أنّي وددتُ أن أبتعد عن عطن الماضي ورائحته الخانقة، وهو أمر لن أتمكن من فعله في المدينة، لأن الناس لن يسمحوا لي بذلك، وأظنني أخبرتك سابقًا، أن الناس لا ينسون يا بنيّ، ولذا قررت أن أختفي عن أنظارهم، وأرحل إلى مكان بعيد لا يعرفني فيه أحد. اقترحت عليّ مريم مدينةً قريبة حيث يعيش بعض أقاربها، موضّحة لي أنهم سيكونون سعداء باستقبالي عندهم ومساعدتي ريثما أستقرّ، وبما أنّي لم أملك خيارًا آخر، فقد رحلتُ حيث دلّتني، وهنالك استقبلتني عائلة عمّها، وكانوا لطفاء للغاية معي، وحدستُ عندئذ أن ملامح الجود والكرم والبشاشة، تسري في عروق هذه الأسرة، وليس مريم وحدها.

غمرتني مشاعر إيجابية قويّة برفقتهم هناك، فاستطعت أن أبدأ حياة جديدة ومختلفة، ولنقل ناضجة. مكثت عندهم حوالي ثلاث أشهر، بحثتّ في أثنائها عن سكن جامعيّ أبيت فيه، على الرغم من إصرارهم بألّيس لذلك داعٍ، ولكنني لم أتقبّل فكرة بقائي عبئًا عليهم طوال سنوات دراستي، خاصّة وأنهم كانوا أسرة ذات حال ماديّ متواضع. وبعد رحلة بحث مضنية، وبقليل من المساعدة من هذا وذاك، استطعت الحصول على حجرة متوسطة الحجم، ستبيت معي فيها فتاة اسمها حوّاء، وبحلول سبتمبر من ذلك العام، بدأت بأوّل فصلٍ دراسيٍّ لي في الجامعة، بكليّة الطب البشريّ.

كانت المدينة غريبة عليّ يا بنيّ، وأعترف لك بأنّ التأقلُّم فيها لم يكن شديد السهولة، ولكنّه بالطبع، ليس صعبا كالتأقلّم في باريس وحيدة، وعلى ذكر باريس، فإني لم أتذكر فترة إقامتي بها يومًا خلال دراستي الجامعيّة، إلا وتعجّبت من نفسي، وتساءلت عن الشجاعة التي تحلّيت بها، والتهوّر أيضا، لأقبل بالبقاء هناك، وحيدة تمامًا، أما هنا، في هذه المدينة الهادئة، فإني حظيت برفقةٍ غمرتني بالودّ، واستطعت استنشاق رائحة الوطن، تلك الرائحة التي لم أكن لأقدّرها لو لم أشتق لها سابقًا. نعم يا بنيّ، هنا أستطيع تناول الفطور الذي اعتدت تناوله، وأطعمة بنكهات تشبهني، وألبسة ليست غريبة على طريقة ملبسي، وكان في ذلك من الألفة ما استطعمته بتلذذ وامتنان، بالرغم من أنّي سمعت كثيرًا من الطلاب طوال فترة دراستي يشتكون، ولا يكفّون عن التذمّر.

وهنًا على وهنٍحيث تعيش القصص. اكتشف الآن