الرسالة الرابعة

14 3 3
                                    


عندما أجريتُ محادثتي الأولى مع آسر، شعرتُ بضعفٍ شديد اعترى كلّ كياني، حتى إنني عندما عدتُ إلى البيت بُعيد ذلك طفقتُ أبكي دون سبب واضح. وثقتُ فيه دون تجارب يا بنيّ، دون اختبارات، دون مواقف، فكأنه قفز إلى عالمي من علّ، دون أن يطرق الباب. نسيت ماذا جرى في محادثتنا الأولى، ولعلّي إن حاولت تذكّرها فإنّي سأتذكر فقط ملامح وجهه الهادئة، تعتريها ابتسامة، ولعلّي أيضا سأتذكر نبراته المتناغمة وهو يحدّثني بتفاصيل دقيقة ومعلومات لم أدركها سابقًا؛ عن الرسم والقدرة على السّفر. فاجئني بالكثير، وبين هذه وتلك، ألقى السّحر على قلبي فآمنتُ به، بالمعنى الحرفيّ للكلمة. لن أكذب عليك يا بني، كنت مذعورة للغاية، فلم يسبق لي الوثوق برجلٍ غريب سابقًا، ولكنني أظنّ اليوم بأن هذا الخوف كان أحد أسباب انجذابي إليه. كانت حياتي روتينيّة للغاية، ما عسى مراهقة أن ترغبَ، سوى في مغامرة تجرف معها الخوف، وتحفّز الأدرينالين؟ لسوء الحظّ لم تدرك والدتي ذلك أبدا، فلم تزل، بطباعها المتسلطة تلك تعاملني كما لو كنتُ طفلة، مغيّبة تماما عن حقيقة واضحة، وهي ببساطة أنّي كبرتُ. لازلتُ أذكر تلاطم مشاعري غير المبرر، وأفكاري المشوشة.

كنت بنتًا شديدة الحساسية، رقيقة للغاية حتّى إن أخف نسمة أمكنها أن تحملني إلى البعيد. بدت لي المراهقة كما لو أنّها عاصفة هوجاء تحرّك الموج بقوّة وحش جبّار، فيجرف كلّ ما فوقه روحة وجيئة بلا رحمة، وكنت أنا في هذا الإعصار قاربًا صغيرًا تائها ومرعوبا، حتّى إن كلّ رسوماتي التي رسمتها في تلكم الأيام مشوشة للغاية وغير مفهومة، فكأنها تفاصيل مبعثرة جُمعت بشكل غير متناسق في لوحة امتلأت بالألوان، وكنت أنا نفسي غير قادرة على فهم السبب الذي جعلني أرسم مثل هذه اللوحات الغريبة؟

قضيت قسطا كبيرا من المساء في غرفتي، بعد أن وبّختني والدتي بشدّة على تأخّري في العودة إلى المنزل. جلست أبكي مدّة ساعة كاملة، ثم مسحت دموعي وأمسكت دفترا أبيض وقررت بدء رسمِ لوحة، مُستذكرةً كلمات آسر عندما قال «ركّزي، لا تجعلي عقلك اللاوعي يسيطر عليك فجأة وينقلك إلى مكان لا تعرفينه، إنه يفعل ذلك لأنه غير متّصل بك، وأنت يجب عليك التركيز للاتصال به، وعندئذ يمكن لأفكارك التدفّق إليه والتأثير عليه، الأمر الذي سيُمكّنك من التحكم في وجهتك.»

كانت كلماته هذه غريبةً ومعقّدة مما اضطره لإعادة الشرح بتفصيل أكبر كي أفهم فكرته، وفي تلك الليلة جلستُ لأحاول تطبيق ما علّمني إياه. كان ذلك وسيلتي لإلهاء نفسي عن توبيخ والدتي، ومشاعري المتشنجة كنتيجة للقاء آسر يومذاك. أغمضت عيني. أخذت نفسا عميقا هادئا مرارا وتكرار. تخيّلت صوت بيانو ينبعث من حولي، كأنّي في فضاء فارغ لا يملؤوه شيء، ثم راح ذلك الفضاء يمتلأ بقطع وصور.

تذكّرت صورة إحدى القرى السويسرية التي أراني إياها في ذلك اليوم وطلب مني حفظ ملامحها. كانت لوحة لطبيعة خضراء، يحيط بها نهرٌ رقراقٌ تطفو من فوقه الإوزات متتابعات خلف بعض، وعلى الرغم من أني دوما ما أتخيّل الطبيعة في الصحوّ مشرقة تحت أشعة الشمس، إلا أن الصورة التي رأيتها كانت تحت نور القمر في مساء خالٍ من السحب. بدأت أرسم وتدريجيًا، وجدتُ نفسي هناك.

وهنًا على وهنٍحيث تعيش القصص. اكتشف الآن