الرسالة التاسعة

11 0 4
                                    


عدتُ إلى المنزل في اليوم التّالي من إصابتي، ولم أزل ملتزمةً بالصّمت. انتشرت إشاعات كثيرة في الحيّ عمّا حصل، أبرزها هو أنّي تعرّضت للضربِ من قِبَل شابّ تورّطت معه في علاقة عاطفية مشبوهة، وقد تناقل الناس هذه الإشاعة بهمس، مع نبرة شامتةً يعزون فيها قلّة تربيتي إلى والدتي، مذكّرينها بما حصل معها قبل سنوات. نعم فالتّاريخ لا يرحم يا بنيّ، وسيتذكّر الناس كلّ شيء فـ «ـالعار أطول من العمر،» وهذا العار ستتوارثه الأجيال كالجينات تمامًا. إشاعة أخرى تقول أن والدي قد قدم إلى البيت سكرانًا وضربني ضربًا مبرحًا لأنه سمع بتورطي في علاقة مع شابّ ما دون خطبة، ثمّ عندما اكتشف أنّي ضُربت زيادةً عن الحد قَفِل هاربًا. تناقل الناس هذه الرّوايات لأنهم حُرموا معرفة السبب الحقيقيّ، والذي أخفته والدتي عنهم وأبيتُ أنا كشفَه لهم. لم يساور ذهنَ أحدٍ البتة أن والدتي هي من ضربتني، مع أن أحدا لم ير شخصا ثالثًا بيننا، وذلك لأن لا أحد يلوم الأمّ أبدا. الأم عندهم مقدّسة لا تخطئ، بالرّغم من أن عددا كبيرا من الاضطرابات النفسية والانحرافات منشأها طريقةُ تعامل الأهل من أبنائهم. لكنّ الناس فيما يبدو، يستعصون فهم هذه الحقيقة الواضحة. أو لعلّهم ببساطة، يحبّون تأليف قصص خياليّة، وتناقل الإشاعات.

حاولت والدتي الحديث إلي، بطريقة غير مباشرة، ولعدّة مرات، لكن دون فائدة. كان شعورها بالذّنب حيال ما حصل معي يغلّفها، فتحوّله، هربًا وتنصّلا من مسؤوليتها حيال ما فعلت، إلى تكبُّر صامت. في السابق، عندما تحدّثني والدتي ولا أرد عليها، فإنها غالبا تؤنبني. لكنّها اليوم لم تفعل. الأمر الذي أكّد لي شعورها العميق بالذّنب، لكنّ هذا الشعور لم يحرّك لها ساكنًا، إذ اكتفت بإلقاء عبارات مختصرة مثل «غدائك جاهز، تعالي لتأكلي» أو «سأترك أدويتك إلى جانبك، ينبغي عليك أخذها.» ولا شيء عداها. كانت تنتظر مني بشغف، أن أرد عليها، أن أنطق بأي شيء، لكنني رفضتُ ذلك بعناد. اغتاظت بشدّة من برودي، بيد أنها لم تمتلك حيلةً تمكّنها من معالجة الوضع. سمعتها مرّات كثيرة تتحدّث بمفردها شاكيةً من وضعها المزري، مثلما تنعتُ حياتها دائما، وذات يوم جلست تبكي.

«لماذا كتب عليّ عيش حياة مزرية كهذه؟ لا أحد ينصتُ إليّ، أو يشعر بي، لا هذه الفتاة ولا أبوها ولا غيرهما! ماذا عساي أفعل، بعد كلّ هذا الظلم! لقد بذلت كلّ تضحية يمكن بذلها من أجل حياتها، وها هي اليوم، تكافئني بالصّمت. تعتقد هذه الفتاة التافهة الآن أنّ والدتها امرأة شريرة. نعم، إنها تعتقد بأنّي شريرة، وتكرهني. يا إلٰهي، انظروا إلى نظراتها الحاقدة، عيناها تقدحان شررا، وتتوعدانني بالتعذيب. ماذا فعلتُ لأستحق كلّ هذا الشرّ؟ إنها طفلة مغرورة بحقّ، يُخيّل إليها أنّي إن ضربتها فإنها لها الحق في أن تغضب مني، أنّى لها! هذه الفتاة لا تعرف شيئا عن برّ الوالدين! وبالطبع، يمكنني ضربها وتربيتها كما يحلو لي، فأنا والدتها، ويجب عليها أن تحترم وتقدّر ذلك! من يطعمها ويدثّرها ويعلّمها، سواي»

وهنًا على وهنٍحيث تعيش القصص. اكتشف الآن