الرسالة الثانية

59 4 4
                                    


عندما يحصل المرء فينا على عائلة تحبّه يا بنيّ، فإنه يقدّس هذا الحبّ الأسريّ ويعيش به، هذا الحبّ يؤصّله، يغذّيه، ينقذه، وعندما يولد أحدٌ منّا دون عائلة محبّة، أو فلنقل، لنكون أكثر واقعية؛ عندما يولد وسط عائلة مثخنة بالجراح والصراعات غير المنتهية، فإننا ننتهي إلى البحث خارجا عن مأمن، وننسى في أثناء ذلك، سبب ركضنا خارجا. نظل نتحدث عن الحبّ والصداقة والنجاح والمال، لكننا ننسى أننا نفعل ذلك بهوس، لأننا نفتقد عائلة، فمهما كبرنا، فإننا نتحوّل ظاهريا وحسب، ونظلّ في أعماقنا ذلك الطفل الصغير الذي يبكي، مناديا على أحد يحبّه، يدفئه، يطعمه، طفل يبحث عن أم وأب وعائلة.

كانت بداية رحلتي في البحث عن الحبّ خارجًا عن طريق الرّسم البسيط. كنت أمسك دفترا وقلمًا وأرسم شخصيات لطيفة مبتسمة ومشرقة، وبيت جميل تشعّ من فوقه شمس تتجلّى بين السحب كملكة مبجلة. وكنت أحبّ مشاركة رسوماتي مع غيري واطلاعهم عليها، وفي حين أن والدتي كانت غير مبالية بي وبما أرسم، فإنني كنت أشاركها مع زملائي بالمدرسة، وكذلك معلماتي. لازلت أذكر يا بنيّ أنّي أحببت ذات مرّة إحدى معلمات الصف حبًّا جمًّا لأنها ابتسمت لي عندما عرضت عليها رسوماتي، وأعجبتها وامتدحتها طويلا، مما جعلني أحبّ حضورها وأسعد بلقياها دوما، بالرّغم من أن باقي زملائي لا ينفكّون ينعتونها بالبدينة المملة. كانت معلّمة دروس اللغة العربية في المرحلة الابتدائية، وأظن أني كنت أبحث فيها عن أمي المتغيبة على نحوٍ ما، خاصة بعد الموقف الذي سأذكره لك توًّا.

لم تكن حياتي حافلة بأيّ نوعٍ من النّشاطات في مرحلة الطفولة، عدا الذّهاب إلى المدرسة صباحًا والمذاكرة باقي النّهار، وبما أنّ المدرسة كانت قريبة من المنزل فإنّي اعتدتُ الذهاب إليها سيرًا على الأقدام في الصّباح، وعندما يحين موعد الانصراف تقلّني والدتي بعد انتهاء دوامها في العمل، وقد كانت تعمل مصفّفة شعر لأنها لم تُكمل تعليمها، لكنّها تميّزت في عملها هذا، فلم تفكر يومًا في أمر الدراسة أو تقلق بشأنها. كانت أشهر كوافير بالمنطقة حتّى إنها اضطرت لإغلاق الحجوزات في فترة من الفترات، مكتفية فقط بالعمل مع العرائس، لأنها لم تجد وقتا كافيا للجميع. ولكن دعني أُكمل الحكاية.

أخبرتك أنّي كنت أنتظر والدتي لتقلّني دوما، وكنت أفعل ذلك بالوقوف أمام بوابة المدرسة منتظرة، فأظلّ أعدّ السيارات، وأبحث من بينها عن تلك التي تخصّ والدتي، وقد التزمتُ بتلك العادة فترةً من الزّمن، بروتين ممل لا جديد فيه، حتّى حلّ يوم من الأيام، لم تأتِ فيه والدتي لتقلّني. عددتُ السيّارات في ذلك اليوم، حتى شارفت الشّمس على الغروب، وبالرّغم من أنّي مللتُ من العدّ، وتعبتُ من الوقوف، إلا أنني لم أيأس. كنتُ على يقين تامّ بأن والدتي ستأتي، فهي تأتي ولا تغيب يومًا، ولذا لم أخف، ولم أرتعب. بل مكثتُ أنتظرها في صمتٍ مُطبق مشبّع بعناد ويقين طفوليين. سألني المعلّمون المشرفون عن سبب تأخري كلّ هذه المدة، فأجبتهم بأنّي أنتظر والدتي، وأنها ستأتي، ولكن وقتا طويلا مرّ دون أن تحضر، فراح هؤلاء المعلّمون يستاؤون، ويتأففون من مكوثي في المدرسة كلّ هذه المدّة، إذ أن ذلك حال بينهم وبين إغلاقها والعودة إلى منازلهم ليرتاحوا. اقترح عليّ أحد الأساتذة أن يقلّني، فرفضتُ بعناد، وعندما حاول الضغط عليّ بدأتُ أبكي وأصرخ بحدّة أرعَبَتهم، وفي أثناء ذلك، ركنتْ سيّارة بلون أزرق غامق مميّز أمام بوّابة المدرسة، فاسترعت انتباه الجميع، وأوقفت نوبة صراخي.

وهنًا على وهنٍحيث تعيش القصص. اكتشف الآن