٢

858 22 0
                                    

تأكدت أنه لم يكن هناك سواها في المكان ، فأغلقت الباب وفكت أزرار بلوزتها وعدلت من حجابها فالجو كان شديد الرطوبة ، لكنها بوغتت بسعيد يقتحم المكان فجأة وكأنه ظهر من العدم ، ارتدت بلوزتها على عجل وحدجت فيه بنظرة غضب لم يبال بها قائلة في سخط :
( سعيد بك حضرتك أزاي تدخل المكتب كده من غير ما تخبط على الباب الأول ) . 
ظل سعيد يتفحصها بنظراته المقيتة ثم نفث دخان سجائره الفاخرة في بطء صانعا هالة من الضباب الأبيض حوله ، أغلق الباب بقدمه وأقترب منها فتراجعت للخلف خطوات ، أتاها صوته الأجش مختلطا برائحة سجائره :
(أنا ما اتعودتش استأذن في أملاكي ) ومط شفتيه في لامبالاة وبرود .
أولته ظهرها وبدأت في لم حاجياتها وحقيبتها حينما أمسك بيدها قائلا في حدة :
( أنتى رايحة فين يا جميلة ، ده أحنا لسه هنبتدي ).
وجذبها بقوة إلى صدره وبدأ في لعبة القط والفأر،  لقد أعد خطته سينالها اليوم وفى مكتبها .
لم يعلم أن نهلة لم تكن فأرا أبدا ، فهي تدرك ما أراده منذ أول لقاء بينهما ، نظراته المفترسة ، رائحة سجائره وشهوته الواضحة في عينه لم تكن لتختبئ كثيرا . 
أدركت بحدسها ما يخفيه في نفسه ، فالرجل ظنها سهلة المنال وفعلا أخرج لها رزمة من المال ليغريها بها ويؤكد على ما ظنته فيه ، نظرت له بإحتقار وحاولت الخروج من الباب الذى يسده بجسده الضخم لكنه أمسك ذراعيها بيده وضغط عليهما بأصابعه مؤلما إياها وقائلا في غطرسة :
( أنتى فاكرة نفسك مين، أنتى ولا حاجة فقيرة شحاتة وأهلك ميحلموش يبقوا خدامين عندي ، عايزة كام أخلصى ؟) .
صعقت لبجاحته ، وأتى جوابها على سؤاله في هيئة صفعة قوية هبطت مدوية على خده ، أشعلت فتيل جنون الرجل فهاج كالثور ورمى بها على الأرض وبدأ
في خلع ملابسه .
تراجعت نهلة وراء المكتب وأخرجت ما كانت تخفيه منذ أدركت نيته ، فأخفت ما تستطيع أن تدافع به عن نفسها لو حدث مكروه لها ، صنعت بخاخا صغيرا مماثلا لل  (Self Defense ) ، وضعت فيه كل ما يحرق العين وألصقته بجانب مكتبها بلاصق قوى ، نزعته من مكانه وخبأته في يدها متظاهرة أنها تتكئ على المكتب لتنهض ، حملها كالعصفور بين يديه وبدأ في غزو حديقتها ، إنه على وشك قطف ثمارها وهى لن تسمح بذلك ، فقيرة نعم رخيصة لا  .
فتحت غطاء البخاخ ورشته في عينيه ، تراجع سعيد كالمجنون وصرخ في ألم شديد ، ظل يتأوه متخبطا في الغرفة كالثور الهائج ، كانت هذه الدقائق كفيلة بأن تستقل نهلة المصعد وتهبط مسرعة لتستوقف إحدى سيارات الأجرة ، مظهرها كان مريبا فملابسها مقطوعة وحجابها إيضا خلعه سعيد حينما حاول الإعتداء عليها ، انساب شعرها كشلال أسود يصل لركبتها مما جذب انتباه المارة لها وشكك سائقي الأجرة فيها فلم يتوقف لها أحد سوى بعض السيارات الملاكي التي حاولت أن تتصيدها  !.
لم تنتظر فالوقت ليس في صالحها ، جرت في الشوارع بقدر ما استطاعت قدماها ، جرت حفاظا على شرفها ، كانت تعلم في قرارة نفسها أن سعيد لن يتركها أبدا تنجو بفعلتها ، فكبريائه وغروره لن يصمتا ، سيحاول الانتقام لنفسه فهو لن يقر بهزيمته أمامها ولن يهدأ له بالا حتى تأتيه راكعة وهذا فعلا ما جال في خاطره عندما أستطاع فتح عينيه وذهب لغسلهما ، ضرب بيده مرآة الحمام فكسرها صارخا من شدة غضبه . 
فقد كانت أذكى منه وهذا ما أحنقه فعلا ، لربما لم يصادف في حياته من تمتلك الشرف والذكاء معا من قبل .
الشرف هو ما يمتلكه الفقراء أمثال نهلة وما يفتقر إليه أمثال سعيد .
كانت يده تنزف ، فألتقط مناديلا ورقية ليلفها وأقسم غاضبا أنه لن يتركهاتنجو بفعلتها وستندم أشد الندم حينما تأتيه راكعة إليه ... وستأتي .
زفرت نهلة بقوة ثم أغمضت عينيها تحاول إقناعها بأن تكف عن الدموع ، كانت تجلس في مكتبها عندما أحست بالملل وخشيت أن تعاودها الذكريات مرة أخرى .
فمزاجها دائم التقلب كلما داهمها الماضي بألآمه .
نهضت من مقعدها وخطت نحو الكافتيريا في الدور الأول ، طلبت مشروبا ساخنا وصادفت في طريق عودتها للمكتب " جاسم " المسئول عن قسم الحسابات ، الشاب الإماراتي الأسمر الذى أنجذب لجمالها ورقتها من أول يوم خطت فيه قدماها الشركة وتناقل الجميع خبر قدوم المصرية ذات الوجه الملائكي لقسم السكرتارية .
قرأت ما في عينيه وعلمت أنه مشدود إليها ، وذكاءها أرشدها إلى التجاهل والوجه الخشبي ، الرجل لم يكن إلا مثالا للاحترام ودماثة الأخلاق ويبدو أنه يكن لها مشاعر طيبة ولكن قلبها موصد للأسف ، لم يعد هناك مكانا في روحها لا للمحترمين ولا لغيرهم ، لقد أتت هنا واغتربت عن بلدها للعمل فقط .. لكى تجنى مالا حلالا يغنيها عن الاحتياج لأحد .
ألقى جاسم عليها التحية في ذوق وأدب وفتح معها حديثا تعمدت هي أن تجعله قصيرا بردودها المقتضبة الجافة .. رغما عن إحساسها بالذنب تجاهه إلا أن هذا هو الحل الوحيد .
عادت لمكتبها ، ارتشفت بعضا من المشروب الدافئ ، ثم بدأت الذكريات مرة أخرى في التسلل ناعمة كجلد الافعى .
لم تذهب إلى عملها قط بعد اليوم الذى حاول فيه سعيد الاعتداء عليها ، حتى محاضراتها الأخيرة قبل الامتحانات لم تحضرها وأكتفت بالمراجعة في البيت ، أحست ندى أن هناك ما يحدث ولم تستوعبه بعد وأن الرجل الثري صاحب السيارة الفارهة الذى أتى لنهلة أمام الجامعة من قبل له صلة بما يحدث لها الآن .
كما أن القلق المرتسم على وجه نهلة كان فاضحا لها،  فهي تنتظر انتقام سعيد منها .. فليس من المنطقي أن يتركها الرجل هكذا تمضى في طريقها بكل تسامح وود .
وكان انتظار الموت أشد من الموت نفسه !!.
لم تتخيل قط أنها هدف قوي له ، لم تدرك هذا إلا عندما عادت إلى البيت من أخر امتحان لها لتجد جلبة في الصالون ، لم تحتج إلى طرق الباب فقد كان مفتوحا على مصراعيه وأمامها كان سعيد جالسا يتوسط كنبة الصالون لوحده يجلس مزهوا بنفسه وعلى يمينه أباها وعمها وعلى يساره أمها وقد انكمشت في مقعدها مطأطأة الرأس في استكانة وخشوع ، لمح سعيد نهلة فاعتدل واضعا ساق فوق ساق مبتسما في شماتة وغرور ، غطرسته التهمت وسامته ، لقد أتى لعقد صفقة ويبدو أنه ربحها وبجدارة .
لم تكن قد حكت لأحد عما بدر من سعيد يوم أن حاول الإعتداء عليها ، حتى ندى لم تعلم وعندما سألتها لم تركت العمل ؟، تحججت بأنه لا يوفر لها دخلا جيدا مقارنة بالجهد المبذول وعدد الساعات .
فمن سيصدقها الآن ؟! 
وحتى لو صدقوها فها هو الرجل قد أتى ليصلح خطأه ويتقدم رسميا ، لقد فهمت ما جرى بداخل الغرفة دون أن ينطق أحد ، لقد تمت الصفقة بنجاح .. خسر سعيد في الجولة الأولى لكنه فاز في الثانية .
ما إن رأها أبوها حتى رحب بها قائلا " أهلا يا عروسة"  
فهمت ما دار وأستوعب عقلها كل ما حدث إلا شيئا واحدا لم يستوعبه ، هو استكانة أمها وصمتها ، لم تنطق ، لم ترفض ، لم تتناقش ، لم يبد على ملامحها سوى شيء واحد.....  الاستسلام .
كانت نظرات نهلة معلقة على وجهها الذى فقد حياته ونضارته يوم أن تزوج عليها زاهد وتركهن ، صارت موجودة أسما ، جسدا فقط لا روحا ..
كانت بينهن لا رأى لها ولا قرار بعد قرار أبيها وموافقته ، لقد نجح أبوها في خطته ودمر أمها وهمش دورها ووضعها على الرف وها هو يدمرها هي الأخرى. 
وسعيد إيضا أحال حياتها جحيما،  جعلها تدفع ثمن حفاظها على شرفها ووقوفها ضده وهو لم يعتد أن يصمد أمامه كائنا من كان .
ألا تدر من هو سعيد جابر الغريب ؟، إن لم تكن تدرك من قبل فها هي الآن قد أدركت ضآلة مستواها وحجمها بجواره ، أدركت حيزها من الكون وحيزه إيضا .
ففي مجتمع أبو حجر ، هي لا تتعدى كونها شهوة،  فما بالها لو أضيف لها
صفة فقيرة إيضا ، فلا مناص حينها من الهزيمة .
تزوجت سعيد ورأت وجهه الحقيقي .
هي التي كانت أسوأ كوابيسها فيما مضى أن تحيا حياة مماثلة لحياة أمها ، أصبحت الأن تحيا في أسوأ منها بمراحل .
حاولت تغييره وفشلت ، رغم أنه لم يكن هكذا ليلة زفافهما ، كان له وجها طيبا ظهر ليلتها بعد انتهاء الزفاف وأختفى بعدها.... 
ظهر فجأة واختفى فجأة .

******                            

غداً لن تمطر _الجزء الأولحيث تعيش القصص. اكتشف الآن