عادت نهلة إلي البيت تحمل في رأسها جبال من التفكير ، فكل شيء في عقلها مشوش أصابه الخلل .
دلفت لغرفتها تحاول السيطرة على انفعالاتها ، فالحالة التي رأت عليها سعيد كانت غريبة ومختلفة ، ونظراته إيضا تفضح حبه واحتياجه لها ودار بين عقلها وقلبها حوارا وجدالا عنيفا .
_ مازال يحبني ذلك واضح في عينيه ولمسته ليدي .
_ كفى سذاجة ، ستظلين هكذا طوال العمر تعيشين في وهم ، تخافين على شعور الآخرين وتحزنين لأجلهم .
_ لكنه يحتاجني الآن أكثر مما سبق ، قبضته التي لم تُرد إفلاتي وعينه المتوسلة ، لم يكن سعيد الذي أعرفه ، كان شخصا لاجئا من بحور الغرق لشواطئ عيني وقد تركته يغرق !
_ كفى شعارات وبلاهة ، إنه من تأثير صدمة موت أخته لا غير ، غدا سيعود كما كان .. سعيد الغريب .
_ وإن تغير للأفضل وأراد الرجوع ، ماذا أفعل حينها ؟!
_ ليس هناك من مجال لاحتمال تغييره ، سعيد لن يتغير ، أنسيتِ حينما علم بخبر حملك كيف ظننتِ واهمة أنه تغير ، لم يمض أكثر من شهرين وعاد لطبيعته حينما علم أن الجنين فتاة ، هو يحتقرك ويحتقر ابنته ، لقد لفظكما معا فاجعلي لنفسك كرامة ولا تعودي إليه ، هو فقط يحتاجك لينسى فجيعته ... ليتجاوز وحدته وبعد ما يتعافى سيتركك مرة أخرى .
_ لكن ما حدث منه في الغرفة .. هناك شخص ضعيف بداخله ، لا أدري لم يصر على الظهور بذلك القناع المخيف أمام الناس ولم لم يترك لمشاعره العنان من قبل .. ربما كنت سامحته ولم أتركه هكذا ، ودانا ..... أليس من الأفضل لها أن تعود لحضن أبيها ؟ كم أحس بالذنب تجاهها .. في نظرات عينها البريئة وكأنها تسأل أين أبي ، ولم لا يزورنا ؟.
_ بل أحمدي الله أنك قد تركته فلولا انفصالك عنه وسفرك ما قابلتِ خالد
.. أنسيتِ خالد ؟ أنسيتِ الرجل الذي كافأك الله به ... رجل لم يكن في حسبانك أو من مخططاتك أن تقابليه ولو صدفة ، رجل لا تنتمين لعالمه ورغم ذلك جذبك هو إلى عالمه ، أحترم كيانك وأحبك لشخصك ، رجل حمل جرحا بداخله مثلك تماما لكنه تخلى عنه برؤيتك وأفسح لك مجالا في قلبه الجريح ، رأى فيك دواءه ومقصده .. أتتركينه الأن ؟ لأجل رجل أحتل مكانة يوما في قائمة من أهانوك وجردوك من حريتك .... رجل مثل خالد أحترم ألمك وتجربتك واحتضن طفلتك كأنها من صلبه فماذا تريدين بعد ؟ ... أتتركين رجلا حقيقيًا لتظلي بين أشباه
الرجال طوال عمرك ؟
تنبهت من أفكارها لمجرد تذكر إسم خالد.
لا.... إلا خالد ، فحبي لخالد لا تخالطه الظنون ولن أضحي به لكائن من كان ، يكفيني ألاما قد احتملتها بمفردي .... على كاهلي ، ألا أستحق فرصة واحدة للعيش والتفكير في حالي فقط ؟ ألا أستحق أن أحيا مكرمة بمشاعري كأنثى ... مشاعري التي أغتصبها الأخرون ؟.
من حقي أن أفكر في نفسي وفي ابنتي ، فخالد هو الأمان لقلبي ولي ، أما سعيد فلا أمان معه على الإطلاق .
أنهت الحوار بينهما في حزم ... لا مجال للعطف أو الشفقة الان ، لا مجال للتراجع .
هاتفها خالد يبشرها بإنهاء مسألة التصاريح ليستعدوا للسفر جميعا بعد عشرة أيام، وكم أحست نهلة بالسعادة والإمتنان ، تلك المشاعر التي فقدت الإحساس بها منذ أن عادت مرة أخرى .
أنهت المكالمة معه وهي هائمة في عالم أخر ، عالم ليس به غيرها وغيره تمنته عالما نقيا لا يقترب منه من يلوثه ، من يعبث بجدرانه ونقوشه ، عالما ليس فيه من يؤذيها... ولأول مرة منذ فترة طويلة تنام قريرة العين .
نهضت في الصباح وكأنها قد نامت لقرون واختزنت من النوم ما يكفيها .
رن جرس الباب ، أحست نهلة بانقباض في صدرها لا تدر مبعثه ، خشيت أن يكون هذا الزائر هو زاهد .
اقتربت من الباب بحذر ، فتحت شراعة الباب وتجمدت ملامحها لبرهة من الوقت ، فالواقف أمامها هو .......
سعيد !!.
******
كان خالد في ذلك الوقت يتكلم مع نواف الذي أصر على عودته لدبي غدا فهناك ما يحتم وجوده ، حاول خالد التنصل منه وإخباره أنه عائد بعد عشرة أيام ، ولكن نواف أصرا مجددا على عودته فالعمل يحتاج لوجوده وهنالك صفقة كبيرة على وشك الإبرام ولن تتم في غيابه .
زفر خالد بقوة وظل يتحرك ذهابا ومجيئا داخل جناحه الخاص في أحد أكبر فنادق الإسكندرية محدثا نفسه :
" كيف سأترك نهلة في موقف كهذا ، لن أحتمل قلقي عليها وأنا هناك في قارة أخرى ، ونهلة إيضا غامضة لا تحكي شيئا عن نفسها ، إذا سأظل عشرة أيام لا أعرف عنها شيئا حتى أراها بنفسي ، تبا لك يا نواف أما استطعت الانتظار بضعة أيام أخرى ، تبا للعمل كله ".
زفر مرة أخرى بقوة ثم جلس على فراشه ، التقط هاتفه يطلب نهلة ، استمع لرنين الهاتف حتى انتهى ولم ترد، عاود الاتصال مرات ومرات إلى أن قطعت نهلة الاتصال من طرفها ، تسلل القلق إليه وبدأ بنهشه، هذا ليس من عادتها ، ربما حدث شيء لوالدتها أو نقلت إلى المستشفى .
نهض وأرتدى ملابسه على عجل ، سيذهب إليها بنفسه ليطمئن عليها .
توقفت نظرات نهلة على وجه سعيد الذي قابل جمود نظراتها بنظرات اشتياق وضعف وحزن .
مرت فترة من الوقت وهما ماثلان أمام بعضهما البعض ، أحس سعيد بالأحراج فتململ في وقفته ، فهمت نهلة إشارته فانزاحت جانبا وأفسحت له الطريق للدخول .
خفض بصره ودلف للصالون ، جلس مطرقا برأسه كطفل مخطئ ينتظر صفح أمه فيما جلست هي على حذر وابتلعت ريقها الذي جف من المفاجأة.
رفع سعيد رأسه وتنحنح قائلا:
" أنا عارف أني اخر واحد في الدنيا تتوقعي زيارته وأخر وش تتمني تشوفيه."
ألقى جملته وانتظر ليرى وقع كلماته التي لم تؤثر في نهلة الواجمة أمامه فأكمل في إحراج :
" نهلة ، أنا جاي النهاردة اعتذر لك عن كل حاجة عملتها وعن كل إهانة ارتكبتها في حقك .... أنا اتغيرت كتير ، حبي ليكي غيرني ، بعدك عني قدر يكسر غروري ، أنا ما بطلتش تفكير فيكي وأنتي مسافرة ، وكنت بفكر أسافر لك واعتذر لك بنفسي بس .. " توقف لحظة لم يستطع قول أنه قد عرف أن رئيسها في العمل هو خالد ولم يستطع الذهاب لساحة حربه مرة أخرى .
تجاوز سعيد هذه النقطة ثم أكمل:
" موت سها كمان غيرني يا نهلة ، أنا بقيت محتاج لك أنتي ودانا أكثر من الأول ، وأوعدك عمري ما هأذيكي تاني أبدا ، وخدي عليا الضمانات اللي تحبيها ".
رددت نهلة في سخرية ممزوجة بألم :
" ضمانات ".
أحس بألمها الواضح في تعابير وجهها فأكمل في حزن :
" أنا جاي لك بنفسي يا نهلة ومستعد أعتذر لك ادام كل الناس ، واللي ها تشترطيه عليا أنا راضي بيه و هانفذه بدون تفكير ، أنا عارف إنك مش بسهولة هتقدري تسامحيني وأن اللي عملته فيكي مش هين .... بس انا عندي أمل وهيفضل عندي لأخر يوم في عمري ".
كانت نهلة تستمع لكلماته بدون أي تعبير كالتمثال بلا روح ، تقاوم عبراتها بكل قوتها ، لن تسمح لدموعها أن تعريها أمامه ، فقد رأى دموعها في السابق وشبع منها ، ولن يراها اليوم .
تأمل سعيد وجهها وانتظر ردها ، كانت عيناه صادقة وهي تعلم ذلك وتعلم أنه فعلا قد تغير وأن كلماته لم تكن مخادعة وعبرت عما يجول بداخله ، ولكن المشكلة ليست به هو .... إنما بها هي.!!
ما عادت تثق فيه ، لا تحمل له إلا ماضيا مؤلما وذكريات قاسية ، حتى لو لم يكن خالد موجودا في حياتها لم تكن لترضى بالرجوع إليه.
وبالرغم من أن الأخير يمتلك مشاعرها الأن إلا أنها مازالت تضع داخلها خطا أحمر استعدادا لأي غدر مستقبلي منه ، الأيام لا تحمل معها مطرا على الدوام ، فهناك العواصف ... الأعاصير ، الزلازل والموت !.
هي لا تأمن صنف الرجال بأكمله ، أصبح عندها تخوف و شك لاإرادي ، حتى في قمة سعادتها وفرحتها تتمالك أعصابها ، تتأهب للوجه الأخر للأيام .
فكثرة اللسع من الحساء الساخن يجعلك تخشى البودينغ البارد .
وهي أرهقها اللسع وأدماها ، حفر الماضي فيها أوجاعا بحروف من نحاس مذاب.
أصابها سعيد بما يسمى بال (Phobia Hominum) أو فوبيا الاقتراب من الرجال ، وهي عاهدت نفسها عندما سافرت أن لن تعود ساذجة كما السابق برغم عاطفتها الجياشة وحنانها تجاه الأشخاص.
عاطفتها التي تظهر الأن في عينيها ، تحاول أن تسطو على عقلها وتتلاعب به ، تلتمس الأعذار لسعيد لتقنعها أنه تغير وأن من حقه فرصة أخرى .
كيف ؟!!
نهضت نهلة من مقعدها ، نظرت لسعيد قائلة في صرامة :
" للأسف يا سعيد انت جاي متأخر ، متأخر أوي " .
قاطعها سعيد في سرعة :
" أنا اتغيرت يا نهلة والله اتغيرت ".
أشارت له بيدها مقاطعة دفاعه عن نفسه وقائلة في حزم :
" أنا عارفة يا سعيد أنك اتغيرت وواثقة من كده ، بس المشكلة دلوقتي مش فيك ، المشكلة فيا أنا ، أنا ما بقتش نهلة اللي تعرفها ، أكيد جوازنا كان فيه حكمة منه ، إني أتعلم وانضج وأعرف قيمتي وأني أستاهل حد أحسن منك ، والحسنة الوحيدة اللي خرجت بيها من علاقتنا هي دانا ، اللي أنا مش متخيلة أد أيه قلبك كان جاحد وقاسي عشان تطردها من أبوتك وما تسألش عنها."
التقطت أنفاسها ثم أردفت في صرامة :
" رجوعي ليك مستحيل يا سعيد ، بس لو عايزني أسامحك على اللي عملته ... فكر في بنتك حاول تعوضها عن غيابك والسنين اللي ضاعت وانت ما بتسألش عنها ، أنا كنت يتيمة الأب رغم وجوده يعني زيا زي دانا ، حاول يا سعيد تعوضها وتثبت نفسك في حياتها ، مش علشانها هي بس .. وعلشانك انت كمان ، أنت ها تحتاج لها لما تكبر أكتر ما هي ها تحتاج لك."
نهض سعيد من مقعده واقترب منها، تجاهل نصائحها له عن دانا، وسألها في حزن :
" فيه حد في حياتك فعلا يا نهلة ... صح ؟."
ابتلعت ريقها في صعوبة وأشاحت بنظراتها .
فواجهها بنظراته قائلا :
" خالد الزيدان ؟ ".
أدهشها أن يعترف بتتبع أخبارها ، لكنها سرعان ما تداركت دهشتها وأخفت تعابير وجهها ولم ترد .
اقترب منها .. رفع ذقنها بأصبعه وأمسك بمرفقيها ، غاص في بحر عينيها الجارف ثم ابتسم في حزن قائلا :
" أنتي فعلا تستاهلي واحد أحسن مني ".
ثم تبدلت نظراته وأكمل في غضب:
" بس مش خالد الزيدان يا نهلة ، مش خالد الزيدان ، ده على جثتي ، أنتي فاهمة " .
عادت نهلة للخلف خطوتين تحاول أن تستشف سبب غضبه ونقمته على خالد بينما ألتهم سعيد وجهها بعينه ثم أكمل :
" أنا فعلا محتاج دانا دلوقتي أكثر من أي وقت، اسمحي لي أجي أشوفها وتخرج معايا ".
هزت رأسها بالموافقة ، لم يقاطعه من نظراته لها سوى دانا التي وقفت عند الباب تراقبهما على استحياء ، أراخ سعيد يديه الممسكة بمرفقي نهلة وابتسم لدانا ثم خطى نحوها ، جلس على ركبتيه أمامها واحتضنها بقوة ، كانت الصغيرة صامتة لا تُبدي فعلا ، فقد كانت في السنتين من عمرها حينما انفصل عن أمها وانقطع عن زيارتها والأن هي قد تخطت الرابعة بشهور قليلة .
تدخلت نهلة قائلة في ابتسامة مصطنعة :
" بابا سعيد يا دانا ها يبقى يجي يشوفك كتير وتخرجوا مع بعض ، ايه رأيك ؟".
نظرت له الصغيرة نظرات طفولية بريئة ثم قالت :
" لا .. ده مش بابا ، بابا هو عمو خالد ".. قالتها ثم مطت شفتيها في عدم فهم و خرجت من الغرفة غير مبالية .
لم يصدم كلاهما لردها البريء العفوي ، لكن سعيد هو من أحس بالأحراج والغضب لذكر إسم غريمه ، جز على أسنانه في ضيق ، فعلى ما يبدو إن ابنته منجذبة لخالد الذي احتواها بحنانه وأبوته ، لكنه لن يقبل بالهزيمة أمامه ، هو مصر أن ينل فرصة أخرى ليكون جديرا بهما.
مرت فترة من الصمت بينهما قطعها بسؤاله :
" نهلة ، عملتي ايه في عملية والدتك ، أرجوكى لو فيه أي حاجة أقدر أعملها ، قوليلي ، انتي عارفة إني مستعد أعمل أي حاجة علشانك ، واتمنى لو تقبلي مني فلوس العملية ومن غير مقابل صدقيني " .
همت بالرد عليه حينما قاطعها رنين جرس الباب ، كانت في طريقها إليه عندما سبقتها إيمان وفتحته لتجد أمامها خالد.
رحبت به إيمان في ارتباك وهي تنقل نظراتها بين سعيد ونهلة الواقفين أمامها في الصالون .
دلف خالد للداخل ليجد سعيد أمامه ولا تفصل مسافة كبيرة بينه وبين نهلة ، كتم غيظه وضغط على أسنانه في غضب وهو يمد يده ببطء ليصافح يد سعيد الممدودة أمامه .
استأذن سعيد منها للمغادرة وعيناه تكاد أن تخلع من مكانهما وهو يتركها مع خالد ، صحبته نهلة للباب حينما استوقفها قائلا في صوت تعمد أن يصل لغريمه :
" لو احتجتي أي حاجة يا نهلة أنا موجود ، أنا معايا رقمك هابقى أكلمك أطمن على والدتك ".
ابتسمت له نهلة ابتسامة شاحبة وشكرت له عرضه للمساعدة ، أغلقت الباب واستدارت لتجد خالد ماثلا أمامها بعينين كالصقر يراقبهما في عصبية واضحة .
أحست بغصة مريرة في حلقها ، فدعته لدخول الصالون في صوت متحشرج فيما تتحاشى نظراته النارية .
جلس على الكرسي المواجه لها ثم تكلم في غيظ ضاغطا على حروف كلماته :
" أنا كلمتك كتير من شوي ، وسكرتي السكة في وشي ، ليش ما رديتي ؟."
تمالكت اعصابها وقالت :
" ما عرفتش ارد يا خالد لأن سعيد كان هنا ".
رد في عصبية :
" و ايش يعني سعيد باشا كان اهنه ، كنتي طمنيني عليكي ، خفت يكون فيه شي حصل لوالدتك " .
ثم استطرد قائلا:
" ردي وجولي إنك مشغولة ، بس ما تتركيني لعقلي يجيب ويسوي" .
رفع وجهه ليواجه نظراتها قائلا في غيرة واضحة :
" وايش جاب هذا الشخص ؟، وكيف تجابليه وما في رجال في البيت ".
ضايقها تلميحه، فردت نهلة في حزم:
" ماما وإيمان هنا ، وانا مش محتاجة راجل في البيت عشان نحتمي بضله لما حد يزورنا ، أنا أقدر ادافع عن نفسي كويس جدا ، سعيد عارف ده كويس وجرب قبل كده لما اتعدى حدوده قبل جوازي منه وانا حكيت لك عن اللي عملته ، وانت يا خالد كمان عارف ان مفيش حد يقدر يتعدى حدوده معايا ويختبر ذكاءي ( مشيرة لمحاولته السابقة في اختبارها )، وبالنسبة لموضوع أنه جه هنا ليه. " ازدردت لعابها ثم أكملت في توتر :
" سعيد عايز يرجعني ونبدأ صفحة جديدة ، هو فعلا اتغير وبقى إنسان تاني غير سعيد اللي أعرفه ".
رد خالد في سرعة وغضب مكتوم :
" أنزين ، وجواب حظرتك ايش يا ست نهلة." ابتسمت لغيرته وغضبه فردت في هدوء :
" هو اتغير فعلا أنا ما انكرش بس انا كمان اتغيرت ، واتغيرت كتير أوي وما بقتش أنفع لسعيد."
زفر خالد في قوة وكأنه قد شفي بجوابها، ثم قال في صرامة :
"نهلة، شوفي .. أني مسافر باجر لدبي ، فيه أشياء مهمة محتاجة وجودي ، محمد المساعد تبعي اهنه ، يوم الأتنين بإذن الله هيجي ياخذكم للمطار وهو اللي ها يخلص كل الأوراق واني ها أكون في انتظاركم بإذن الله في مطار دبي ولو احتاجتي لأي شي كلميني ".
توقف قليلا ثم قال محذرا في مزاح يخفي غضبه :
" أصحك أكلمك تاني تسكري الموبايل في ويهي أو ما تردي علي ... ها تلاجيني علي أول طيارة أجي أخبط على بابج ".
هزت رأسها مبتسمة بالموافقة ، فأكمل خالد في حب وغيرة :
" أبا تحاكيني يوميا أعرف ايش حصل ، وما تخبي عني شي يا نهلة ، خصوصا عن هذا الشخص اللي كان اهنه من شوي واللي أتمنى أنه ما يجي مول تاني."
" خالد .. مالك ، أول مرة أشوفك عصبي كده ، أهدى شوية ، أنت مش واثق فيا ولا ايه ، سافر لشغلك وحط في بطنك بطيخة صيفي " قالتها في ثقة مما جعله يهز رأسه مبتسما.
تاه كلا منها في عين الاخر، مشاعرهما طغت على وجهيهما ، لم يقاطع نظراتهما الملتهبة سوى إيمان التي دلفت بصينية ممتلئة بالمشروبات والحلويات .
أحست نهلة بالحرج وخصوصا لجلوس إيمان معهما مبتسمة في برود ، لم تمض دقائق واستأذن خالد للمغادرة متعللا بالسفر فطائرته ستقلع فجرا أمسكت نهلة بذراع أختها بعد رحيل خالد معاتبة إياها في مرح:
" ايه يا فندم ، كنتي قاعدة معانا محرم ولا ايه."
ردت إيمان في برود مازحة :
" أه يا فندم ، ماما قالتلي اروح أقعد معاكم عشان ما ينفعش كده وهي مش قادرة تقوم من السرير ... دي الاصول يا فندم ".
ردت نهلة في غيظ:
" وما جتيش ليه يا فالحة وسعيد كان هنا ؟."
ردت إيمان بنفس البرود :
" ماما قالت أنك مش طايقة سعيد أساسا فمفيش مشكلة تقعدي معاه ، أنا شخصيا قولت ربنا يكون في عونه هو ، احتمال تاكليه أو تخنقيه زي ريا وسكينة ".
قالتها واطلقت ضحكة سخرية ، اغتاظت منها نهلة فردت قائلة:
" ماشي يا إيمان ، لما يجي هشام ها ألزق في الصالون مش هاقوم " واخرجت لها لسانها.
ردت إيمان مصطنعة البكاء :
" وأنا مالي يا لمبي ، دي ماما اللي قالت كده ومحدش يقدر يكسر لها كلمة."
ردت نهلة في برود مصطنع:
" ما انا كمان ماما كانت بتقولي كده بس كنت بسيبك ساعات وأكبر دماغي، بس من هذه اللحظة ولا اعرفك."
ضحكت إيمان لجملة أختها الأخيرة فوضعت كتفها فوق كتف نهلة ثم قالت في مزاح :
" بس تعالي هنا قوليلي ، الظاهر إني دخلت في وقت غير مناسب ، أصلي لاقيت اتنين متنحيين لبعض كأنهم عيال في إعدادي ، محسسني إني في فيلم حبيبي دائما ، ههه ".
لكزتها نهلة في جنبها قائلة في غضب مصطنع :
" روحي نامي ، امشي ، إلهي هشام تروح عليه نومة وما يسألش فيكي ".
ضحكت إيمان لجملتها الأخيرة، ثم ما لبثت أن نظرت لنهلة في جدية وسألتها:
" نهلة ، هو سعيد كان هنا ليه ؟."
زفرت نهلة بقوة ثم قالت:
" جاي يشوف دانا ، عايز يرجع علاقته بيها ، ويزورها ويخرج معاها ".
سألت إيمان في حذر :
" وأنتي هتعملي ايه."
ردت نهلة في لا مبالاة:
" ولا حاجة ، ده حقه ، المهم أكون أنا برة الصورة."
ألقت جملتها ثم زفرت بقوة ، هي تتمنى حقا أن تظل خارج إطار الأحداث لكنها في قرارة نفسها تعلم أنها قلب الأحداث ذاتها.
****
توالت زيارات سعيد لرؤية دانا يوميا خلال أيام ما قبل السفر وليس كل يومين كما أدعى ، ومن خلال هذه الزيارات استطاع كسب قلب صغيرته ، لم يضن عليها بالهدايا واللعب مما جعلها تنتظره يوميا وتتمنى دخوله من الباب ولا حديث لها إلا عن فسحهما معا والأماكن التي يأخذها فيها.
وهذا ما أقلق نهلة بعض الشيء فدخول سعيد المفاجئ لحياة طفلتها وخروجه مرة ثانية سيحدث في نفسيتها الكثير وهي لا تريد هذا التعلق الزائد لدانا به ، فسعيد ذكي يلعب على وتر ابنته ليسيطر على نهلة ويرغمها على البقاء هنا وقبوله كجزء من حياتهما معا وليس حياة ابنته فقط .
اليوم الأحد وهي أبلغته في الهاتف أنها ستسافر غدا لدبي وستستقر هناك حتى يستطيع تهيئة نفسه إذا ما أراد زيارة دانا .
رن جرس الباب ، فتح معتز ليجد سعيد واقفا أمامه ، اصطحبه للصالون .
ألقت سلمى نظرة على سعيد الذي بدا برغم وسامته ورشاقته كرجل داهمه الكبر والعجز مرة واحدة ، كانت عيناه بها كسرا لم تراه أحداهن من قبل.
مما جعلها تغمغم في ذهول :
" بقى ده سعيد اللي كان مفتري وجبروت وتتهد له جبال ، ده معتز جوزي كان بيخاف يسلم عليه ، شوفي دلوقتي قاعدين مع بعض في الصالون زي الصحاب." ثم خبطت كفيها ببعضهما قائلة :
" فعلا سبحان مغير الأحوال."
جلست دانا على ساق والدها تسأله أين سيذهبان اليوم للتنزه ؟.
كان على وشك إجابتها حينما طرقت نهلة باب الصالون وألقت التحية عليهما ، تسمرت نظراته على وجهها ، نظراته المتعلقة بأهدابها الطويلة تسألها الصفح، تتوسلها البقاء لكن أهدابها أصبحت بلا عزيز ، تركته ينزلق دون أن تمد له يد العون ، قابلت توسلات عينه ببرود .
تنحنح معتز حينما أحس برائحة حرب على وشك البدء بينهما ، فاستأذن و تركهما وخرج.
أخرج سعيد من جيب سترته علبة قطيفة بداخلها سلسلة ذهبية رقيقة يتدلى منها دلايات بها حروف اسم دانا ولعب صغيرة ، ألبسها لدانا حول عنقها الصغير فقفزت من مكانها فرحة وخرجت مسرعة تريها لخالتيها .
نهض سعيد من مكانه وجلس في الكرسي المجاور لنهلة ، لمس ذراعه ذراعها عن غير عمد .. أو ربما بعمد .
توترت نهلة للمسته ، خشيت أن يحس بمشاعرها ونبضات قلبها وهو بهذا القرب ، فعادت للوراء تتجنب ملامسته لجسدها ، أحس بتهربها منه فابتسم من ردة فعلها وأخرج من جيبه علبة حمراء قطيفة أخرى فتحها ليخرج منها سلسلة ذهبية يتدلى منها فصا رقيقا من الألماس .
وضعها على كفه وقال في توتر:
" أتمنى انك تقبلي دي مني يا نهلة ، تقدري تقولي إنها تذكار مثلا ، تفتكريني به ".
أطرق برأسه في الارض ثم أكمل:
" رغم إني عارف إنك مش عايزة تفتكري أي حاجة عني أساسا ، أو تحتفظي بأي شيء مني يفكرك بيا."
ورفع عينه ليرى ردة فعلها ، أحست نهلة بالتوتر إنه يلعب على أوتارها النفسية ، يعبث بمشاعرها مرة أخرى .
تحاشت نظراته ونهضت من مكانها فجأة خارجة من الغرفة حينما اعترضتها يده وأمسكت بها من الخلف من ذراعها و بقوة ، اقترب منها حتى صار خلفها تماما ، اشتم رائحتها وقال في ندم :
" أنا اتغيرت ، اتغيرت يا نهلة وعمري ما ها ارجع أذيكي تاني ، أديني فرصة واحدة بس وقرري بعدها استحقك ولا لا." ابتسمت نهلة في سخرية قائلة :
" وهو العمر فيه ايه يا سعيد بك عشان أدي كل واحد فرصة ، العمر فيه كام فرصة اصلا عشان أوزعها .. للأسف ما بقاش عندي فرص لحد ، انا قررت أني أدي الفرصة دي لنفسي وبس."
نظر في عينيها يستجديها ، كانت ساخطة على نفسها هي أكثر منه ، فعلى الرغم من كل ما فعله فيها ما زالت تكن له بعض المشاعر التي ظنت أنها غرقت ولكن ها هي الآن توشك أن تطفو على السطح .
حاولت التنصل من قبضته لتهرب، فأحكم قبضته مرة أخرى على ذراعيها وجذبها إليه و .....
قبلها ، انحنى يلثم شفتيها ويروي عطش شفتيه الظمئى .
أحست بالخدر بين يديه وتحت قبضته فدفعته عنها بعيدا بكل قوتها ، ولكن جسدها النحيل لا يؤثر في سعيد ، دفعتها القوية ما هي إلا جذب له مرة أخرى.
نظر في عينيها المتألمة ، إنه يستطيع سماع نبضاتها من هذا القرب ، بدا كأسير منعت عنه الحياة طويلا ثم رأها فجأة في عينيها .
قطع نظراتهما صوت صراخ من الخارج .
تركها سعيد لتفلت من قبضته ، خرج كلاهما مسرعا ليجدا أمها ملقاة على سجادة صلاتها وبجانبها معتز يفحص النبض .
" مفيش نبض خالص " قالها الأخير في قلق .
نظرات نهلة الواجمة دفعت سعيد للاتصال سريعا بإحدى عربات الإسعاف ، دقائق ووصلت سيارة الإسعاف حملت الأم ومعها معتز ، وركبت الفتيات في سيارة سعيد الذي تملكه القلق والتوتر مثل الجميع .
أتي هشام على عجل حينما هاتفته إيمان ، ظل الجميع على أعصابهم جالسين في المستشفى في وجوم أما نهلة فلم تستطع الجلوس كانت تقطع الممر جيئة وذهابًا في عصبية وقلق .
دقائق وخرج الطبيب ليهز رأسه قائلا في أسف :
"البقاء لله ، الحالة كانت صعبة أوي والموضوع كان موضوع وقت."
إنهار الجميع !!.
رحلت المرأة الفاضلة والأم الرؤوم ، رحلت سعاد الجرار في هدوء تاركة وراءها عالم منحل بغيض .
عالم يساوم فيه زوجها على حياتها وتركها أخوتها دون السؤال ، عالم بلا سند إلا الله ولأنه الوحيد السند الذي لطالما بثته حزنها فلم البقاء إذا ، ذهبت إلي الله فعنده فقط الامان .
جرت نهلة نحو غرفة أمها ، اقتحمتها ، توقف قلبها لرؤيتها نائمة .. ساكنة .
وتوقف الزمن .... توقف كل شيء حينها .
اقتربت منها نهلة لمست يدها حاولت أن توقظها ولكن بلا جدوى.
اقترب منها سعيد وفي عينيه ألم ... حاول جذبها للخارج ، لكنها أشارت إليه بالابتعاد وهزت رأسها نافية في هيستريا وتشنج ، احتضنت جسد أمها ثم عادت للوراء خطوتين ظلت تتفحصها والدموع تنهمر من عينيها كالمطر في شتاء ديسمبر ثم ركضت خارج الغرفة .
جرت بأقصى سرعتها لا تدر إلي أين وجهتها ... كل ما أدركته حينها أنها تهرب ، تساقطت دموعها غزيرة تغطي وجهها، مرت من بين العربات وسخط السائقين وسبابهم .
تدفقت كل الذكريات المؤلمة دفعة واحدة في عقلها ... أبيها وأخوالها ، صديقتها دانا ومصطفى.... سيل جارف من الألم اجتاح عقلها بلا روية .
جرت حتى بلغت كورنيش البحر في المنشية ، وقفت أمامه غير مستوعبة ، لا يتحرك فيها إلا دموعها التي نزلت كالأمواج وراء بعضها متتالية .
وحدثت نفسها :
"مشيتي ، مشيتي يا سعاد فعلا وسيبتيني خلاص ، طيب سيبتيني لمين ، مكنش ليا غيرك ، أنا بقيت يتيمة دلوقتي ، لا أب ولا أم، كان نفسي أعوضك عن أيام شقاكي وتعبك وأرجعك بنت العز من تاني ، مشيتي يا سعاد ، من غير ما تقوليلي .. من غير ما تودعيني ... مشيتي وأخدتي فرحتي معاكي ، مشيتي يا غالية." ثم بدأت بالصراخ عاليا أمام البحر :
" مشيتي يا أمي ، مشيتي يا غالية ، أمي ".
تعالى صوتها مع التشنج :
" كلهم خذلونا واتخلوا عنا ، هم اللي قتلوكي ، كلهم خونة ، قتلوكي عشان الفلوس ، خالي قتلك وزاهد قتلك ، كلهم قتلة ".
أصيب الناس حولها بالذعر والإشفاق عليها ، حاول بعض الاشخاص الاقتراب منها ولكنهم خشوا أن تكون مجنونة وتؤذيهم .
توقفت سيارة سوداء أمامها مباشرة وجذب صاحبها الفرامل وقفز خارجها ، أحاط جسد نهلة بذراعه في حنان محاولا تهدئتها ، لكنها حاولت الهروب من قبضته فأمسكها مرة أخرى في قوة .
حاول بعض الناس التدخل خوفا أن تكون محاولة اختطاف لكن حراسه الشخصيون أبعدوهم جانبا .
ظلت تضرب سعيد بكلتا يديها في هيستيريا حتى سقطت رأسها على كتفه مغشيا عليها في اللحظة التي جذبها فيها لداخل السيارة ، أدخلها في الكنبة الخلفية وانطلق بالسيارة مسرعا ، وصل لفيلته ، ودخلها حاملا إياها على ذراعيه ، صعد بها سلالم الفيلا الداخلية وفتح باب إحدى الغرف ووضعها على السرير ، خلع لها حذائها ودثرها بالغطاء ، تأملها في حزن ، تذكر سها وانهياره يوم وفاتها ، الموت يطوق أحبابه .
أغلق عليها الباب وهبط السلالم سريعا ، رسم ابتسامه مصطنعة على شفتيه ليهدأ من خوف دانا ، طلب رقم معتز وطمأنه أنه بجوار نهلة ومعه دانا وأنه في طريقه للمستشفى ، نبه على سلوى والخدم في حالة استيقاظ نهلة أن يبلغوه فورا ولا يسمحوا لها بالخروج تحت أي ظرف وشدد على سلوى الانتباه لنهلة حيث أنها تحت تأثير صدمة قوية .
غادر الفيلا متوجها للمستشفى وعقله يخمر الكثير من الأفكار والخطط للوصول إلي هدفه ، فغايته هي نهلة والوسيلة لن تهم كثيرا.
تولى تصريح الدفن وأتم إجراءات الجنازة لليوم التالي ولم يترك معتز أو هشام بمفردهما ، تغير سعيد ، أصبح رجلا يعتمد عليه في ظروف القسوة حينما جارت الدنيا على نهلة .
تغير حينما تغيرت هي إيضا !.
![](https://img.wattpad.com/cover/361180823-288-k26180.jpg)
أنت تقرأ
غداً لن تمطر _الجزء الأول
Romanceرومانسية / اجتماعية / دراما غدا لن تمطر ..... أو ليسوا جميعا مصطفى أبو حجر أدم بدأ بأكل التفاحة ... أدم وحواء أكلاها معا ..... حتى الأن حواء هي الوحيدة الملامة ؟...! كانت تعمل بائعة في أحد المحلات الواقعة في موله التجاري الضخم وكانت المرة الأو...