٦

805 28 0
                                    

العجز ... 
أبغض شعور قد يشعر به إنسان لا يملك في يده ما يفعله ، وهي امرأة في مواجهة عالم بأكمله ، جيش من الرجال تكالبوا عليها ليزحزحوها عن دربها المستقيم .
طلع عليها الصباح ولم تنم بعد ، فتحت هاتفها لتجد عشرات من المكالمات الفائتة من خالد ، ياله لرجل صبور ذو هدف ، مطت شفتيها في ألم .
نهضت للمطبخ إنها تحتاج لأن تفرغ غضبها في شيء ، استيقظت ندى بعدها لتجدها في المطبخ  تعد شيئا ما .
" صباح الخير يا نهلة ، بتعملي ايه " سألتها ندى في فضول وهي تتثاءب .
" بعمل مكرونة بشاميل وكفتة " ردت في حزن .
" ايوووه بقى يا جماله يا نهلة ، احبك وانت حزين وبتطلع حزنك في الاكل ، أنتي عارفة يا بت يا نهلة أنا اكلت المكرونة البشاميل دي في أرقى مطاعم مصر ودبي هنا ، عمري ما دوقتها بطعامة المكرونة من إيدك،  بركاتك يا سي خالد هناكل مكرونة على حسك النهاردة " قالتها في ضحك وحماس لتخرجها من حزنها .
ابتسمت نهلة في ألم وقالت :
" ماشي يا مفجوعة هانم ، ألحقي روحي الشغل ولما ترجعي تلاقي الأكل جاهز بإذن الله ." 
" لا انا مش هاروح النهاردة ، ها اقعد معاكي ،  بلغت فهد إني إجازة
" قالتها في حماسة كالطفلة الصغيرة ثم أكملت :
" النهاردة يوم البشاميل يا هانم ، مفيش شغل ، وبعدين أنتي هتحتاجيني جدا ، أنتي تطبخي وانا أدوق واقولك رأيي ، وثانيا بقالنا كتير اوي حوالي شهرين ما قعدناش مع بعض ، انا قررت ألازمك اليوم زي ضلك يا فندم".
ابتسمت نهلة لكلامها فهي تحفظ صديقتها عن ظهر قلب،  لقد أبت أن تتركها وحيدة في اوجاعها وحالتها النفسية تلك...  إنها ندى ، ومن يملك مثل ندى لا يضام .
أخرجها الطبخ من تفكيرها وذكرياتها رغم أنها شردت قليلا ، لكن ندى لم تسمح لها بالاستسلام .
رن هاتفها مجددا ، إنه نواف ، ترددت في الرد ، زفرت في قوة ثم اتخذت قرارها لتجيبه .
" ألو".
" فتحتي الحين بس عشان اتأكدتي أنه نواف مو أنا ".
) إنه خالد ، اختلج قلبها وتعالت نبضاته ( .
أكمل في إحراج :
" تسمحيلي أجيك البيت ، أبي اتكلم معك شوي ".
" خالد بك ، أرجوك ، أنا بلغت نواف بك الصبح باستقالتي وده قراري الاخير"... قالتها في حزم وحدة .
" هذي اخر مرة ترين فيها ويهي يا نهلة .. أرجوكي ".
صمتت و لم تجد ما تقوله ، فأكمل في حزم :
" ربع ساعة أكون أمام البيت ".
أنهى المكالمة وتركها تفكر فيه ، فصوته فقط كان كفيلا بإيقاظ الأموات فيها ،
إنه الكره الذي انقلب لحب ، كرهت جنسه .. تجنبته فأتاها في حلم ليجد ثغرة لها ، مدخلا يسلك منه لمشاعرها وقلبها الموصد ، وها هي بمجرد سماع صوته تذوب خلاياها وتنصهر في ترددات أحباله الصوتية .
سمعت ندى المكالمة ، لم تتدخل ، تركتها لقرارها .
دقائق ورن جرس البيت ، فتحت الباب ، كانت واجمة ترتدي الوجه الخشبي ، ورأته فقط ... عيناه الحزينة الثاقبة .
ارتبكت نظراتها الحادة ، أشاحت بوجهها ، طلب منها خالد الخروج قليلا ، فهو لن يستطيع الدخول ، وأولى  ظهره لها دون انتظار موافقتها .
أغلقت الباب خلفها ثم ذهبت إليه في الحديقة الخارجية ، محافظة على  مسافة بينهما ، نظر في عينها إنه محرج ونظراته خجلى ، لكنها تحاشت نظراته ، وجالت ببصرها فيما حولها على غير هدى .
قرر كسر الصمت فمد يده  ليدير وجهها إليه ، تراجعت للخلف خطوتين وأشارت إليه في حدة بإلا يلمسها .
هز رأسه وزفر بقوة قائلا :
" نهلة ، أنا أسف على اللي حصل بالأمس ، بعتذرلك عن موجفي وشكلي السيء أمامج ، بعرف إنك متضايجة ومخنوجة مني وايد ،  بس أني مو كده يا نهلة ، أني بس لي أسبابي في اللي عملته " بدا متلعثما أمامها كطفل في الخامسة من عمره .
رفعت نهلة حاجبيها وقد ارتسمت على وجهها علامات الاستنكار ، وما
هي الأسباب التي تمنح شخصا ما حقا ليس من حقوقه ، أي أسباب قذرة تلك ... حدثت نفسها .
" خليني أحكيلك اشياء عني " قالها في ألم .
حكى لها كل شيء عن حياته ، دراسته ، إخوته وأشقائه،  زوجته الأجنبية وابنه الصغير .. كان يحكي بنفس متألمة وقلب مفطور ، بينما تحبس عيناه  دموعها ، كان يعاني اضطرابا داخليا في مشاعره مثلها تماما ، هو يكره النساء لكنه يحبها ، وهي تكره الرجال جميعهم إلا هو. 
أحبته ، وقعت في سحره ، ولم تعد تملك زمام قلبها الذي انفرط .
كان هو من يتحاشى نظراتها ، خشي أن يلمح فيها ما يؤلمه أو يجرح كبريائه .
لكن ما اجتاح نهلة حينها لم يكن تلك المشاعر المشفقة ، وإنما حب وحنان ورفق به .
هو مثلها .... طائر جريح .
تمنت لو استطاعت أن تربت علي كتفه ، تمسك بيده ، تحتضنه ، لكنها لم تستطع ، هناك ما تربت عليه في بلدها ، هناك دينها ، هناك ما يقيد جموح مشاعرها .
استمعت له بحواسها ، بكل ذرة فيها ، كانت كلماته تخرج مجروحة ، كبريائه كرجل ، كبريائه كخالد ، لم يكن سهلا عليه الحكي. 
" تتذكري حين سألتيني أول مرة نحنا شفنا بعض جبل ولا لا ؟ أني شفتك يا نهلة في مصر ، حضرت زفافك انتي وسعيد ... كنت من المدعوين وجذبني نظراتك الحزينة الشاردة وما تخيلت قط أن هذا الملاك الصغير أشوفه في شركتي ويكون بين يدي"  .
نظرت له نهلة في دهشة ، الأن فقط تتذكره ربما نسيت الموقف لأنه كان قصيرا فقد بدا كالمتلصصين من وراء الشجرة يتابعها بنظراته وكأنه يواسيها أو يشاطرها حزنها ، عقلها من اختزن هذا الموقف في باطنه وأخرجه مرة أخرى في أحلامها التي غزاها وبقوة. 
لاحظ شرودها فاقترب منها قائلا في صدق :
" أبي ابدأ صفحة بيضا معك يا بنت مصر ، أبي السموحة منك وأوعدك ما هأذيكي أو أجرحك مول ".
هزت برأسها موافقة ثم أشارت بأصبع السبابة قائلة :
" على شرط واحد " قالتها في حزم .
" أشرطي كيف ما بدك ، لك الحق تسوي ما تريدين " قالها في سعادة .
" شوف يا خالد ، أنا بحاول زيك أنسى واستمر ، لكن أفكاري بتتلخبط ، روحي مرتبطة بالماضي و" ، التقطت أنفاسها ثم أردفت :
" شرطي الوحيد مفيش اختبارات بعد كده ، لو فيه جواك أي شك ناحيتي أو عدم ارتياح يا ريت تقولي من دلوقتي ، أنا معنديش اي طاقة اتحمل بعد كده شكوكك أو اختباراتك ، معنديش طاقة للألم،  مش هاقدر أدفع تمن ذنوب غيري .. ذنوب معملتهاش،  مبقاش فيه مكان للحزن جوايا ".
هز خالد رأسه موافقا في حب ، لم يكن هذا هو الرجل الذي رأته اول مرة في الاجتماع ، لقد كان متغطرسا نظراته حادة وردوده باردة ، أما الواقف أمامها الآن فهو رجلا أخر ، غيره حبها ، لقد استطاعت أن تفعل به ما عجزت عن فعله بسعيد،  لمست قلبه كما لمس قلبها. 
أتى الباص الخاص بدانا لينتزعهما من فيض مشاعرهما ، نزلت دانا وما أن رأت خالد حتى ابتسمت في براءة وصافحته خجلة ، نزل على ركبتيه وأحتضنها ناظرا لنهلة التي وقفت صامتة تتأملهما .
ولم يدرك أيهما أن هناك من يراقبهما من زجاج النافذة ، إنها ندى التي تساقطت دموعها غزيرة على وجهها ، فلها سر لن تستطيع البوح به ، سر يجمعها ....
بخالد .....

غداً لن تمطر _الجزء الأولحيث تعيش القصص. اكتشف الآن