العجز ...
أبغض شعور قد يشعر به إنسان لا يملك في يده ما يفعله ، وهي امرأة في مواجهة عالم بأكمله ، جيش من الرجال تكالبوا عليها ليزحزحوها عن دربها المستقيم .
طلع عليها الصباح ولم تنم بعد ، فتحت هاتفها لتجد عشرات من المكالمات الفائتة من خالد ، ياله لرجل صبور ذو هدف ، مطت شفتيها في ألم .
نهضت للمطبخ إنها تحتاج لأن تفرغ غضبها في شيء ، استيقظت ندى بعدها لتجدها في المطبخ تعد شيئا ما .
" صباح الخير يا نهلة ، بتعملي ايه " سألتها ندى في فضول وهي تتثاءب .
" بعمل مكرونة بشاميل وكفتة " ردت في حزن .
" ايوووه بقى يا جماله يا نهلة ، احبك وانت حزين وبتطلع حزنك في الاكل ، أنتي عارفة يا بت يا نهلة أنا اكلت المكرونة البشاميل دي في أرقى مطاعم مصر ودبي هنا ، عمري ما دوقتها بطعامة المكرونة من إيدك، بركاتك يا سي خالد هناكل مكرونة على حسك النهاردة " قالتها في ضحك وحماس لتخرجها من حزنها .
ابتسمت نهلة في ألم وقالت :
" ماشي يا مفجوعة هانم ، ألحقي روحي الشغل ولما ترجعي تلاقي الأكل جاهز بإذن الله ."
" لا انا مش هاروح النهاردة ، ها اقعد معاكي ، بلغت فهد إني إجازة
" قالتها في حماسة كالطفلة الصغيرة ثم أكملت :
" النهاردة يوم البشاميل يا هانم ، مفيش شغل ، وبعدين أنتي هتحتاجيني جدا ، أنتي تطبخي وانا أدوق واقولك رأيي ، وثانيا بقالنا كتير اوي حوالي شهرين ما قعدناش مع بعض ، انا قررت ألازمك اليوم زي ضلك يا فندم".
ابتسمت نهلة لكلامها فهي تحفظ صديقتها عن ظهر قلب، لقد أبت أن تتركها وحيدة في اوجاعها وحالتها النفسية تلك... إنها ندى ، ومن يملك مثل ندى لا يضام .
أخرجها الطبخ من تفكيرها وذكرياتها رغم أنها شردت قليلا ، لكن ندى لم تسمح لها بالاستسلام .
رن هاتفها مجددا ، إنه نواف ، ترددت في الرد ، زفرت في قوة ثم اتخذت قرارها لتجيبه .
" ألو".
" فتحتي الحين بس عشان اتأكدتي أنه نواف مو أنا ".
) إنه خالد ، اختلج قلبها وتعالت نبضاته ( .
أكمل في إحراج :
" تسمحيلي أجيك البيت ، أبي اتكلم معك شوي ".
" خالد بك ، أرجوك ، أنا بلغت نواف بك الصبح باستقالتي وده قراري الاخير"... قالتها في حزم وحدة .
" هذي اخر مرة ترين فيها ويهي يا نهلة .. أرجوكي ".
صمتت و لم تجد ما تقوله ، فأكمل في حزم :
" ربع ساعة أكون أمام البيت ".
أنهى المكالمة وتركها تفكر فيه ، فصوته فقط كان كفيلا بإيقاظ الأموات فيها ،
إنه الكره الذي انقلب لحب ، كرهت جنسه .. تجنبته فأتاها في حلم ليجد ثغرة لها ، مدخلا يسلك منه لمشاعرها وقلبها الموصد ، وها هي بمجرد سماع صوته تذوب خلاياها وتنصهر في ترددات أحباله الصوتية .
سمعت ندى المكالمة ، لم تتدخل ، تركتها لقرارها .
دقائق ورن جرس البيت ، فتحت الباب ، كانت واجمة ترتدي الوجه الخشبي ، ورأته فقط ... عيناه الحزينة الثاقبة .
ارتبكت نظراتها الحادة ، أشاحت بوجهها ، طلب منها خالد الخروج قليلا ، فهو لن يستطيع الدخول ، وأولى ظهره لها دون انتظار موافقتها .
أغلقت الباب خلفها ثم ذهبت إليه في الحديقة الخارجية ، محافظة على مسافة بينهما ، نظر في عينها إنه محرج ونظراته خجلى ، لكنها تحاشت نظراته ، وجالت ببصرها فيما حولها على غير هدى .
قرر كسر الصمت فمد يده ليدير وجهها إليه ، تراجعت للخلف خطوتين وأشارت إليه في حدة بإلا يلمسها .
هز رأسه وزفر بقوة قائلا :
" نهلة ، أنا أسف على اللي حصل بالأمس ، بعتذرلك عن موجفي وشكلي السيء أمامج ، بعرف إنك متضايجة ومخنوجة مني وايد ، بس أني مو كده يا نهلة ، أني بس لي أسبابي في اللي عملته " بدا متلعثما أمامها كطفل في الخامسة من عمره .
رفعت نهلة حاجبيها وقد ارتسمت على وجهها علامات الاستنكار ، وما
هي الأسباب التي تمنح شخصا ما حقا ليس من حقوقه ، أي أسباب قذرة تلك ... حدثت نفسها .
" خليني أحكيلك اشياء عني " قالها في ألم .
حكى لها كل شيء عن حياته ، دراسته ، إخوته وأشقائه، زوجته الأجنبية وابنه الصغير .. كان يحكي بنفس متألمة وقلب مفطور ، بينما تحبس عيناه دموعها ، كان يعاني اضطرابا داخليا في مشاعره مثلها تماما ، هو يكره النساء لكنه يحبها ، وهي تكره الرجال جميعهم إلا هو.
أحبته ، وقعت في سحره ، ولم تعد تملك زمام قلبها الذي انفرط .
كان هو من يتحاشى نظراتها ، خشي أن يلمح فيها ما يؤلمه أو يجرح كبريائه .
لكن ما اجتاح نهلة حينها لم يكن تلك المشاعر المشفقة ، وإنما حب وحنان ورفق به .
هو مثلها .... طائر جريح .
تمنت لو استطاعت أن تربت علي كتفه ، تمسك بيده ، تحتضنه ، لكنها لم تستطع ، هناك ما تربت عليه في بلدها ، هناك دينها ، هناك ما يقيد جموح مشاعرها .
استمعت له بحواسها ، بكل ذرة فيها ، كانت كلماته تخرج مجروحة ، كبريائه كرجل ، كبريائه كخالد ، لم يكن سهلا عليه الحكي.
" تتذكري حين سألتيني أول مرة نحنا شفنا بعض جبل ولا لا ؟ أني شفتك يا نهلة في مصر ، حضرت زفافك انتي وسعيد ... كنت من المدعوين وجذبني نظراتك الحزينة الشاردة وما تخيلت قط أن هذا الملاك الصغير أشوفه في شركتي ويكون بين يدي" .
نظرت له نهلة في دهشة ، الأن فقط تتذكره ربما نسيت الموقف لأنه كان قصيرا فقد بدا كالمتلصصين من وراء الشجرة يتابعها بنظراته وكأنه يواسيها أو يشاطرها حزنها ، عقلها من اختزن هذا الموقف في باطنه وأخرجه مرة أخرى في أحلامها التي غزاها وبقوة.
لاحظ شرودها فاقترب منها قائلا في صدق :
" أبي ابدأ صفحة بيضا معك يا بنت مصر ، أبي السموحة منك وأوعدك ما هأذيكي أو أجرحك مول ".
هزت برأسها موافقة ثم أشارت بأصبع السبابة قائلة :
" على شرط واحد " قالتها في حزم .
" أشرطي كيف ما بدك ، لك الحق تسوي ما تريدين " قالها في سعادة .
" شوف يا خالد ، أنا بحاول زيك أنسى واستمر ، لكن أفكاري بتتلخبط ، روحي مرتبطة بالماضي و" ، التقطت أنفاسها ثم أردفت :
" شرطي الوحيد مفيش اختبارات بعد كده ، لو فيه جواك أي شك ناحيتي أو عدم ارتياح يا ريت تقولي من دلوقتي ، أنا معنديش اي طاقة اتحمل بعد كده شكوكك أو اختباراتك ، معنديش طاقة للألم، مش هاقدر أدفع تمن ذنوب غيري .. ذنوب معملتهاش، مبقاش فيه مكان للحزن جوايا ".
هز خالد رأسه موافقا في حب ، لم يكن هذا هو الرجل الذي رأته اول مرة في الاجتماع ، لقد كان متغطرسا نظراته حادة وردوده باردة ، أما الواقف أمامها الآن فهو رجلا أخر ، غيره حبها ، لقد استطاعت أن تفعل به ما عجزت عن فعله بسعيد، لمست قلبه كما لمس قلبها.
أتى الباص الخاص بدانا لينتزعهما من فيض مشاعرهما ، نزلت دانا وما أن رأت خالد حتى ابتسمت في براءة وصافحته خجلة ، نزل على ركبتيه وأحتضنها ناظرا لنهلة التي وقفت صامتة تتأملهما .
ولم يدرك أيهما أن هناك من يراقبهما من زجاج النافذة ، إنها ندى التي تساقطت دموعها غزيرة على وجهها ، فلها سر لن تستطيع البوح به ، سر يجمعها ....
بخالد .....

أنت تقرأ
غداً لن تمطر _الجزء الأول
Romansaرومانسية / اجتماعية / دراما غدا لن تمطر ..... أو ليسوا جميعا مصطفى أبو حجر أدم بدأ بأكل التفاحة ... أدم وحواء أكلاها معا ..... حتى الأن حواء هي الوحيدة الملامة ؟...! كانت تعمل بائعة في أحد المحلات الواقعة في موله التجاري الضخم وكانت المرة الأو...