٤

1.1K 36 2
                                    

أتى سعيد بسهى لخدمة نهلة خصيصا ، وأختار أسما للمولود الذي جزم بإنه ولد ، سيسميه"  جابر... " جابر سعيد جابر الغريب .
وهذا ما أقلقها ... ماذا لو لم يكن ذكرا ؟؟؟ ، لو ..  كانت تقتلها .. تلعب برأسها فهي لم تهنأ بعد بحياتها الجديدة لكى تهدم .
انتهزت فرصة أن المياه بينهما كانت صافية وطلبت منه أن تحضر حفل زفاف أختها سلمى ، فهي لم تحضر خطبتها وتتمنى لو فاجأتهم وحضرت الزفاف ، وافق على مضض ولكن ساعة واحدة فقط وسيأتي لاصطحابها ، من سعادتها قبلته في خده كطفلة صغيرة أهداها أباها دمية أو وعدها بنزهة ما .

ذهبت فرحة لا تصدق نفسها وكان لقاؤها بأمها لا يوصف ، لا تعبر عنه كلمات ، فقد مر ما يزيد عن السنة لم ترها ، كان عاتبا أليما تشوبه الدموع وتختلط معه السعادة والحنين والشوق ، كان هنالك جرحا في جنبها الأيسر ، جرحا أستقر في الظلام وعشش ، جرحا من صمت أمها واستسلامها ، عيناهما قالت الكثير فالأم ملتاعة من الشوق والابنة ملتاعة من الجراح. 
جرت أمها كصغيرة في الثانية عشر من عمرها لتحتضنها بقوة ، لم يدريا كم مر من الوقت وكلا منهما تفرغ ما فيها في حضن الأخرى ، سحاب من الدموع أغشى عينيهما ، وصوت من النهنهة فتق أكمام الصمت .
وجاء أخوالها وأبيها الذي اصطحب زوجته وولديه معه ، فزوجته قد أنجبت طفلا ذكرا أخر مما جعله يمشى كطاووس مختال وكأن لم يرزق أحد غيره بذكور .
لم تقم نهلة من مقعدها ، انكمشت في نفسها تخبئ ألامها ، فرؤيتهم فقط  تنكأ الجراح ، رأت أبيها بالصدفة في طريقها للحمام ، أستوقفها لم يسأل عن حالها بل سأل سؤالين فقط لم تجد ردا لهما :
( هو سعيد باشا جاي .. وايه نوع الجنين اللي في بطنك ) .
كانت تنظر له بعين امرأة على وشك الغرق رأت أباها فظنته الملجأ.. 
ظنته قارب النجاة...  هرعت إليه فوجدته هو البحر .. هو سبب غرقها ...
وجدته أضغاث أحلام !!! 
مر عليها سعيد بعد ساعة كما اتفق معها ، لم يدخل ولم يبارك ولم تطمع هي في ذلك .. ولكن أباها رأه فهرع إليه يسلم عليه بحفاوة رغم احتقار سعيد الواضح له ورجاه أن ينتظر قليلا،  غاب في الداخل دقيقة ثم عاد بزوجته وابنيه ، قرب طفله الجديد من سعيد ليباركه على حد قوله ، فمنح سعيد الطفل قبلة وأخرج من جيبه رزمة من الأموال فهو قد فهم ما يرمى إليه ، أعطاها للرجل الذي كاد أن يقبل يده ، أحست نهلة بوغز في كرامتها ، فأباها مصر على العبودية للمال ، باعها من قبل وها هو يهينها من جديد .
أشار سعيد للسائق بالانطلاق ، اختلس نظرات إلي نهلة فقد بدت في أجمل حالاتها اليوم ، لقد زادها الحمل جمالا فظهرت متوهجة في ثوب وردي اللون ، وبدت خدودها وفمها الكرزي الصغير فواكه ناضجة تستدعي قطفها ، كانت وكأن الثوب قد صنعت خيوطه وأقمشته لوجهها وجسدها فقط .

تأملها سعيد وأحس بوقوعه تحت سحرها فأشاح بوجهه من نافذة السيارة ، ليس هو من تملكه امرأة ، إنه سعيد الغريب لا يقع تحت سحر امرأة أبدا. 
أحست به نهلة فقد رأته وهو يختلس النظرات لها وربما سعدت أن الحال بينهما إلى حد ما جيد ، تنحنحت وبدأت حديثا قصيرا بشكره على منحها فرصة لقاء أسرتها وحضور زفاف أختها ، كان رده مقتضبا كقلبه الموصد ، يبدو أن الرجل يخشى الحب أو لا يفهمه من الأساس .
وللأسف ما خشيته نهلة قد حدث وجن سعيد حينما علم أنها حامل في فتاة ، لقد ضرب الطبيب وحطم غرفة الكشف وجذب نهلة من ذراعها حتى كاد أن يخلع من مكانه .
حينما عاد للبيت إنهال عليها بالصفعات ، لم ينقذها من بين يديه إلا سهى التي حمتها بجسدها وتلقت أغلب الصفعات بدلا منها ، كان يضربها صارخا فيها بإسم امرأة أخرى .
إسم لم تتذكره نهلة !!.
لقد عاد كما هو مرة أخرى...  لم يتغير ابدا وإنما كان في بيات شتوي أو في فترة سكون كي ينسلخ من جلده القديم ليعود أقذر مما كان .
رحل سعيد هذا اليوم ولم يعد إلا بالخبر اليقين ، لقد تزوج من أخرى لينجب الذكر ، لم يرد جنينها ، لم يرد طفلته ، كان رجلا ثري المال ، فقير العقل ، قليل الإيمان .
عاد ليلقى إليهما ببعض النقود الورقية وتأمل نهلة في نظرات بدت لها نظرات شوق غريبة لكنها كذبت عيناها ، ثم تركهما ورحل !.

وعلمت نهلة أن زوجته الأخرى حامل ، تمنت لها لو أن حظها أفضل منها فعلى الأقل ترحم من تحت يديه ولا تذق عذابه .
ولكن حملها لم يدم فقد أجهض الطفل ، هكذا علمت نهلة من سهى التي أخبرتها أن الله لا يعترض على مشيئته ولا يتحايل على قراراته مخلوق. 
زفرت في قوة ثم نهضت من مكانها ، وقفت أمام شرفة المكتب التي تطل على حديقة واسعة وبنايات شاهقة ، ثم شردت من جديد .
عادت مرة أخرى للماضي الذي يعتصرها .

لن تنسى يوم ولادتها ..
لم يأت سعيد معها وتركها بمفردها ، لكن سهى أقسمت أنه أتى و رأها وقبلها على جبينها و دفع تكاليف المشفى ومضى ، ربما أتى فعلا وربما كذبت سهى لكيلا تحزنها وتؤلم قلبها .
أكملت طفلتها السنتين وكلما كانت ترى أبيها قادما كانت تجرى عليه غير عابئة بسقوطها ، وهو غير عابئ بها إيضا ، فزوجته الأخرى حامل مجددا في طفل ذكر وعلى وشك الوضع ، لم يكن ل"  دانا " مكان في حياته من قبل كي يكون لها الآن وولى العهد على وشك القدوم .
حتى ذلك اليوم الذى أتى فيه سعيد بصحبة أبيها وعمها والمأذون ، أطلت من عينيها تساؤلات وفضول ، لكن نظرة أبيها المكسورة أفصحت عن كل شيء ، لقد نوى سعيد وأتى ليؤكد نيته ، سيطلقها ، بعد كل هذا العذاب هو من يريد الحرية ، سيطلق سراحها بعد أن أنجبت منه !.
جذبها سعيد من يدها إلي داخل الغرفة ونادى على زاهد وعمها وسهى ، كانت نهلة تنظر إليه في حيرة وشك. 
أتوا وعلى وجوههم علامات الخوف ، جلس سعيد على المقعد في ثقة وهدوء غريبين ثم أشار إلي زاهد بأصبعه في برود يمنحه حق التكلم،  فتحدث زاهد في خوف قائلا: 
" انزلي على ايد جوزك ورجليه يا نهلة بوسيهم ، واستسمحيه يا بنتي عشان ما يطلقكيش ، ده سعيد بيه رجل طيب وقلبه كبير ".

كانت لا تزال حتى هذه اللحظة غير مدركة لما يفعله زاهد في حياتها ولا لوجوده من الأساس غير أنه يشرح لها دائما معنى الرخص والإذلال وكأنه معجما عربيا لهاتين الكلمتين فقط. 
ظلت واجمة ينزف قلبها وجسدها متماسك كما التمثال لا يدر أحد ماذا يحدث بداخله ؟.
جذبها زاهد من يدها في قوة محاولا غصبها على تقبيل قدم زوجها وأكمل في خوف من ردة فعل سعيد : 
" يا بنتي ده الرسول قال المرأة تسجد لزوجها فما بالك بسعيد بيه ، ده انتي المفروض يا نهلة تسجدي له ليل ونهار ".
حتى الرسول لم يسلم من افتراءهم !.
نظرت لعين سعيد الشامتة ولم تنطق بكلمة ، فقد اشترى الجميع.! 
لم تفعل سوى أنها ذهبت لتجلس بجوار المأذون تنتظر الإفراج عنها. 

أخرج سعيد من جيبه مظروفا منتفخا بالمال وأعطاه لزاهد مقابل أن تتنازل نهلة عن كل شيء ، وتنازلت نهلة ليس ضعفا منها ولا إرغاما من أبيها ولكنها كرهته شخصيا .... أتشتهي أمواله ؟؟ وماذا يتبقى من الإنسان إن بيعت كرامته إيضا ؟.

هي من تحملت غطرسته ، إهاناته ، خياناته ، سهراته اليومية ، أيأتى هواليوم ليتركها بدلا من أن يتغير ؟، بدلا من أن يمنح زواجهما فرصة للإصلاح ، لقد رخصت ثمنها وتساهلت أزيد من اللازم ببقائها معه ، وها هو ينهي كل شيء بجرة قلم ، إنها تكرر مأساة أمها بالحرف مع اختلاف أن أمها لازالت على عصمة أبيها وزوجته إسما فقط .
وعادت مطلقة لم تكمل الثلاثين بعد في ريعان شبابها تحمل طفلة صغيرة على يدها لمجتمع لا يرحم ، يتحكم فيه رجال لا يرحمون .
عادت تحمل عارا من نوع جديد ، فأباها قد حملها نتيجة فشل زواجها كاملا وعايرها بأمها قائلا :
(مش عارفة تجيبي لجوزك حتة عيل يفرح بيه ، ما أنتى طالعة لأمك نحس ووش فقر ، ضيعتي الخير كله من بين أيديكي يا هبله وراح لحجر غيرك )

غداً لن تمطر _الجزء الأولحيث تعيش القصص. اكتشف الآن