١٠

654 22 0
                                    

الأمور على ما يرام لولا تعقيد زاهد للموضوع ، تمنت في داخلها لو يستيقظ ضميره ، يصحو قليلا ليكفر عن خطايا وقعت أثناء نومه ، لو يتنازل بعض الشيء عن ماديته ، عن متاجرته بهن في سوق النخاسة ، لو يحمل قلبا يلين لهن مثلما لان لطفليه الذكرين .
تنهدت في حزن يحمل حرارة باطنها .
كل ما خرجت به من ساعات قضتها على فراشها تفكر هو أنها سترفض عرض أبيها ، ستنتظر تدخل خالد فقد وعدها بالتصرف السريع خلال أيام وستتمكن والدتها من السفر بحرية ، فقد عدل قانون سفر المرأة في مصر ليمنحها إذنا خاصا للسفر بدون موافقة الزوج في حالات الضرورة و منها العلاج ، لكنه سيأخذ أيام لاستخراج التصريح بالسفر خاصة بعد علم أبيها الذي قد يرفض في أي وقت سفرها ، فهو قد وضع أنفه في الموضوع ولن يتركه يمر هكذا بدون " شخلل عشان تعدي." 
" لماذا ينجبوننا ؟! إن كنا عارا فلماذا لم يئدنا أحدهم ونحن صغارا .. أليس هذا أفضل من العيش بحمل العار يوما بعد يوم ".
تذكرت كلمات " دانا "، صديقتها في الجامعة التي أطلقت إسمها على ابنتها تيمنا بها ، مجرد تذكرها ألهب الحزن في صدرها مجددا ، فنزلت منها دمعتان شقتا طريقهما للعدم .
كانت فتاة منطوية ووحيدة ، لم تقترب لمصادقة أحد إلا نهلة لتقارب مستواهم المادي وارتياحها لمعاملتها ، فملابس الفتاة كانت رثة تدل على ضيق الحال لذلك كانت الأقرب لنهلة من ندى ، فتباعد المستوى المادي بين دانا وندى كان أحيانا عائقا أمام الأخيرة لفهم ما تعانيه الأولى ، بعكس نهلة التي لم تحتج لشرح أو كلمات فهي تعيش واقع دانا بالفعل .
كانت حزينة دائما وكأن هناك سر دفين هو سبب كأبتها وانطوائها ، حاولت نهلة الولوج داخلها بحذر لكن الفتاة كانت تهرب ، تتملص من الإفصاح عن مكنوناتها واحترمت نهلة ذلك ، ظنته ربما بسبب المادة وضيق الحال. 
كانتا صديقتين لمدة ثلاث سنوات كاملة ، وفي أواخر السنة الثالثة بدأ أخو دانا المدمن في الظهور على الساحة وزيارتها في الجامعة مما دفع باقي صديقاتها للابتعاد عنها ، نهلة نفسها بدأت تخاف منه ومن نظراته المريبة لندى وهاتفها المحمول غالي الثمن وملابسها الأنيقة وسيارتها الجديدة أمام الجامعة .
انسحبت نهلة رويدا رويدا من تواجدهما معا وتفهمت دانا ذلك ، واحترمت خوفهن جميعا وانزوت في ركن بعيد زادها انطواءا ، حتى مرت فترة لم يرها أو يحس بغيابها فيها أحد سوى نهلة وندى فقررتا زيارتها وكانت الصدمة ... 
لقد انتحرت الفتاة !!.
انتحرت بسبب أبيها الذي لم يصدقها حينما شكت إليه مما يحدث خلف ظهره ، ضربها وأهانها وتركها تنزف .
نهضت الفتاة واستجمعت قواها وكتبت لنهلة خطابا وضعته لها في كتاب كانت قد اقترضته منها ، وتسللت من البيت للجامعة دون أن يراها أحد ، أعطت لنهلة الكتاب واحتضنتها في قوة ورحلت .
رأت نهلة يومها الخطاب لكنها تركته على المكتب ظنا أن دانا ربما وضعته بالخطأ ، لم تشأ أن تفتحه دون إذنها ، لم ترد أن تبدو متطفلة،  ولكنها للأسف لم ترها بعد هذا اليوم مرة أخرى. 
كانت كلمات الخطاب موجعة...  وكأنما كتبت بحروف من نار، تقع على نهلة كالشهب ، أحست الآن بما كانت تعانيه دانا .
أيقنت نهلة أنها لم تكن يوما ما صديقة حقيقية لها .... 
خافت على نفسها ، خشيت أن تؤذى من أخيها صاحب النظرات العدائية  ،لم تدر أنها تخلت عنها كالجميع ، أنها نجت بنفسها وتركتها للغرق. 
جذبت نهلة درج مكتبها السري ، أخرجت الخطاب الذي ما زالت تحتفظ به ، فضته لتقرأه مجددا .... ربما للمرة العشرون ... أو المائة ، ما عادت تعد المرات فهل لو قرأته ألف مرة ستعود دانا مرة أخرى للحياة ؟.!

إلي العالم المتوحش :
لقد تركت لكم أرضكم الواسعة الفسيحة التي لم ترحب بي يوما ، لم أفعل شيئا أو أخطأ كي تنبذونني ، كل ذنبي أنني ولدت بعار ... أني أنثى ، لم يخيروني كي أوافق ، لم يمنحوني حق الموافقة على الحياة ولا على اختيار نوعي فلم أُلام ؟!.
أعدوني ككبش يوم العيد ، أطعموني وكسوني حتى إذا ما أتى الميعاد قدموني للمذبح ، ماذا فعلت وماذا اقترفت يداي ؟؟.
لم أكن فتاة سيئة أو مؤذية ، كل ما حلمت به هو إكمال تعليمي ، فكافأني
أخي بالاعتداء علي وكافأتني أمي بعدم تصديقي ، هي كانت سعيدة بإنجاب أخي
الذكر وأحبته ووقفت بجانبه رغم إدمانه وسلوكه السيء وسمعته ، لم ترد تصديقي أو ربما صدقتني في داخلها وخشيت أن تكرهه .. فبدلا منه كرهتني أنا ، عاقبتني على وجودي في حياتهم بل في الحياة بأكملها. 
وأبي الرجل المحترم الوقور لم يستمع لي ، لم يصغى لقسمي ، انهال علي ضربا بالحزام وركلا في جسدي الضعيف .
أبي الذي لا يترك المسجد ، من علمني حب الصلاة ... اليوم عاقبني على قربي من الله وكافأ أخي على إتباعه للشيطان .
أخي ... الذي لم ير فيّ غير وجه جميل وجسد فتان كنت أحجبه عنه بالملابس الواسعة الفضفاضة ، لم يمنعه عني كتاب الله الذي جعلته حائلا بيني وبينه ، ألقى به واعتدى علي !.
أقسمت عليه بالله ... برسله ... بمن له عنده مكانة ... لكنه لم يتوقف .
أخذ مني براءتي ... طهري .. ولم يتق الله في عرضه.... أو لست أنا عرضه ؟.!
لماذا تنجبوننا ؟! إن كن عارا فلماذا لم يئدنا أحدكم ونحن صغارا .. أليس هذا أفضل من العيش بحمل العار يوما بعد يوم .
لم يعد لي ما يستحق البقاء والمحاربة لأجله ، فأثرت الرحيل في صمت وتركت لكم عالمكم لتحيوا به غير مأسوف عليكم .
تركت لكم الحياة واختارت لأول مرة شيئا بإرادتي .. اخترت موتي .
صديقتي نهلة: 
ما جمعني بك كان أقوى من أن تفرقه المسافات ، أعلم واتفهم سبب ابتعادكن عني ومعكن كل الحق ، ولكن ما ذنبي أن أطرد من نعيم صداقتك ، من جنة أخوتك،  وأترك لعالمي المخيف الذي أهاب العودة إليه يوميا ، عالم ليس لروحي فيه ثمن ، لكن لجسدي الكثير .
كنت أخشى العودة لكي لا يتمكن مني أخي ، حاولت الهروب لكنه كان يتتبعني إلى أي مكان حتى الجامعة .
لم أرد أذيتك لذلك ابتعدت ، ابتعدت وكنت أراقبك من بعيد ، أبتسم لابتسامتك وأضحك لدعابة ندى التي لم أسمعها من مكاني لكني سمعتها بقلبي .
رحلت يا صديقتي فلا تحزني عليا وأراكي في عالم أفضل عند رب غفور قد يرحم خطيئتي بقتل نفسي فهو بي أرحم من الأخرين .
                                                                    المعذبة / دانا العمري
                                                                     ١٣/٥/٢٠٠٩
                                                                                                                                          
انهمرت دموع نهلة الساخنة تشوي وجهها الحزين ، كان خطابها قبل وفاتها بثلاثة أيام .
"يا ليتني قرأته" ...
انهارت نهلة على سطح المكتب ، أحست أنها السبب في كل شيء .. في موت دانا ، في مرض أمها ، ربما في ثقب الأوزون إيضا. 
وأدركت أنها يوما ما سيموت عقلها قبل روحها لن يحتمل عجزه والضغط عليه .
استلقت على الفراش ، تأخذ نفسا بقوة وتخرجه في هدوء غير عابئة بالدموع التي تنزل منهمرة لتبلل الوسادة .
تأملت سقف غرفتها في ظلام دامس لا ينيره إلا ضوء السيارات المارة أو ضوء القمر الخافت ، تأملت سكون الكون ليلا ، وكيف أن هذه الأرض بحجمها الشاسع لا تستطيع احتواء قلوب معذبة أو تمنحهم قطعة منها يعيشوا فيها ليتعافوا من آلامهم .
تذكرت سهى وكلامها عن سعيد قبيل سفرها لدبي ، أقسمت لها أنه يحبها ، يهيم بها عشقا ولكنه يريد كسر عنادها ، إحكام الإغلاق عليها حتى لا تهرب مثل العصفور السجين ، وتذكرت مكالمتها الهاتفية منذ يومين بعد ما هربت من أمامهما وجرت نحو الشارع ، هاتفتها سهى بعدها وأبلغتها أن سعيد تغير ويريدها فعلا في حياته وعندما علم بعودتها من دبي أتى لوالدها ليفاتحه في الأمر ولكن زاهد هو من أنتهز الفرصة ليساوم بالمال وأخذ عمولته ، وهو من أوهم سعيد أن هنالك فرصة لقبوله إذا ما تكفل بمبلغ العملية .
وباحت لها سهى بسرها فكره سعيد للنساء وإنجابهن يرجع لهروب والدتهم وهم صغار ، تركتهم جميعا دون سابق إنذار ورحلت ، ولا أحد يعلم مكانها حتى الآن فأبوهم قد أعلن أنها ماتت خارج البلاد أثناء علاجها ، وكتم خبر هروبها حتى لا يصيبهم العار .
وظل سعيد بعقدته النفسية تجاه النساء ، كان حبيبا للعشرات منهن وعشيقا للعشرات الأخريات ، لم يتزوج قبل نهلة قط ولم تستعصى عليه امرأة بحكم وسامته ومنصبه ... وثراؤه .
لم تملك قلبه سوى نهلة ولم تصل لمشاعره امرأة غيرها ، فهي على الرغم من فقرها إلا أنها وقفت أمام سعيد الغريب الذي يهابه رجالا إلى حد تبليل أنفسهم .
نهلة الفقيرة هي من ملكت قلب المغرور الوسيم وصارت نقطة ضعفه .

                          ***** 

غداً لن تمطر _الجزء الأولحيث تعيش القصص. اكتشف الآن