١١

408 14 0
                                    

ظلت على حالها حتى الصباح ، تسللت أشعة الشمس تطرد ظلام أفكارها من الغرفة ، تبعث فيها أملا جديدا قد يموت بنهاية اليوم .. وهي تعلم ذلك!
ولكنها لا تستطيع العيش بدون أمل. .. حتى لو كاذب !.
نهضت من فراشها متعبة ، غسلت وجهها المرهق من أثر البكاء ، ثم دلفت للمطبخ ، تذكرت ندى والبشاميل فابتسمت في نفسها ، لقد اشتاقت لندى ورغم تهربها من مكالماتها إلا أنها لا تغيب عن ذاكرتها لحظة ، هي فقط لا تريد أن تحملها همومها ، فندى ذكية وسوف تعرف أن هناك ما يحدث من صوتها فقط .
استيقظت إيمان وتثاءبت في نعاس ، فركت عيناها وابتسمت لنهلة قائلة في مزاح :
" يوم البشاميل ، صح ... فينك يا ندى ، البشاميل يناديكي"  .
ابتسمت نهلة لمقولتها ، فهناك جزء من قلبها قد ترك مع ندى ، يبدو أنه قد كتب عليها أن تترك أجزاء من قلبها كلما فارقت مكانا .!!! 
ومتى يحين الوقت لتجتمع أجزاءه مجددا ؟.
رن جرس البيت ، ذهبت إيمان لفتح الباب إنهم سلمى ومعتز وهشام ، رحبت بهم مفسحة لهم الطريق للدخول. 
كان هشام يهم بالرحيل فهو قد أتى ليطمئن على حماته لكن نهلة أصرت على أن يقضى معهم اليوم وأغرته بقولها :
" فيه بشاميل ع فكرة ، أما بقى لو مستعجل يعني "... .
قاطعها هشام في مزاح :
" بشاميل ومن إيد نهلة كمان ، لا أنا فاضي و معنديش مشاوير".
بدا الجميع على طاولة الطعام كأسرة واحدة متماسكة ، نظرت لهم الأم في سعادة وابتسمت في شحوب ، نظرت لمعتز وهشام في امتنان .. الآن فقط أصبح لديها أبنائها الذكور ، رغم أنها لم تشتق أبدا لإنجابهم حتى بعد انفصال زوجها عنها بسبب ذلك إلا أنها ظلت تدعو الله أن يمنح بناتها السند في حياتهم ... سند هي نفسها لم تحظ به يوما. 
نظرت لنهلة ودانا الصغيرتين ، تمنت لو ترى طفل إيمان إيضا ، أحست في نفسها أن المرض لن يمهلها الكثير ، لقد تمكن منها وهي تعلم بذلك .
رن جرس الباب ، فتحت نهلة لتجد أمامها زاهد المنصوري ، دلف للداخل يتفحصهم في برود ، ثم التفت لنهلة قائلا في لا مبالاة :
" سها الغريب ماتت ،  الجنازة بعد صلاة الضهر ، عزا الستات في فيلتهم
."
تلقت نهلة الخبر غير مستوعبة تماما،  تحنطت مكانها ثم ابتلعت مرارة حلقها قائلة في صوت متحشرج :
" سها مين. " 
مط الرجل شفتيه في غضب ثم علا صوته :
" سها ، سها الغريب ، ايه ما تعرفيهاش ، اخت سعيد طليقك ، اتوفت بالليل  ، ماتت موتة ربنا ، أنا قلت أبلغك عشان لو تحبي تعزي ده مهما كان برضه كان فيه بيننا وبينهم عيش وملح ونسب " .
ثم غمز بعينه وأكمل في صوت منخفض :
" وحبيت أفكرك باتفاقنا أمبارح ، ها ، أنا عند وعدي ، ما تتأخريش عليا في الرد عشان كل يوم بيعدي بيفرق في السعر وفي عمر أمك ".
لم تستمع نهلة لكلامه ، فصدمتها قوية بعض الشيء ، سها رحلت حقا ، تركت عالمنا ومضت دون وداع .
إنها لم تمت موتة طبيعية كما زعموا، لقد ماتت من القهر والحسرة، أخر مرة رأتها كانت شاحبة ، ذابلة ، أنطفأ نور وجهها وبريق عينيها .
جلست نهلة على أقرب مقعد ، دموعها شحيحة لا تريد التخفيف عنها ولكن قلبها يتألم ، يقطر ذلك السائل الأحمر بداخله بدلا من الدموع .
فالدموع أضحت رخيصة ما عادت تكفي لتشييع هذه المواقف ، الدماء أصبحت أغلى. 
ألقى زاهد نظرة سريعة عليها ثم مط شفتيه ورحل .
رددت أمها :
" لاحول ولا قوة الا بالله ، إنا لله وإنا إليه راجعون " .
دلفت نهلة لغرفتها كالإنسان الألي ، ارتدت ملابسا سوداء ، وأتى معها هشام وإيمان. 
توقفت سيارة الأجرة أمام العنوان ، تأملت نهلة الفيلا فهي لم ترها إلا مرة واحدة من قبل في يوم زفافها ، والأن تدخلها في موت !!.
كانت أبواب الفيلا مفتوحة على مصرعيها وهناك طاقم الحراسة الخاص بها خارجها ، أشارت لها إيمان برأسها أن تستدير ، استدارت لتجد سعيد خلفها ، كان في أسوأ حالاته .
صافحها وارتعشت يدها لملامسة يده ، فما زالت ترتجف من تلك اليدين ، فما خلفتهما على جسدها لم يكن هينًا .
تقدم كل من هشام وإيمان للداخل ، جلسا على أقرب مقعدين وسط أعداد كبيرة داخل الفيلا ، ورافقها سعيد للصعود لغرفة سها .
ورأتها نهلة ...
كانت كملاك نائم يتوسط الفراش ، لم ترها بمثل هذا الجمال والسكينة من قبل .
يا للأسف ... ذهبت الروح التي تحرك هذا الجسد الضعيف عند بارئها .
لم يستطع سعيد كتم حزنه فجلس على ركبتيه بجوار جسد أخته وأمسك يدها يقبلها ثم أراخ رأسه عليها في بكاء هيستيري. 
ترقق قلبها لحاله ، لم تره أبدا في مثل هذه الحالة من قبل ، لم يخجل من دموعه أو انهياره بالرغم من علمه بوجود أنثى .... بوجود نهلة !!.
انحنت تجلس بجانبه ثم مدت يدها على حذر وربتت على كتفه متمتمة ببعض عبارات التعزية والمواساة .
رفع سعيد رأسه إليها بعينين دامعتين ثم احتضنها بقوة ...
تجمدت في مكانها واتسعت حدقتاها فهو لم يعد زوجها كي يلمسها .... حتى عندما كان زوجها لم يسبق له أن احتضنها بشكل ودي قط !. 
بكى سعيد كما لم يبك من قبل في أحضانها ، لم يتخيل أن تحوز سها هذه المكانة في قلبه .. أو أي امرأة على العموم .
هو من انتقم من أمه في كل النساء ، علق قلوبهن به ، فرق بين زوجات وأزواجهن ، كان كالشيطان إذا مارس ألاعيبه أمام امرأة نالها أيا كانت .
لم تفرق معه جنسية المرأة أو ديانتها ، كان يحط على الزهرة يستنشق رحيقها ويمضي دون التزامات وساعده في ذلك وسامته .. ثقته وماله .
ظلم كل النساء التي أحاطت به حتى سها ونهلة ، لم يفرق بين رخيصات وعفيفات .. الكل عنده سواء .. فكلهن نساء !.
لم تعش سها حياة طبيعية قبل زواجها فأبيها قد وأدها حية ولا بعد زواجها من رجل يفوقها عمرا قد زهد في الدنيا فلم يعد لديه ما يقدمه لها ، ولا حتى بعد ما أضحت أرملة ، فقد تمكن منها سعيد وإخوته ، صارت كالمتاع ينقل من بيت لبيت ثم يعود لمالكه الأصلي .
ولم تتذمر ، لم تشكو ، لم تفكر في الهروب !
لم ترد أن تضف لهم جرحا جديدا بعد هروب والدتهم ، لم ترد جلب العار لهم ، رضيت بحياة لا يرضاها أحد وظلت في خدمتهم وخدمة زوجاتهم إيضا إذا أمروا ، ثم رحلت في هدوء كما عاشت ، تركت لهم ما تقاتلوا عليه ... تركت لهم الدنيا ومتاعها .
والآن يكاد هو أن يجن عليها ، يبكي ولا يهمه من يراه ، تخلى عن هيبته بعد ما رحلت هي !!.
كان بكاءه كبكاء طفل تركته أمه للمرة الثانية ومضت دون رجعة .
نهض سعيد متحرجا منها ، نظر لعينيها الدامعتين، مد يده برفق ومسح دموعها ، كلاهما كان ينظر في عيني الأخر .
نظرات نهلة كانت تشكو ألما .. عذابا وماضيا لا يرحم ، نظراته كانت ندما ، حسرة على ما فرطت فيه يداه .
تحاشى نظراتها المعاتبة ، نهض من مكانه وعاونها على النهوض .
جلس بجوار سها يتأمل وجهها الساكن ، عض على شفتيه في ألم ولم يستطع منع دموعه مرة أخرى .
أو ليس هناك من سبيل للرجوع !!
فرصة واحدة يتمكن فيها من وداعها ، إخبارها كم يحبها ويمتن لها .
هل ستسمعه إذا أخبرها بإنه يحبها كأم له ؟، اقترب منها هامسا في أذنها كم لها عليه من فضل وكم ستترك فراغا من بعدها في حياته ؟ .
انتابت نهلة حينها مشاعر غريبة ، لم تدر هل فعلا تغير سعيد كما حكت لها سهى قبل وفاتها أم أن هذا من أثر الصدمة ؟.!
جلست على الكرسي المجاور للسرير تتأمل سعيد في حزن واستغراب .
لم يقطع هذا التأمل سوى طرقات على الباب ، إنها إيمان تستأذن في الرحيل .
التقطت نهلة حقيبة يدها ووقفت لتعزيه للمرة الثالثة حينما صافحها ضاغطا على يدها وكأنه يتشبث بها ألا تتركه ، لسانه لم ينطقها وعيناه فضحتاه ، لم يشأ ترك يدها تفلت من قبضته ، ظل متشبثا بها في رجاء وتوسل،  لكنها هي من جذبتها ، هي من تركت هذه المرة .
انتابتها أحاسيس لم تردها ، كانت مزعجة بالنسبة إليها ، فسعيد يقتحم داخلها بقوة يفرض سيطرته مرة أخرى عليها وهي على وشك الإقتران بغيره .
تبعها إلى خارج الفيلا ، صافح هشام وظلت عيناه متعلقة بها .. 
بنهلة التي حول حياتها يوما ما إلى جحيم وانتقم فيها من امرأة أخرى ، نهلة من أخرجها من سجن زاهد لمعتقله العقربي وأودع فيها رصيدا من الألم يعتصرها حتى الآن. 
هو يريدها وأكثر من أي وقت مضى ويعلم بأمر خالد ، خالد الذي يأتي اليوم ليأخذ منه المرأة الوحيدة التي أحبها قلبه القاسي ، المرأة الوحيدة التي لمست فيه أشياء ظن أنها قد دفنت فيه أو لم تعد موجودة من الأساس ...
يا لانتقام القدر!!!! 
سيسلب خالد منه نهلة وليست نهلة فقط بل وابنته التي لا يتذكر ملامحها جيدا .
نهلة .. 
من تزوجها هو ظنا منه أنه انتقام ممن وقفت في وجهه ورفضته ، تزوج عليها وطلقها لكنه أدرك متأخرا مدى تأثيرها عليه فهي لم تترك من بعدها مجالا لأخرى ، تملكته وبدأت بتشتيت ذهنه ، ما لم يسمح به منذ البداية حدث رغما عنه. 
كان يذهب لسهراته الحمراء ورغم ذلك لم يمس امرأة غيرها ، لم يستطع ذلك ، فهناك ما منعه من اشتهاء أخرى .
كانت تشوش أفكاره ، تجعله يفكر فيها وهو غائب عنها .. بعيدا عنها بفارق أميال أثناء سفره .. اجتاحته كالعاصفة ، لم تترك له مجالا لأخذ أنفاسه والتروي .
خدعها بعودته فجرا مترنحا كل يوم ، جعلها تصدق خياناته اليومية لتتأكد من عزوفه عنها وزهده فيها ، طلقها هو قبل أن تتركه هي ، أراد أن ينحرها قبل أن تنحره وتهرب مثلما فعلت أمه مع أبيه .
لكنه كان مخطئا،  فنهلة لم تُنحر قط ، أوهمته كالساحر بقطع رقبتها لكنها ظهرت من خلف الملاءة سليمة ، قوية تقف على أرضية ثابتة لا تهتز ، لم تكن من النوع الذي ظنه ... أن تتوسل ألا يطلقها أو تأتيه راكعة تبتغي العودة ... كان مخطئا تماما .
والآن هو نادم على تركه إياها ، يريد استعادتها وبقوة ، إن أفلتت من يده هذه المرة إيضا فلن تعود له أبدا .
سيستميت عليها ، لن يخسرها مثلما خسر سها ، سيبدأ معها صفحة جديدة تحمل أسمه واسمها واسم .... ابنتهما .
                             *****           

غداً لن تمطر _الجزء الأولحيث تعيش القصص. اكتشف الآن