٩

424 14 0
                                    

أتى يوم جديد يحمل بعضا من التفاؤل والأمل لمن يقطن بيت سعاد الجرار .
دقت الساعة السادسة مساءا حينما نهضت نهلة من مكتبها وذهبت في طريقها لبيت زاهد المنصوري ، تمنت من أعماق قلبها لو كان محقا في كلامه .
فتحت لها زوجة أبيها وعلى وجهها ابتسامة عريضة ، استقبلها أبوها بكل بشاشة وترحاب على غير عادته ، اصطحبها بنفسه لغرفة الصالون وطلب لها الحلويات والفواكه ، لم تدر ماذا يحدث لكنه لم يرق لها على أية حال .
خرج من الغرفة وعاد بحقيبة جلد سوداء كبيرة ، فتحها أمامها ، كانت مملوءة برزم من الأوراق النقدية ، رفعت عيناها لتري لعاب أبيها المسال على المال ونظراته الجشعة عليه،  أغلق زاهد الحقيبة قائلا :
" دول نص أرنب يا نهلة ، نص مليون جنيه " نطقها في جشع ونهم .
هزت برأسها متفهمة ، فأكمل كلامه :
" بصي يا بنتي ، حق العملية وأي حاجة ها تطلبيها ها تتحقق ، ما تقلقيش ، أنتي تشاوري بصباعك بس " قالها في ود مصطنع .
رغما عنها أحست بالامتنان له ، يكفي أنه قد عاد له ضميره وسيقف بجانبهن ولو لمرة واحدة ، لكنها استغربت من أين أتى بكل هذا المال ، قاطعت أفكارها المضطربة زوجة أبيها التي دخلت حاملة أصناف الفواكه وأكواب الشربات التي منحتها إحساسا مضاعف بالشك والريبة .
لم الشربات ؟ تساءلت في نفسها .
جلست زوجة أبيها مبتسمة أمامها وبجوارها وليي العهد ، تبادل أبوها مع زوجته نظرات لم ترق لها ثم هرش بأصابعه في رأسه وتنحنح قائلا :
" بقولك ايه يا نهلة يا حبيبتي يا عاقلة ، أنا ليا بس طلب عندك كده ، أو تقدري تقولي عنه شرط قصاد المبلغ ده كله " بدأت لهجته تتسم بالجدية مع الحذر. 
" خير ، اتفضل " قالتها في شك وريبة. 
" احم ، أنتي طبعا عارفة ظروفي ما توفرش المبلغ ده أو حتي نصه ، بصراحة كده على بلاطة يعني ، الفلوس دي فيه متبرع بيها ، أنا كلمته واستعطفته وحكيت له عن عملية أمك والراجل كان شهم وجدع ووافق يديني المبلغ ده وهايقف جنبك في كل اللي تعوزيه بشرط واحد صغير ، شرط بسيط ينقذ حياة أمك ".
أزدرد زاهد لعابه ثم أكمل :
" ترجعيله " قالها وعيناه جاحظتين من الجشع والقلق من ردة فعلها .
" ارجع ، ارجع لمين " خرجت من فمها الكلمات لتعود إلى أذنيها مرة أخرى ، فبدأ عقلها بالاستيعاب ، ومن غيره يطالب بعودتها ، سعيد .. سعيد الغريب .
تركها أباها لعقلها تستنبط من هو ؟ زوت ما بين حاجبيها ثم أشارت إلي الحقيبة في هلع :
" الفلوس دي بتاعة سعيد." 
هز زاهد رأسه والابتسامة تعلو وجهه قائلا في فخر :
" عشان تشوفي بعمل عشانكم ايه وازاي بفكر فيكم وفي مشاكلكم ، أنا استسمحت الراجل وهو لسه شاريكي بعد ما طلق مراته التانية ، والظاهر كده بيحبك يا بت يا نهلة " .
ألقى بجملته الأخيرة وغمز بعينه في فرح ثم أكمل :
" ومستعد يدفع ملايين الدنيا ويرجعك ، جدعة يا بت يا نهلة عرفتي تعلقيه بيكي " نطقها وهو يفرك كفيه معا من الحماس .
" انا ارجع لسعيد تاني " نطقتها في شبه غيبوبة ، خرجت كلماتها ثقيلة متعبة تفتح جروحا لاتزال نضجه .
نهضت من مكانها فجأة وقالت في غضب :
" ولا ملايين الدنيا ترجعني دقيقة لسجن سعيد تاني ، رجع له الفلوس وبلغه إني أنزل اشحت على أمي أكرم لي من إني أمد أيدي لقرش واحد نجسته إيده " قالتها وجذبت حقيبة يدها لتخرج حينما استوقفتها يد زاهد المغروزة في ذراعها بقوة صارخا في جبروت :
" بت أنتي ، ده انا ادفنك حية بإيدي هنا ، مش كفاية عارك وعار أمك وعار طلاقك ولا أنتي عاجبك الصرمحة في بلاد برة ، والله أعلم بتعملي إيه تاني ، أنتي ها ترجعي لسعيد ورجلك فوق رقبتك ، كان عنده حق لما قالي مش ها ترضى ترجع لي عشان البيه اللي مرافقاه هناك ، خالد بيه اللي بيتسلى بيكي وبشرفك ، من الأخر كده جحا أولى بلحم طوره ، سعيد أولى يربى بنته في حضنه بدل ما تطلع زي أمها وتلف على حل شعرها " قالها في شراسة ، تبدل حاله ، ظهر على حقيقته المفجعة.

كان على وشك تكملة كلامه عندما قاطعه صوت جرس الباب ، استغلت نهلة
الفرصة ، جذبت حقيبة يدها وجرت نحو الباب فتحته لتجد أمامها سعيد وسها ،  تسمرت مكانها  .
سعيد كما هو وإن بدا أكثر رشاقة ، سها هي من تحولت ، ذبلت ، صارت ظلا .. شبحا مطمورا ، ابتسمت لنهلة ابتسامة شاحبة على حين ألتهمها سعيد بنظراته الوقحة ، تجاهلت يده الممدودة وتجاهلت سهى إيضا ومرت من الفجوة الصغيرة بينهما وقفزت سلالم البيت حتى كادت تتعثر ، على حين تعالى صوت سعيد الأجش صارخا بإسمها في جنون ، انضم إليه أبيها الذي ظل يطلق السباب والشتائم ، كانت تعدو في الشارع ، كادت تتعثر أكثر من مرة ، لم تدر كيف وصلت لأول شارعها ، كيف عبرت كل تلك المسافة عدوا .
تذكرت يوم محاولة سعيد الإعتداء عليها ، ما أشبهه بهذا اليوم نفس الهروب ونفس الذعر ولكن مع اختلاف أن والدها حاضرا اليوم ومباركا لرجوعها لنفس الرجل بل ويدفعها دفعا للموافقة .
كادت أن تصدمها تلك السيارة السوداء الفارهة التي توقفت فجأة أمامها لتنتزع قلبها من مكانه ، ونزل منها أخر شخص تتخيل وجوده في هذه اللحظة ،  انتفض جسدها في قوة ثم بدأت تحس بالدوار ، أظلمت الدنيا أمام عينها وغرقت في ذلك الفراغ المظلم الذي يجذبها إليه .
استفاقت من إغمائها لتجد إيمان بجوارها ودانا الصغيرة ، كانت مستلقية على فراشها ، وضعت يدها على رأسها ، فهناك صداعا نصفيا يلتهم خلايا مخها ، أخر ما تتذكره هو رؤيته أمامها ثم إظلام الدنيا فجأة .
تنحنحت بصوت متحشرج " أنا ازاي وصلت هنا. " 
شرحت لها إيمان أن هناك من أتى بها للبيت ووصفته لها ، تعرفته نهلة على الفور ، فسألتها في لهفة :
" هو جابني هنا ومشى "  .
هزت إيمان رأسها نافية وقالت :
" لا ، هو في الصالون قاعد مع ماما وهشام ".
نهضت مسرعة من فراشها ، ارتدت حجابها وخرجت لتقابله ، خفق قلبها قبل وصولها للصالون ببضع خطوات .
دلفت للداخل ، وقعت عيناها عليه ، وسيما أنيقا كعادته ، تفوح من قسماته الرجولة والشهامة ، ما أن رأها حتى اتسعت ابتسامته وملئت وجهه الجذاب ، كان يرتدي حلة زرقاء داكنة زادته وسامة فوق وسامته ، نهض لدخولها ما أن رآها .
نظراته المشتاقة متعلقة بأهدابها الطويلة ، تتفحصها وتلتهم وجهها الذي بدا في أسبوعين فقط قضتهما هنا أكثر ذبولا .
الرجل الذي تفهم حزنها ، دلف إلى داخلها ، عرف ما عانته دون أن يزيد من معاناتها ، لم يحاول إحراجها قط وهي تعلم جيدا أنه لابد وأن لديه معلومات عنها وعن أسرتها ، فها هو قد توصل لمكانها بكل سهولة ،
رجل بحجمه يستطيع أن يعرف ماضيها في دقائق معدودة ، جرحتها هذه النقطة ، لابد وأنه قد علم بأبيها .. خالها .. وسعيد ، وهذا ما حاولت إخفاؤه منذ البداية ، ماض لا يشرف ، وجروح مازالت مفتوحة ، هي تريد حبه لا شفقته ، اهتمامه لا عطفه ، تخشى نظرة الشفقة وتمقتها ، لو رأتها في عينيه ستسحق قلبها
تحت قدميها وتتركه هو إيضا. 
هي تريد احتراما لذاتها ، حبا لشخصيتها ، وليس بعض المال يرمى لها ... ومعطفا قديم .
عيناهما قالت الكثير،  فضحت شوقا ، بعثت برسائل ما أجملها .
لم يقاطع رسائلهما ونظراتهما إلا أمها التي تنحنحت ونظرت لنهلة في عتاب ، وابتسامات هشام الخبيثة الذي أنهى مكالماته وجلس بدوره ليراقبهما. 
خفضت نهلة بصرها على استحياء وابتسم خالد لنظرة الأم وبدأ في تعريف نفسه .
" احم ، انا خالد الزيدان يا سعاد هانم ، رئيس نهلة في العمل " .
أومأت الأم برأسها متفهمة ، فأكمل كلامه قائلا :
" من أم مصرية وأب أماراتي ، كنت متجوز وعندي طفل " صمت لثوان ثم أكمل في جدية :
" وذهبوا للمولى من فترة كبيرة ، وأني يا هانم جاي اليوم أطلب منك يد نهلة ، وجاد أني اتشرف بزواجي منها ، نهلة وبنيتها في عيوني " .
تفاجأت نهلة ، وجمدت المفاجأة أفكارها،  شلت لسانها عن الرد .
تبادلت أمها نظرات معها فاستأذنت نهلة من خالد وصحبت أمها لغرفتها وقصت عليها كل شيء .
دلفت دانا للصالون لتؤنس خالد الذي ما أن رأها حتى أحتضنها في أبوة ، جلست معه تحكي له عن اشتياقها للعودة هناك لرؤية صديقاتها وطنط ندى حسب قولها لكنها تريد جدتها إيضا معها ، ابتسم خالد لقولها وكأن الصغيرة تقرأ أفكاره وتعلم ما يدور بخاطره .
دلفت نهلة وأمها للصالون مرة أخرى ، ظلت نظراته متعلقة بوجه أمها لكن نهلة هي من تحدثت قائلة :
" خالد أنا طلبك ده يفرحني طبعا ، وتقريبا انت عارف أنه فيه موافقة مبدئية " قالتها وتوردت وجنتاها في خجل .
صمتت لحظة ثم أكملت في حزم :
" بس ما قدرش أديك أي كلمة قبل خروج ماما بالسلامة من العملية"  ثم قصت عليه حقيقة مكوثها في مصر مدة أطول وحقيقة مرض أمها. 
كان يستمع إليها في هدوء ثم رد قائلا :
" تمام ، ممكن استأذنكم اسوي بعض المكالمات ".
اومأت له نهلة برأسها ، فنهض للشرفة وظل بها وقتا .
مكثت الأم مكانها تحمل مسبحتها في يدها وتتمتم ببعض الأذكار ، بينما تبادلت نهلة نظرات متوترة مع هشام الذي أخرج هاتفه وظل يلعب على شاشته .
عاد خالد ليجلس في مقعده ، منح نهلة ابتسامة ساحرة ثم أردف قائلا :
" أني حجزت تذاكر لسفرنا نحنا ووالدتك معانا طبعا ، واتفقت مع أكبر دكتور في الإمارات في مجال جراحة المخ والأعصاب وتم تجهيز جناح كامل ليكي يا سعاد هانم ، وسفرنا باجر بإذن الله ، وعقب ما تقومي بالسلامة نحدد ميعاد الزفاف ".
ابتسمت والدتها في هدوء فخالد بدا متعجلا لزواجهما ورمقت نهلة بنظرة سعادة .
نهلة التي لم تدر هل هي في الواقع أم في عالم الخيال ؟ ما تسمعه الأن يتجاوز حدود واقعها ويعبر لخيالها دون إذن ، هل هكذا تحل كل المصائب التي أتت متفرقة عن طريق رجل واحد ؟! .
جاء اعتراض أمها قاطعا لأحلام نهلة :
" للأسف يا ابني بالنسبة لي أنا مش هاقدر أسافر ، شكرا لعرضك واهتمامك ، أما بالنسبة لجوازك من نهلة فالقرار في أيديها هي بس وطبعا يشرفني إنك تبقى أبني زي معتز و هشام " .
زوت نهلة ما بين حاجبيها ونظرت إلى أمها في عتاب ودهشة ، أرادت الكلام لكن صوتها لم يخرج .
خرج صوت خالد فقط الذي بدا متحيرا :
" مدام سعاد لو رفضك هذا عشان أني ها اتكفل بمصاريف المشفى والعملية فما تاكلي هم أني مثل ابنك ترومي تعتبري الغوازي هذي هدية مني أو ......  جزء من مهر نهلة ، ايش رأيك ؟".
عرضها كصفقة رجل أعمال حتى لا ترفض المرأة عزيزة النفس مساعدته  هزت نهلة رأسها قائلة :
" وانا موافقة يا ماما أرجوكى وافقي " .
تدخل خالد قائلا في رجاء: 
" أرجوكي يا سعاد هانم ، ثقي فيني." 
نهضت أمها من مقعدها واستأذنتهما وخرجت من الغرفة ، انهارت رأس نهلة على ركبتها ، الأمور تزداد تعقيدا كلما فرجت .
استأذنت نهلة من خالد وخرجت وراءها ، طرقت على بابها ودلفت للغرفة ، كانت أمها جالسة على طرف الفراش .
" ماما ليه الرفض بس فهميني " نطقتها نهلة في رجاء وتوسل .
رفعت المرأة رأسها والدموع محتجزة في عينيها وقالت :
" لازم موافقة أبوكي على سفري ، أنتي ناسية إني لسه على ذمته يا نهلة." 
خبطت نهلة رأسها بيدها وعضت على شفتيها، كيف نسيت مثل هذا الأمر.
"طيب ما تقلقيش يا ماما أنا ها تصرف " قالتها في حزم .
نظرت لها الأم نظرة لم تفهمها نهلة وكأنها تقول ما عاد هناك من فائدة أو أمل في زاهد .
خرجت نهلة من الغرفة ، اتجهت للهاتف طلبت رقم بيت أبيها ، رد عليها وألقى على مسامعها أجمل عبارات السباب والشتائم وعدم التربية قائلا أنه كان ناويا أن يأتيها غدا ليعيد تربيتها من جديد ، ماذا سيبدو شكله أمام سعيد وقد .... قبض عمولته .
زل لسانه واعترف لما هو ناقما عليها ، لأنه قبض مقدما حق توسيطه وعمولته في إعادة البيع ، قبضها على هيئة إكرامية ، تأمين مستقبل وليي العهد ، هو من عرض على سعيد موضوع عملية أمها يستجدي عطفه واهتمامه ويتوسط لسمسرته الخاصة !.
استمعت نهلة لكل كلامه ، تركته يفرغ غضبه ، صمتت تماما حتى توقف وهدأ ، طلبت منه المجيء للضرورة فهنالك ما يهمه ثم أنهت المكالمة .
لم تمض دقائق حتى رن جرس الباب ، دخل زاهد المنصوري بجبروته يسب ويشتم ، لكنه توقف فجأة حينما وقعت عيناه على خالد ، تفحصه بنظراته ثم سأل في عدم لياقة مشيرا بأصبعه إليه: 
" مين ده ".
ردت نهلة في هدوء قائلة :
" خالد بك صاحب شركات أل زيدان ورئيسي في دبي " .
فغر زاهد فاهه من الدهشة وبدا منظره كالمتسول وهو يمسح يده فيملابسه
رغم نظافتهما ربما لإحساسه الدائم بالدونية لمن يملك المال .. واتجه ليصافح خالد في ترحاب زائد .
وجلس زاهد أمام خالد يتفحص حلته الأنيقة وحذاءه الفاخر .
نادته نهلة فأتاها زاهد بابتسامة تعرفها جيدا ، تحفظها عن ظهر قلب
دلفت به لغرفتها ،وقصت عليه عرض خالد للزواج منها ، برقت عيناه واتسعت عن أخرهما من الشره ، أحتضنها من فرحته الزائدة و جشعه،  سألها في فضول :
" وها تاخدينا معاكي دبي ، صح " .
ردت في برود :
" لا طبعا " .
زوى زاهد شفتيه في إمتعاض وغضب .
أكملت نهلة كلامها في حزم :
" أنت ها تقبض حقك كاش ، وانا اللي ها دفعهولك ، جزء دلوقتي وجزء بعد جوازي بس بشرط واحد " .
تركته ليأكله الفضول قليلا ثم أكملت :
" توافق على سفر أمي تعمل العملية في دبي ، احنا ممكن نسفرها من غيرك بس الإجراءات ها تاخد وقت واحنا الوقت مش في صالحنا ، لازم موافقتك والنهاردة قبل بكرة" .
لعق زاهد شفتيه بلسانه من الفضول وترك كل ما قالته وركز على شيء واحد قائلا في شراهة :
" هاخد كام ، ها ، كام" .
ردت نهلة في هدوء :
" ربع مليون جنيه جزء منهم بكرة ، والباقي ها بعته بعد فترة على دفعات " .
نظر إليها في اشمئزاز :
" ربع مليون بس ، ليه أنتي ها تتجوزي واحد فقير ، ده غني وغني جدا ،ده أغنى من سعيد ، أنتي مفكراني غبي ولا ايه ".
" أومال عايز كام " قالتها نهلة وقد نفذ صبرها .
" أقل من خمسة مليون ما بيعش ، قصدي ما وافقش يعني خمسة مليون نصهم كاش ونصهم بعد سفرك ، بس ها تكتبي لي وصل أمانة بيهم وممكن أخد منك أي حاجة قيمة رهن لحد ما ترجعي يعني بروش ألماظ اكيد طبعا الراجل ده مش بخيل وجاب لك هدايا قبل كده و ....".
توقفت أذناها عن سماع الباقي ، وكأنها تضع حدا لعقلها وقلبها تلقائيا عن سماع ما يؤذيهما .
لم يستمع أبوها لكلامها عن مرض أمها وضرورة إجراء العملية في أقرب وقت ، لم يستمع لتوسلها ، لا تصله بالإنسانية أية صلة ، هو لا يستمع إلا للكلام عن المال ، صوت خروشة الأوراق النقدية،  ظنته إنسانا وليس محاسبا مصرفيا !!.
بقدر إحساسها بالفخر لمعاملة خالد لها بقدر ما تحمله من كسر داخلها تجاه أبيها ، تمنت لو كان خالد مكان أبيها ، لو وجدت أبا حانيا مقابل زوجا ماديا جشعا ، فالحياة تحوي أزواجا ماديين فاشلين لكن أن تحوي أبا جشعا فهذا مؤلم لفتاة لم ترى من الدنيا وجها حسنا منذ مولدها ولم ترى فيها إلا لفظا وطردا من كل الرجال. 
أن تأتي الضربة من أبيها شيء مؤلم وقاس ، فهو أول رجل تتفتق عيناها عليه ، من سند البنت غير أبيها ، من تلجأ إليه إن طغت عليها الدنيا يوما ما أو جار عليها الزمن ؟.!!!
وها هو زاهد يساومها من جديد ، يضع حياة أمها مقابل مبلغ أيا كانت قيمته ، وتركها لتفكر ومضى .
ودع زاهد خالد وصافحه في احترام مبالغ حتى كاد أن يقبل يده ، ولم يصافح هشام فهو لا يملك شيئا ذو قيمة ليصافحه !!.
فهو قد رضي بزواج سلمى وخطبة إيمان على مضض ، لقد كان يريدلهما زواجا مربحا واستثمارا مستقبليا كزيجة نهلة ، هشام مستواه المادي معتدل ومعتز مستواه أقل منه بكثير ، أي أنهما لا يرقيان لمستوى سعيد المادي الضخم ، وعندما وجد أنه لن يستفيد من زواجهما حمل معتز وهشام كل شيء من شقة وأجهزة وأثاث ووضعهما أمام الاختيار ، لم يدفع مليما في تجهيز بناته ... لا فائدة من زاهد الذي لا علاقة بين إسمه وأفعاله ، غير أنه زاهدا فيهن فقط.! 
ترك نهلة لأفكار باتت كالطاعون تتفشى في خلاياها ، تأكل ما تجده لازال رطبا فيها ، وهي أصبحت مشتتة يؤلمها التفكير مثلما يؤلمها الكلام .
غادر أبوها وأخذ معه ما تبقى داخلها من أمل ، ما تحمله من بقايا بنوة ، لقد سقط من نظرها اليوم وصار أشلاء .
عادت لغرفة الصالون تجلس كما الأموات ... لا روح ولا حياة .
استأذن خالد منها للانصراف واصطحب معه هشام ليتكلما سويا أثناء الطريق ويوصله إلى بيته .
وجهها ماتت انفعالاته حينها،  لم تستطع منحه ولو ابتسامة قبل مغادرته ، حتى الكذب لم يستطع إسعافها ، يبدو أن الخداع قد مل منها أخيرا .
لم يمض الكثير من الوقت حتى أتصل خالد ليطمئن عليها فقد هاله رؤيتها وهي صامتة حزينة ، قصت عليه حاجتها لموافقة أبيها على السفر فخالد لم يكن يعرف أن والدتها مازالت على عصمة أبيها وانفصالهما صوري فقط .
تعجب خالد من حزنها ، وأين المشكلة اذا ؟! فلتطلبوا منه الموافقة سريعا ، لم تستطع إجابته وكيف سترد من الأساس ، كيف ستشرح له ما يؤلمها ، ما تخفيه عنه كي لا تذل رأسها ، الكلام سيخرج ثقيلا مهينا لها قبل أبيها .
لم يفهم خالد لم تتهرب من إجابته،  إنه يعلم جشع الرجل ويسمع عن ماديته الحقيرة لكن ذهنه لم يذهب به أبدا لهذه الدناوة ، لن يتخيل أن يساوم رجل ما مهما كانت ظروفه على زيجة ابنته ومرض زوجته أم بناته !!
ربما لم يقابل خالد مثل هذه الشخصيات من قبل أو ربما انحصرت مقابلته لها في مجال الأعمال والصفقات وليس مجال إنساني بحت يجمع فتاة بأبيها الذي لو كان في الجاهلية لفعل أمرا من اثنين أما وأدها أو باعها كجارية حتى لو كانت حرة ... أي شيء طالما يجلب له المال .
فزاهد لا يصلح لكونه أبا ، إنما يصلح لأعمال السمسرة والصفقات .
هربت نهلة من الرد عليه ومن فتح مجال لكلام مهين وماض لازال ألمه كألم الحيض يأتي كل شهر ورغم انها تعتاده إلا أنها لا تتحمله ، تتألم منه كل مرة كأنه أول مرة .

                         *****                              

غداً لن تمطر _الجزء الأولحيث تعيش القصص. اكتشف الآن