اتصل خالد عدة مرات بنهلة على هاتفها الجوال وعلى الهاتف الأرضي وليس هناك من رد .
اعتراه القلق وظل يعبث بالأوراق أمامه في غضب ، انتبه نواف لغضبه فحاول تهدئته قائلا :
" يمكن تكون مشغولة يا خالد ، ودر لها مساحة تتنفس ."
رد خالد في عصبية وغضب :
" لا يا نواف ، فيه شي حصل لنهلة مو معقول ساعتين بتصل ما في رد".
وخبط بيده على سطح المكتب قائلا :
" يا ريتني ما عاودت وما سمعت كلامج ".
" كيف يعني ، نحنا في شغل يا خالد مو لعب عيال " قالها في سخط ثم تركه وغادر المكتب .
ظل خالد في حيرته وقلقه يقطع المكتب في خطوات متوترة جيئة وذهابًا .
ينهشه التفكير ... ماذا يحدث لنهلة ؟
ماذا يحدث في مصر؟!
*****
أفاقت نهلة ولكنها لم تكن في حالتها الطبيعية ، كانت تجلس على الفراش ضامة ساقيها لصدرها شاردة بلا أي حراك ، حاولت أن تتكلم معها سلوى مدبرة المنزل إذا ما كانت تحتاج شيئا أو تريد تناول الطعام ولكن بلا جدوى .
اقتربت دانا ، وجلست على طرف الفراش ، احتضنت أمها وقبلتها في خدها ولكن لم يبد عليها أي تأثر ، مازالت في شرودها واجمة وكأنها في عالم أخر لا تراهم من الأساس .
عاد سعيد ليلا بصحبته أختيها ومعتز وهشام ليطمأنوا عليها ويصحبوها معهم رغم عرض سعيد لبقائها هنا ، وسوف يمكث هو في شقته الأخرى التي يمتلكها ، لكن البنات رفضن وأصررن على أخذها معهن .
صعدت سلمى وإيمان وهالهم ما رأتا أختهما عليه ، حاولت سلمى التكلم معها لكن يبدو أن تأثير الصدمة على نهلة أقوى مما توقعته ، حاولت سلمى أن تساعدها على النهوض لترحل معهم ، لكنها جذبت يدها في خوف واحتمت بالغطاء مرتجفة .
جذبت إيمان طرف الغطاء في حذر ، حاولت التحدث معها لكنها ظلت تصرخ وتبكي حتى فقدت الوعي مرة أخرى .
دقائق وخرج الطبيب يتكلم مع سعيد قائلا في جدية :
" المريضة حالتها سيئة وعندها انهيار عصبي شديد ، هي دي قريبتك يا سعيد بك ؟".
رد سعيد سريعا :
" لا دي مراتي يا د/ محمد ".
رمقه هشام بنظرة جانبية خبيثة لم يهتم بها سعيد .
أكمل الطبيب في هدوء :
" المدام أتعرضت لصدمة نفسية قوية واللي عرفته من أختها أن والدتهم اتوفت فطبعا الأفضل لو تبقى بعيد عن أي صور أو ذكريات تسبب لها صدمة تانية ، حاولوا تبعدوا عنها أي أدوات حادة ممكن تستخدمها في الانتحار أو إنها تأذي نفسها ، ما تتسابش لوحدها أبدا يا سعيد بك وتمشي على الحقن المهدئة دي يوميا ولو حاولت تأذي نفسها كلموني علطول ، بلاش أي كلام عن وفاة والدتها ، هي حاليا مش متذكرة أي شخص من اللي حواليها احتمال أنه بسبب الانهيار والصدمة تكون فاقدة للرغبة في الكلام ، أو فيه احتمال أشد شوية وهو فقدان ذاكرة كلي أو جزئي مؤقت ، لو استمرت على الحالة دي ها أضطر إني أدخلها مستشفى خوفا على سلامتها وسلامتكم ".
فكر سعيد فيما قاله الطبيب وتساءل في نفسه هل حقا موت أمها قد يؤثر عليها كل هذا التأثير ؟ أطرق برأسه في الأرض مغمغما :
" ربما لأني لا أعلم ماهية الأم ولا كيف الشعور نحوها ".
استلقى على فراشه ودانا الصغيرة نائمة في حضنه، تأملها في حنان وهو يمرر أصابعه في خصلات شعرها الناعم ، كم كان غبيا حينما لفظ طفلة كتلك من حياته ، فدانا مثل أمها نسخة من جمالها الرقيق ، تذكر كيف تعلق بها قلبه من أول يوم رأها فيه حينما صدمته وهي خارجة على عجل ، أحس بقلبه الميت ينبض ولأول مرة على يد فتاة ضئيلة الجسم فقيرة الحال .
منذ الوهلة الأولى ، لم يشتهيها جسدا فقط ، تمنى في قرارة نفسه يوم أن جاءها في مكتبها أن تفوز عليه ... أن تخيب ظنه ولكنها حينما فعلت ثار وهاج وتغلب عليه شيطانه كيف لفقيرة مثلها أن تهينه بهذا القدر ؟، فرح لأنها شريفة واغتاظ لأنها كانت أذكى منه وهو كان ساذجا كالثور المندفع نحو حلبة المصارعة ليقتله الماتادور في سهولة .
ظلت ذكريات زواجهما تنساب في عقله وتؤلمه كالأشواك ، منتهزة استيقاظ ضميره النائم ، ويبدو أنها نجحت في مخططها فكلما تذكر موقفا أهان فيه نهلة وعذبها أحس بخناجر من ضميره تؤنبه .
عذبته أفكاره وتمنى لو نسيها كلها ، نهض من فراشه ووقف أمام النافذة أزاح ستائرها وتأمل ضوء القمر المنعكس على سطح حمام السباحة ، كيف لضوء قمر بعيد أن يكسر عتمة هذا الليل القاتم ؟!!.
ابتسم لنفسه إن هذا القمر يشبه نهلة التي رغم ضعفها الذي استهان به إلا أنه كان قويا لكسر عتمته وإضاءة قلبه المظلم .
وها هي فرصته قد أتت فنهلة في بيته وتحت ناظريه ، وعليه أن يستميل قلبها ويحوذ ثقتها فيه مرة أخرى .
ولكن ماذا لو تذكرت نهلة ما فعله فيها وعادت لخالد مرة أخرى ؟ لا مفر إذا من المضي في خطته.
*****
ظل خالد يتصل بنهلة طوال اليوم ولكن الخط كان مغلق تماما فهو لا يدر أنها فقدت هاتفها وهي تعدو من المستشفى لكورنيش البحر ، هاتف محمد مساعده في مصر وعلم أنه لا أحد في الشقة ، طلب منه خالد أن يبحث في المستشفيات عن إسم سعاد الجرار فلابد أن هناك ما حدث لها وغيب الجميع عن الشقة .
وأبلغه نواف أن هناك لقاءات مهمة ستتم خلال الأيام الأربع القادمة ولن يستطيع أن يسافر دون حضورها مما جعله عصبيا بإحساس كالطير المسجون .
ارتدى سترته سريعا وعقد النية على الذهاب لندى ، لديه موعد مهم في السابعة مساءا في فيلا نواف والآن السادسة والنصف وخمس دقائق ، يجب أن يسرع ، استقل سيارته وانطلق كالصاروخ غير عابئ بصياح سائقي السيارات الأخرى .
لم تمض دقائق حتى وصل لبيتها ، رن جرس الباب وانتظر قليلا ، فتحت ندى ، فتحدث أولا :
" السلام عليكم أنسة ندى أسف على الازعاج والحضور بدون موعد ".
ردت عليه وقد تملكتها المفاجأة وهو أمامها وجه لوجه :
" لا يا خالد بك مفيش مشكلة ، حضرتك تنور في أي وقت ".
" الله يخليكي ، أبا أسألك عن نهلة ، بتصل عليها ما بترد فقولت أجيكي بنفسي أعرف منك أي أخبار عنها" .
" للأسف أنا كمان بكلمها من امبارح وما بتردش ، و ما عنديش أي أخبار عنها وقلقانة عليها ومش عارفة أوصلها ".
أحس خالد بخيبة الأمل والعجز عن الوصول لها فاستأذن من ندى وركب سيارته في عصبية .
طوال الطريق يفكر فيها ، إنه بين المطرقة والسندان ، بينه وبينها فواصل هي في قارة وهو في قارة أخرى .
حدث نفسه قائلا :
" لن يحك جلدك مثل ظفرك ، سأذهب إليها بنفسي وليكن ما يكون ، سيغضب نواف ولكنه سوف يسامحني ويلتمس لي العذر ، لن أستطيع البقاء مكتوف الأيدي أتسول من الأخرين بعض المعلومات عنها ، سأغادر اليوم على أول طائرة متجهة لمصر ".
أحس بالارتياح لتوصله لهذا القرار فهو قد أزاح عن صدره هما كبيرا .
رن هاتفه :
" ألو ، اشحالك محمد ، ايش عندك ... ايش ، الست سعاد توفت ، يا الله كنت حاسس فيه مصيبة ، أنزين مع السلامة. " نظر في ساعة يده إنها السابعة إلا دقيقة .
" تبا " قالها في حنق ، زاد من سرعة سيارته يجب تجاوز عقارب الساعة ومحاربة الزمن على هذه الدقيقة المتبقية ، فهذا أخر اجتماع سيحضره قبل السفر لحبيبته.
لم يلمح في سرعته تلك المقطورة القادمة من ناحية اليمين عبر الملف الدائري ، حاول كبح الفرامل لكنه لم يستطع فسرعته لم تسمح له بالتوقف المفاجئ ، لا مفر من الاصطدام .
أخر ما رأه خالد هو سيارته تتأرجح في الهواء ثم خروج جسده أثناء دورانها ليلقي به بعيدا من قوة التصادم .
وغامت الدنيا أمام عينيه وغرق في ظلام دامس .
******
جلس سعيد في حديقة فيلته يتأمل ما آلت إليه حياته ، فهو ما زال متأثرا بموت سها ، ربما اعتقد في داخله أنها لن تموت أبدا أو أنه سيموت قبلها لذلك لم يفكر ولو لمرة أن يستسمحها ..
ماتت وفي موتها الكثير ، فموتها هو القشة التي قصمت ظهره ، بدأتها نهلة وأنهتها سها ، أنهت غطرسته وكبريائه الزائف ، نهلة من وضعت البذرة وموت سها كان المطر .
أنهال عليه ضميره بالتأنيب فأغمض عينيه في ألم ، نهض من مقعده وصعد لغرفة نهلة ، ما زالت كما هي بنفس صمتها وشرودها ودموعها ، أصبح قلقا على حالتها ، هاتف الطبيب مرة أخرى حينما رن جرس الباب ، نظر من الأعلى ليجد معتز وهشام ، فتحت سلوى الباب ودعتهما للدخول ، أشار لهما سعيد بالجلوس لحين إنهاء مكالمته ، لكز هشام معتز بكوعه وقال منتهزا انشغال سعيد عنهما :
** صاحبك بيجر ناعم ، ها ، عايزة يرجع لنهلة تاني .
رفع معتز رأسه قائلا في صوت أقرب للهمس خشية أن يسمعهما سعيد :
** هو كان جوزها يا هشام وأبو بنتها وأولى بيها .
** أولى بيها إيه يا معتز أحنا بنوزع دبيحة ، هو نسي اللي عمله ولا ايه ، إن كنت ناسي أفكرك .
** لا مش ناسي يا هشام ومحدش فينا نسي بس الراجل اتغير فعلا وكلنا شاهدين على كده ، ليه ما ياخدش فرصة تانية هو يعني كفر .
** لا يا سيدي ما كفرش بس فرصته أخدها بدل المرة اتنين واللي زي سعيد ده ما بيتغيرش وبكرة أفكرك هو بس عرف إن نهلة ها تطير من إيده للي أغنى منه فحس بقيمتها ، ده بني أدم بيحب الحاجة اللي لمسها تفضل بتاعته هو وبس .
توقف هشام قليلا ثم أكمل :
** والمفروض أن نهلة دلوقتي مسئولة منا إحنا الأتنين ، إحنا إخواتها وأمها الله يرحمها كانت ست طيبة فاتحة لنا بيتها وحضنها ، إزاي نقبل نبهدل بنتها بعد موتها .
رد عليه معتز في هدوء :
** الله يرحمك يا حماتي ..... بص يا ابني ، نهلة مش صغيرة وهي مش مسئولة منا ولا احنا اوصيا عليها ، وبعدين دي بمية راجل ، سافرت لوحدها وقدرت توفق بين بنتها وشغلها يعني اللي ما اعرفش اعمله أنا وأنت ، من الأخر كده دي حياتها تعيشها زي ما هي عايزة وبالطريقة اللي تحبها وزي ما قولت أنت هي اللي عاشت مع سعيد و اتحملت عذابه وهي اكتر واحدة تقدر تقرر ها ترجع له ولا لا .
** بس المفروض ليها علينا حق النصيحة ولا ايه يا زيزو .
** بزمتك ده الوقت المناسب أساسا للكلام ، شايفاها في حالة تسمح بالمناقشة أو النصيحة .
** طب هشششششش بقى أحسن سعيد جاي .
أنهى سعيد اتصاله مع الطبيب وجلس مع معتز وهشام يخبرهما بكلام الطبيب حول ضرورة دخول نهلة المستشفى حتى تتحسن حالتها ، دار بينهم جدالا لكن سعيد حسمه بذكائه وصرامته و وافقه معتز على قراره.
*****
ساعدت إيمان الممرضة في وضع نهلة على فراشها في إحدى مستشفيات إسكندرية الخاصة بالعلاج النفسي .
بدت الأخيرة كجسد بلا روح يجذبه هذا وتضعه تلك .
لم تدر أن ما تمنته يوما ما من فقدانها للذاكرة قد تحقق ، فها هي الأن لا تتذكر سوى دانا ، عقلها مشوش ، بداخلها حزن عميق لا تدر مصدره، تحس بانقباض في صدرها لا تعلم كنهه ، إنها ترى أشخاصا حولها يهتمون بها لا تدر من هم لكن يبدو أن شأنها يعنيهم .
مرت أسابيع وهي على هذا الحال حتى بدأت ذاكرتها في التحسن قليلا ، تذكرت المحيطين بها رغم إحساس سعيد بالحزن عندما تذكرته فعلى الرغم من وجوده بجانبها منذ بداية الأزمة وإخلاصه في مساعدتها لكن ما خشيه حدث .
تذكرت ماضيهما معا وما يحمله من أوجاع لها ، وزوت ما بين حاجبيها الرقيقين تستغرب ما تحكيه إيمان عنه وعن وقوفه بجانبهم جميعا كأنه أخ كبير لهن .
أتى سعيد على ذكره وفي يده دانا الصغيرة ، دانا التي ازدادت التصاقا به .
حتى نهلة تغيرت من ناحيته ، لم تعد تخشى أو تكره دخوله كما السابق ، بل أحيانا تظن أنها تفتقد وجوده إذا ما غادر المكان .
ظلت تتأمله في وجوم ، هل لمس حبها فعلا شغاف قلبه ، هل تغير سعيد حقا من أجلها ومازالت هنالك فرصة لإصلاح ما بينهما ؟.
لاحظ سعيد نظراتها فابتسم لها في جاذبية مما دعا بها للخجل فخفضت بصرها في حرج .
ثم رفعت رأسها وكأنها تذكرت شيئا ما فجأة ، فسألت في حيرة موجهة سؤالها لإيمان :
" هي ماما فين."
نزل السؤال على إيمان كالصاعقة وتمنت لو كان موجها لسعيد فربما باستطاعته إخراجها من هذا المأزق .
لم تجد نهلة ردا لسؤالها فأعادت السؤال لسعيد في قلق وحيرة:
" سعيد هي ماما فين .... وفين سها ؟."
ارتبك سعيد لسؤالها عن الأموات ، فما زال إسم سها يوجع قلبه كأن موتها بالأمس.
أنقذهما من الرد دخول الطبيب والممرضة لإعطاء نهلة دواءها وطلبت الممرضة من سعيد وإيمان الخروج لكي ترتاح نهلة قليلا .
خرجا الأثنان وتنفسا الصعداء كما لو كانا في جلسة استجواب أمني ، استأذنت إيمان من سعيد ودلفت إلى غرفتها المرافقة بصحبة دانا .
رن هاتفه المحمول ، إنها مكالمة من احد رجاله.
" خالد الزيدان ، في المستشفى ، لسه عايش ، الله يخرب بيتك ، اقفل دلوقتي ها اكلمك بعدين ".
زفر سعيد في قوة ، سيأتي يوما ما عاجلا أم أجلا، وتتذكر نهلة خالد ، وهذا ما يعد له منذ فترة.
خرج الطبيب ليطمئن سعيد على حالة نهلة ، سأله الأخير عن سؤالها بخصوص أمها وكيف سيكون بإمكانه الرد عليها ، هو يخشى من تعرضها لأزمة جديدة .
أخبره الطبيب أن عليه الكذب في الوقت الحالي اتقاء لتعرضها لذلك وحتى تستعيد ذاكرتها بالكامل وحينها ستتمكن من تذكر أغلب التفاصيل ولن يضطر لتبرير المزيد من الأحداث .
عاد بسيارته وذهنه مشغولا ، أسعده تأمل نهلة له ونظراتها الطيبة نحوه ، لكنه يخشى أن يذهب كل هذا أدراج الريح حينما تتذكر خالد ، فأغلب الاحتمالات هو فوز غريمه.
سعيد رجل صفقات ناجحة ويعلم أن حربه أمام خالد تصب في مصلحة الأخير ، لذلك كان عليه التصرف سريعا والمضي في خطته التي أعدها منذ فترة ، الوقت ليس في صالحه ، أجرى بعض المكالمات الهاتفية وحدث نفسه قائلا:
" ها اعمل المستحيل يا نهلة."
لم يكن يظن أبدا إن استعادتها قد تكون بتلك الصعوبة وأن عليه خوض حرب شرسة لينالها ، هكذا هي الحياة أيام معدودة، يوم لك ويوم عليك !.
ولا يعلم سعيد اليوم القادم على أي وجه سيكون ؟.
أنت تقرأ
غداً لن تمطر _الجزء الأول
Romanceرومانسية / اجتماعية / دراما غدا لن تمطر ..... أو ليسوا جميعا مصطفى أبو حجر أدم بدأ بأكل التفاحة ... أدم وحواء أكلاها معا ..... حتى الأن حواء هي الوحيدة الملامة ؟...! كانت تعمل بائعة في أحد المحلات الواقعة في موله التجاري الضخم وكانت المرة الأو...