الفصل السادس

357 15 0
                                    

الفصل السادس

أتراني بعد الهجر ... 
أشكو لهفتي والاشتياق
أتظن أني لم يهزني مر الفراق
فافتح خزائن الذكرى .. وبعثرالأوراق
وأسأل يداك عن الهوى
ماذا جرى ؟
لنا هناك قبل الاحتراق
ولا تلم زماننا ... ما ذنبه ؟
إن جئت راق
وإن رحلت فوحده خسر السباق

عادت نهلة للفيلا بعد ما وقع الطبيب تصريحا لها بالخروج ، فهي قد تخطت مرحلة الخطر في أزمتها ، واستقبلها سعيد في بيته استقبال العريس لعروسه ، ذبح عجلا وأعد الولائم على شرف عودتها ، أراد أن يعوضها ولو قليلا عن ذنبه تجاهها ، وتمنى لو كانت عودتها تلك كزوجته وليس كمطلقته كما هي .
اندهش الجميع من الحفل الذي أعده سعيد لها وصار هشام يغمز لمعتز كل حين ويلمزه بكوعه إذا ما نظر سعيد لنهلة في حب وطغت عليه مشاعره .
نزلت ايمان لتجلس بصحبة سلمى والطفلتين تاركة نهلة بمفردها في الأعلى ، إنتهز سعيد فرصة وجود إيمان بالأسفل ودلف للمطبخ،  أعد طبقا ممتلأ بالطعام وصعد لغرفة نهلة ، طرق الباب وانتظر ردا لم يجده ، فطرق مرة أخرى ثم دلف للداخل .
بحث حوله لم يجدها ، وضع الطبق جانبا وكان في طريقه للخروج حينما خرجت فجأة من الحمام ، كانت ترتدي بلوزة خفيفة وسروالا قصيرا فوق الركبة وشعرها الطويل منسدل على كتفيها ، صدمت لرؤيته فيما تحنط سعيد في مكانه ، أزدرد لعابه في صعوبة فهو لم يرها منذ فترة طويلة إلا بالحجاب وكم اشتاقت عيناه لها ، تفحصها بنظرات جائعة من رأسها لقدمها،  ونهلة قد جمدتها المفاجأة لثوان .
تنحنح سعيد في لهجة اعتذار :
"انا أسف،  انا قولت أطمن عليكي و ... أجيب لك أكل معايا." 
لم تنزل عيناه عنها رغم أسفه الواضح في كلامه ، وكأن عيناه قد ملت من تحفظه وتعرت من ثوب الفضيلة الذي ترتديه غصبا ، هو يشتاق إليها وعيناه لن تصمد كثيرا أمام هذه النار التي تجسدت في امرأة كانت يوما زوجته .
هو يعشق بكل ذرة من كيانه ، كان عاصيا وأتى بابها ليتوب ويعزم ألا يعود لعصيانه ، لقد تملكته وما أهون من رجل سحرته امرأة تدير أعتى رؤوس الرجال إن مرت بجاذبيتها.! 
وهو كان من أعتى الرجال يوما ما ، كان فرعون جنسه ولعنة الرجال على النساء .
فرت نهلة لداخل الحمام مرة أخرى وأغلقت الباب سريعا تلتقط أنفاسها في صعوبة .
قال سعيد بصوت مرتبك :
" أنا ها انزل تحت يا نهلة لو تحبي تنضمي لينا ، أه وطبقك جنب السرير ،وأسف مرة تانية ".
ظلت خلف باب الحمام تكتم انفعالاتها ، لقد أحست بأحاسيس غريبة داخلها ، اشتهت نظرته تلك لكن هناك ما يعكر صفوها ، أحبت وجوده بجانبها لكن وكأن قلبها نفسه لم يعد موجودا ، وكأنه قد ذهب من داخلها مع شيء ما .... أو شخص ما !.
تملكها صداع رهيب ، جلست على الأرض. . أخذت نفسا عميقا وأخرجته في بطء ، أرادت أمها بشدة...  لكنهم أخبروها أنها مسافرة بالخارج تتلقى علاجا في إحدى المستشفيات بعدما ساعدها سعيد على السفر .
أغمضت عينيها لتهدأ من خفقات قلبها ، مرت صور سريعة في عقلها ولقطات مثل شريط الفيديو السريع ، وكأن انفعالها وتوترها قد ضغط زرا سريعا في رأسها فانسابت بعض الذكريات دفعة واحدة. 
كان سعيد في ذلك الوقت جالسا مع معتز وهشام اللذين تعالت ضحكاتهما حينما رفع رأسه من طبقه ليجد نهلة أمامه على السلم وقد ارتدت فستانا أسود اللون ، نزلت في بطء ثم وقفت أمامهم قائلة :
" أنا أمي ماتت صح ، أمي مش مسافرة يا سعيد،  أنا افتكرت كل اللي حصل ، أمي ماتت بس مش قادرة أفتكر تفاصيل موتها أو جنازتها ، عشان كده جالي صدمة ودخلت المستشفى و جيبتوني هنا " .
ألقت كلماتها وصمتت فقد اعتراها الألم فتساقطت دموعها بلا رادع،  جلست في مكانها على درجات السلم ، نهضت إيمان من مقعدها واحتضنتها في قوة حينما اقترب منها سعيد قائلا في أسف :
" الدكتور اللي طلب منا نخبي عليكي يا نهلة عشان مصلحتك ، خوفنا يحصلك صدمة تانية ".
هزت نهلة رأسها متفهمة ثم طلبت من إيمان أن تساعدها في إعداد حقائبها .
سعيد الذي كان يتوقع ذلك في أي وقت وهذا ما كان يخشاه أن تنسحب من حياته بعد ما ازداد تعلقا بها ... بعد ما اعتاد عليها .
أصرت على الرحيل رغم محاولاته إقناعها متعللا بأنه ينام خارج الفيلا في بيت الضيوف المجاور هو ودانا وأنه لا يدخل الفيلا إلا للسؤال والاطمئنان عليها لا للنوم .
لكنها أصرت على موقفها وشكرت له حسن صنيعه ووقوفه بجانبها في محنتها ، لا تدر أنه في مقدوره أن يفعل أضعاف ما فعله ويتحمل أطنان من الأزمات...  لو كانت المحصلة أن تعود إليه .
رحلت نهلة واصطحبت معها دانا وتركته معلقا في أذيال حبها يرجو السلامة ، تركته وحيدا في ملكه العظيم ، يلتمس ويتوسل منها البقاء .
عادت الفيلا خاوية كما كانت بالنسبة له ، فأي مكان بدونها صار خرابا .

وكأس الأيام يدور فلا تأمن مواقفه
فغدا تذوق عذابي من حر ومن بردِ
من ماض عقيم أضنتني مواقده
قد كنت جاريتك واليوم أنت لي عبدي

ما أن وصلت نهلة للبيت حتى ذهب لون وجهها ، إرادتها وقوتها المصطنعة تركتاها وحيدة ، ضغطة يد إيمان على كتفها ثبتتها وكأنها تطلب منها ألا تنهار مرة أخرى ، لقد أصبحت عامود البيت الآن وانهيارها يسمح للجميع بالانهيار إيضا .
مسحت العبرات التي انسالت على وجهها ثم خطت لغرفتها تفرغ الحقائب ، ظلت متماسكة حتى لامس جسدها الفراش بعد ما نام الجميع ، هاجمتها الهواجس كالذئاب الضارية التي اشتمت رائحة دماء طازجة فأتت لتنهش بلا رحمة. 
كيف يمكن لعقلها أن تصل به الحقارة والدناوة أن يلغي أمها من ملفاته
بهذه السهولة ؟، لهذا السبب كانت تحس بألم غير مبرر في صدرها ووجع شديد في قلبها لا تدري مصدره وكأن خلاياها تحاول جاهدة إيقاظ مخها النائم في سبات ، تستفزه ليتذكر امرأة كانت يوما تحملها في أحشاءها .
رحلت أمها دون أن تعوضها الأيام عن شبابها البائس وأنوثتها التي فرمتها بلا رحمة .
رحلت سعاد الجرار ولم تترك لنهلة من السعادة سوى أخر حرف .. تاء مربوطة تنتظر باقي حروفها ليجتمع الشمل .
حتى وإن نسى عقلها من صدمته فقلبها لم ينسى ، ذاكرة القلب أشد وطئا من ذاكرة العقل ، الأحاسيس والمشاعر تحفر فينا ما لا تحفره الصور والذكريات. 
وقلب نهلة لم ينس أمها ، كتم ألمه داخله وحوله لوجع جسدي في مكانه كي تتساءل عن السبب وتنبش وراءه .
ربما غضبت منها يوما حينما وافقت على زواجها من سعيد لكنها الآن تتمنى لو عادت للدنيا لتجلس عند قدميها تفعل ما تأمرها به حتى لو كان الرجوع لسعيد مرة أخرى .
أغمضت عينيها في ألم ووضعت يدها على قلبها تربت عليه ، لقد نضح بما فيه فرفقا به .
نهضت من مكانها تنظر من النافذة للسماء الواسعة والقمر المضيء ، لقد اقترب شهر رمضان ، أول رمضان بدون أمها ، إنه رمضان اليتيم .
تذكرت رمضان مع أمها كيف كان حينما كن صغارا وكانت تمر مع رفيقاتها على البيوت بالفوانيس تطلب الياميش والمكسرات ، وأمها تعطي لهن كل واحدة جنيها تضعه في حصالتها حتى إذا ما أتى العيد أضافت إليه العيدية لتكون المحصلة مبلغا جيدا تستطعن به شراء ما يحببنه ، وزينة الشرفات التي تعلق بين البيوت في الشوارع التي كان يمر بعض الفتية على الشقق لجمع ثمنها. 
الدورة الرمضانية لكرة القدم ولعبة الراكيت ( إحدى ألعاب الشوارع تشبه التنس تلعب بمضربين او أكثر وكرة واحدة) التي ينضم لها شباب الشارع بأكمله وأحيانا من الشوارع المجاورة،  كانت تشاهدها وهي في الإعدادية من وراء ستارة الشرفة حتى أذان المغرب .
وتجمعهن أمام التلفاز ينتظرن مدفع الإفطار ، نظرت لحيطان البيت  وتذكرت أياما كانت مضيئة تضج بالفرحة لوجود أمها معهن،  هنا كانت تخبز لهن الفطير المشلتت والقرص الطرية ، وهناك كانت تعلق الفوانيس والزينة ، عراكها مع أختيها على مشاهدة المسلسل المفضل ومن عليها الدور لغسل الاطباق وإعداد العشاء .
تذكرت روحا كانت تجمعهن والآن غادرت في سلام ، البيت صار خربا ، خاويا من الحياة ، لا يحمل الآن إلا الأحزان . 
خرجت من غرفتها وتوجهت لغرفة والدتها ، استلقت على فراشها واحتضنت وسادتها وانحدرت منها الدموع ساخنة. 
مسحت عينيها وتوجهت نحو دولاب أمها ، أخرجت ملابسها وأعادت ترتيبها ، جذبت معطفا قديما كانت ترتديه أمها منذ زمن ومركون في أعلى الدولاب ، أرادت أن تلامس ملابسها جسدها ، لكن بجذبها له سقطت علبة صغيرة صدئة من الصفيح. 
نظرت نهلة حولها في استغراب ما هذه العلبة ومن وضعها بين ثنيات المعطف ؟.
انحنت على الأرض تلتقطها وتفتحها في حذر ، إنها مليئة بالأوراق تحوي شهادات ميلادهن الثلاث وعقد زواج أمها من أبيها وعقد زواج أخر قديما ورقته مهترئة ربما بسبب تواجده في العلبة الصدئة مدة طويلة .
فردت الورقة بحذر خشية تمزيقها وبدأت في قراءتها .
وارتسمت على وجهها معالم الصدمة والدهشة ، ففي العقد مكتوب في خانة الزوجة إسم والدتها سعاد حسن الجرار وفي خانة الزوج محمد فهمي بيومي. 
تساءلت في حيرة من هذا البيومي الذي تزوجته أمها قبل أبيها ؟.
وما حقيقة هذا الزواج الذي لم يستمر إلا فترة قصيرة بعدها تزوجت أمها من زاهد .
بحثت في باقي الأوراق لم تجد سوى صورة لرجل وسيم اسود الشعر ذو شارب كث وملامح رجولية .
زوت ما بين حاجبيها وحدثت نفسها قائلة: 
" ايه حكاية جواز أمي قبل أبويا ، أنا بكرة ها ازور زاهد المنصوري واسأله " هزت راسها طاردة تلك الفكرة منها .
" لا لا بلاش زاهد يمكن ما يعرفش عن الموضوع ده وازيد الطين بلة." 
حكت ذقنها بأصبعها وهي تفكر ثم هزت راسها مقتنعة بما توصلت إليه .
نهضت من مقعدها ووضعت العلبة في مكانها بعد أن أخذت منها عقد الزواج وتوجهت لغرفتها ، لم تنم لكنها انتظرت الصباح حتى يأتي لتكمل بحثها عما وجدته .
وقفت أمام باب الفيلا تنتظر سماحا للدخول ، لم تستطع منع نفسها من الدهشة حينما وجدت أمامها خالها بنفسه ، سعد الجرار قد خرج بنفسه لاستقبالها .
رحب بها قائلا :
" اهلا بيكي يا نهلة يا بنتي ، نورتي يا حبيبتي اتفضلي ".
تعجبت لهذه الحفاوة المبالغ فيها لكنها خطت بجواره متجنبة لمسة يده الأبوية المصطنعة على كتفها. 
دلفا للصالون ، رحب بها قائلا :
" اتفضلي يا بنتي ، البيت بيتك ".
هزت رأسها في جمود وقالت :
" أنا أسفة اني جيت في وقت غير مناسب ليك أو لبنتك وبشكرك طبعا على وقتك الثمين اللي ها ازعجك واخد منه شوية دقايق بسيطة محتاجة اعرف منك حاجة ضروري."
ضغطت على كلمة"  ابنتك " لتعلمه أنها قد سمعت ما قالته يوما ما ولم تنسى ولن تنسى كلمة واحدة مما وصلت لمسامعها .
" ما تقوليش كده يا ابنتي ده بيتك في أي وقت وعزاءي ليكي ولأخواتك أنا جيت العزا يا نهلة وحضرت الجنازة بس أنتي كانت اعصابك تعبانة شوية وما عرفتش اطمن عليكي أنتي عارفة مشغولياتي طبعا يا ابنتي ".
لم تحس إلا بالاصطناع في كلماته ، وكأنها مجوفة لا تحوى مشاعر ولن تحوي يوما ما .
هزت رأسها متفهمة لتلك المشاغل التي دائما ما تكون موجودة حينما يحاول البعض طردك من حيزه ومساحته أو نفيك بعيدا عن اهتماماته. 
أتت ابنة خالها المتعالية رغدة لتجلس على يد المقعد الذي يجلس عليه أبوها قائلة في غرور :
" البقاء لله يا نهلة." 
ردت نهلة في برود وهي تواجه نظراتها المتعالية: 
" شكرا ".
أكملت ابنة خالتها وهي تتفحص نهلة من رأسها لقدمها :
" هو حقيقي أنك ها تتجوزي قريب يا نهلة  ".
صدمت نهلة لسؤالها ، لقد كانت بالفعل متزوجة من سعيد وانفصلت عنه فماذا تقصد بسؤالها هذا ؟.
ردت في برود :
" رجوعي لسعيد لسه ما اتحسمش يا رغدة ودي أمور خاصة بيا مش جاية اتناقش فيها النهاردة ".
غمزت رغدة بعينها في خبث ثم قالت :
" بس انا ما اقصدش سعيد ، أنا أقصد التاني ....أمير الامارات الوسيم اللي جه وراكي لحد هنا ".
قاطعها أبوها في صرامة: 
"رغدة ، كفاية ".
زوت نهلة ما بين حاجبيها في استغراب ثم قالت :
" أمير الامارات ، أنتي بتتكلمي عن مين."
أكملت رغدة في غيظ متجاهلة صرامة أبيها: 
" ها تعملي علينا هبلة بقى ولا ايه ، اسألي نفسك ده مين ولا تكوني خايفة من الحسد ، الصراحة عندك حق واحدة زيك أساسا ما كنتش تستاهل واحد زي سعيد يقوم كمان يقع في حبها واحد زي خالد الزيدان ويرضى يتجوزها وهي مطلقة ومعها بنت ، على أساس ايه وازاي واحد زيه يبص لواحدة زيك" .
ثم رمقتها بنظرة نارية وأكملت في غيظ مكتوم :
" فعلا حظوظ،  أو خطة ذكية بتوقعي بيها الراجل اللي عينك بتقع عليه ."
قاطعها سعد الجرار في لهجة اكثر صرامة :
" رغدة،  كفاية كده ، سيبينا لوحدنا." 
نهضت من مكانها في برود ثم قالت أثناء خروجها :
" أبقي علمينا يا نهلة هانم من خبراتك وما تقلقيش كله بحسابه مش ها اكل عليكي تعبك " ، ومنحتها ابتسامة من أبرد ما يكون .
لم تنطق نهلة ببنت شفة ربما لأنها لا تدر عن ماذا تتكلم ابنة خالها من الأساس .
هز خالها رأسه معتذرا :
" أنا أسف يا نهلة يا بنتي أنتي عارفة طيش الشباب وبنت خالك لسه متهورة وما عقلتش ".
هزت نهلة رأسها في ألم وتذكرت حينما صفعها خالها هذا يوما ما على وجهها وهي صغيرة لم تكمل السادسة بعد لأنها لعبت بدمية رغدة عندما أتيا لبيت أمها في العيد ، وتظاهرت رغدة بالبكاء وادعت كذبا أن نهلة
جذبتها من شعرها وأخذت الدمية بالقوة رغم أن رغدة هي من أعطتها لها بإرادتها .
صفعة لن تنساها .
كذلك لم تنس كلامه لوالدتها أن تربيهن جيدا وتعلمهن ألا يأخذن ما ليس من حقهن ، وكيف طلب يومها من كل واحدة منهن أن تأتي لتقبل يده قبل ذهابه لتأخذ عيديتها لكن نهلة رفضت مما أثار حنقه وعصبيته وأقسم بالله أنها لن تنال منه مليما هذا العيد .
ومن يومها وهو يتحداها ، يرسل لأختيها بالملابس المستعملة ما عدا هي ، يرسل أحيانا أظرف عليها أسماؤهن جميعا إلا هي حين لا يريد القدوم في العيد ... أظرف تحوي عيدية لا تتعدى الفتات منه. 
ولم تُحنِ نهلة رأسها له بعدها إلا يوم احتياجها لمال العملية ويوم أن أتته تطلب بعض المال لجامعة سلمى .
" نهلة ، نهلة ، ايه يا بنتي بكلم نفسي " .
انتزعها صوت خالها من ذكرياتها فقالت: 
" أسفة ، اتفضل ".
" بقولك يا حبيبتي لو محتاجة أي حاجة أنا موجود في أي وقت ورغدة هنا زي أختك ما تزعليش من كلامها أنتي عارفاها طول عمرها عصبية بس قلبها طيب ، وابقى بلغي سلامي لخالد بك يا نهلة ما تنسيش ".
استمعت لكلامه في لامبالاة إلي أن أتى على ذكر اسم خالد ، من خالد الزيدان هذا الذي يضعه الجميع في الحسبان وأصبحوا يهتمون بها من أجله ، هل هو ثري إلى الحد الذي أثار حقد وحسد رغدة عليها وجعل خالها يستقبلها في حفاوة وحب كحمامة سلام ؟.
خرجت من أفكارها ثم اعتدلت في مكانها وتكلمت في لهجة حازمة: 
" أنا جاية لك يا سعد بيه في موضوع تاني مهم بالنسبة لي ".
ألقت جملتها ثم قامت لتعطيه ورقة عقد زواج أمها ، ما أن قرأها الرجل حتى احمر وجهه من الغضب فبدا كمارد ينقصه قرنين .
طوى الورقة بين يديه فاقتربت نهلة وأخذتها منه سريعا خشية أن يمزقها بعد ما لمحت على وجهه إمارات الغضب المكتوم .
صمت الرجل قليلا ثم تكلم في هدوء محاولا السيطرة على غضبه :
" مش ها أسألك جيبتي الورقة دي منين لأن الظاهر الست والدتك المصونة ما بتعرفش تحافظ على أسرارها وتركت الورقة دي بالعمد عشان تظهر في يوم من الأيام." 
أشعل أحد سجائره الفاخرة ثم أكمل في برود :
" وإلا ليه ما مقطعتهاش وتخلصت منها ، الظاهر أنها لسه باقية على الحب القديم ، أنا فعلا ما استغربتش لما زاهد انفصل عنها ، أمك عنيدة وما استسلمتش أبدا .... وبما إنك هنا وحابه تعرفي الحقيقة تمام مفيش مشكلة نفتح صندوق الذكريات ونكرم ذكرى أمك العزيزة ".
نطق الجملة الأخيرة في سخرية ، لم تنطق نهلة ، تعودت أن تستمع أكثر مما تتكلم ، تغلبت على مشاعرها وتحملت سخريته وصفاقة ابنته لتعرف حقيقة ما أتت إليه .
كان سعد يتفحص وجهها يحاول استشفاف ما يدور بداخلها وهي لم تمنحه فرصة لذلك فأكمل بنفس البرود :
" ببساطة العقد ده صحيح ، أمك اتجوزت الراجل ده من ورانا بس للأسف بموافقة أبونا وفي حياته ، اتجوزته في السر وكانت بتقابله واحنا مش في الفيلا ، بيومي ده كان مدرس جربوع عرف يضحك عليها وعلى أبونا ويستميل قلبهم اتجوزته لمدة سنة واحنا ما نعرفش ولما مات أبونا جت الهانم تطالب بحقها في الورث وافقنا بشرط لما تتجوز ها نسلم ورثها لجوزها يديره ، قامت صارحتنا أنها متجوزة من سنة وجابت الأفندي ده عشان يدخل عيلتنا ويتساوى بينا ويطالب بورثها طبعا رفضنا عشان تعب أبونا وشقاه ما يروحش لغريب أبدا ، هددنا ها يرفع علينا قضية ويطالب بورثها ، وكان معاه أوراق تنازل عن بعض الملكيات من جدك الباشا اللي ضحكوا عليه ومضوه عليها ".
نفث دخان سيجارته في بطء وعبث بها بين يديه ثم رفع رأسه إليها في نظرات شرسة وأكمل :
" بس قدر ربنا سبق ومات في حادثة عربية ، وساعتها أتقدم لها السواق بتاعنا زاهد وما كنش يطمع في أكثر من إحسان أو صدقة ".
رددت نهلة في ذهول :
" رفضتوا المدرس وجوزتوها لزاهد !!".
أكمل في صرامة :
" ده واحد كان محتال طمعان فينا وأخد جزاؤه،  وبعدين زاهد ما كنش يحلم بضفر سعاد وهو أكتر واحد كان ها يصونها لولا غباءها وعنادها ".
ثم اعتدل سعد في جلسته واضعا ساق على ساق واكمل في خيلاء :
" وبعدين ده الوحيد اللي قدر يستر عارها .... اه نسيت أبلغك أن الهانم اختي لما جوزها مات كانت حامل في الشهر الثاني ورفضت تتخلى عن طفلها وزاهد ستر عليها." 
تلقت نهلة كلماته الأخيرة كالخناجر ورددت في ذهول :
" حامل ".
أومأ برأسه في برود فسألته في حيرة :
" بس أنت قولت أنه كان جواز رسمي وبمعرفة جدي الله يرحمه ".
هب الرجل من مكانه فجأة وكأن عقربة لدغته وأمسك بياقة قميص نهلة وهزها في عنف قائلا :
" جواز رسمي أو عرفي بس بعدم معرفتنا يبقى عار ولولا أن الدادة اللي ربتها أترجتنا وباست إيدينا ورجلينا نعفي عنها كان زمان أمك في خبر كان ، وكمان تقدري تقولي أوراقنا رجعت لينا فعفينا عنها ".
دلفت رغدة إلى الصالون حينها لتقاطع كلامهما ولكن هذه المرة ليست بمفردها بل بصحبة شاب تعلقت بذراعه واسترعى انتباهها وقوف أبيها أمام نهلة ممسكا بتلابيبها في عنف .
خفض سعد يديه عن نهلة ورمقها بنظرة مقيتة قبل أن يرسم الابتسامة على وجهه ليستقبل رغدة ومن معها .
ظلت نظرات رغدة الفضولية متعلقة بنهلة ثم استدارت لتعرف أبيها على الشاب الذي تتأبط ذراعه :
" أحب اعرفك على مودي يا بابا البوي فريند بتاعي ، أنا أتعرفت عليه من تمرين التنس ".
صافح الرجل ذلك المودي المائع في حين أكملت فتاته المرفهة :
" بابي ، مودي عامل حفلة في بيته وعازم الشلة كلها ، أرجوك وافق ، وياريت يا بابي ما تتصلش بيا لو سمحت إن اتأخرت عشان هيكون فيه دانس وميوزك عالي ومش بسمع الموبايل ولو اتأخرت اوي ممكن أبات عند ماجي صاحبتي ، بليزز " قالتها وغمزت بعينها في دلال .
" طبعا حبيبتي ، انا واثق فيكي، هاڤ فن " قالها في ترحاب وسعة صدر.
ثم أشار لهما مودعا: 
" باي يا بيبي ، باي يا مودي ".
واستدار لنهلة التي كانت واجمة وكأنها تشاهد عرضا مسرحيا مبتذلا ، فخالها ذو الطبع الحامي والدم الحار كاد يوما ما أن يقتل أمها التي تزوجت على سنة الله ورسوله وبعلم والدها ،  الأن يترك ابنته تخرج من البيت بصحبة شاب ليس حتى بخطيبها وتسهر في بيته حتى الفجر وقد وافق دون إبداء اعتراض أو نخوة أو رجولة !!.

يا للخيبة !! 
كل الرجال الذين قابلتهم في حياتها كانوا رجالا بلا رجولة يتحكمون فيها بعقيدتهم ، بشرائعهم وقوانينهم التي لا تسري على الجميع فأخته نقرة وابنته نقرة أخرى .
جذبت حقيبة يدها وحملتها قدماها في تهاون ، كانت في طريقها للخروج حينما قاطعها سعد الجرار بصوت أجش قائلا في برود :
" ما سألتنيش يعني يا نهلة فين الطفل اللي كان في بطن أمك ".
استدارت لتواجهه قائلة في حيرة :
" أكيد مات هو كمان ".
أشار لها بأصابعه للقدوم إليه فعادت بخطوات متثاقلة ، نهض فجأة من مكانه وجذبها من يدها بقوة ووضعها أمام مرآة كبيرة تتوسط الصالون وقال في صوت كفحيح الافعى :
" اللي قدامك دي هي طفلة محمد بيومي ".
وأكمل في برود يقتلها: 
" وزاهد رضي أنه يكتبها بإسمه." 
ثم ضغط على يدها في قوة قائلا :
" ما تقلقيش سرك في بير ولو أني ما كنتش أحب أني ألعب في الذكريات تاني بس انا كنت ها اضطر أقولك على السر ده لأني .... ".
وأدراها في عنف له واكمل: 
" كنت عايز خدمة بسيطة من خالد بك ، تقدري تعتبري ده قصاد ده ، سرك في مقابل الخدمة دي واعتقد أن خالد بك مش هيحب يعرف أن حماته الله يرحمها كان لها تاريخ غير مشرف ، زائد إنه زوجته المستقبلية بلا أب "
قالها وضغط على حروف كلماته الموجعة ليكسبها خناجر تطعن فيها .
أجابته نهلة في برود يغلف حزنها وصدمتها :
" أنا فعلا ماليش أب بس دي حاجة مش جديدة ".
التقطت أنفاسها ثم أكملت: 
" واللي مش جديد برضه إني ماليش أهل ومفيش حاجة تربطني بيك ".
مشت من أمامه وتركته واقفا وجذبت حقيبة يدها في سرعة لكنها توقفت فجأة أمام باب الصالون قائلة في تهكم :
" ابقى خلي بالك يا سعد بيه أحسن مودي يطلع غلبان او جربوع ويضحك على بنتك المصونة وتضطر تدخل شخص غريب أنت مش عايزه في العيلة المقدسة." 
ألقت كلماتها ورحلت في سرعة ، لم تنتظر حتى لترى أثر كلماتها على وجه الرجل الذي بدا كحبة طماطم من الغيظ والغضب .
رحلت وقدماها تلمس الأرض كما اعتادت حينما تشعر بضيق أو بغضب .
تساءلت كيف يمكن لشخص أن يكون بمثل هذه القسوة ؟ هل قُد قلبه من الصخر؟ كلا فالصخر أحيانا يضعف ويحن كما قال الله تعالى: 
( وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله)  .
كيف يمكن لأشخاص إذا أن يكونوا قساة ومجرمين وقلوبهم لا تنبض وكأن أجسادهم من طين آدم وقلوبهم من نار إبليس. 
أي جرم قد اقترفته كي يعاملها بهذه القسوة ؟ ما ذنبها هي وأختيها وما ذنب أبيها الذي قتل غدرا ؟... كل ذلك لأجل الميراث والمال ... المال مرة أخرى !!.
والأدهى أن القاتل قد حضر جنازة أمها ... ربما ليتأكد من صمتها للأبد .! 
جلست على الرصيف تستريح فحتى قدميها خذلتاها ولم يعودا باستطاعتهما المضي قدما ، عيناها أنهكها المطر فتوقفت غصبا .
لم تدر أن هذا السور الكبير الذي خلفها هو سور كنيسة ضخمة  ، لمحها رجل دين مسيحي طاعن في السن فقام يقدم قدما ويؤخر أخرى ، جلس بجانبها في صعوبة ورأى في عينها الكثير مما تخفيه .
توجست نهلة منه خيفة ، فقد برز من العدم وجلس بجوارها فجأة ، نظرت له نظرات حذرة لكنه ابتسم لها وربت على كتفها قائلا: 
" الضعف  أدامه وبين إيديه قوة يا بنتي ، استقوي به ".
زوت نهلة ما بين حاجبيها في حيرة فأكمل في ثقة: 
" الضعف يا بنتي قوة ، بس لازم تضيفي له حاجة مهمة .. الحاجة دي هي وقوفك بين إيده ، كل نبي جه عليه وقت وضعف وحس بفقدان الأمل في قومه وكفرهم برسالته ودعوته بس رجع اتقوى تاني عارفة بمين يا بنتي .. بربنا ".
لم تمنع دموعها التي تساقطت كالأمطار من عينيها وهي تستمع له ولم تجد ما تقوله سوى أن هزت رأسها متفهمة لكلامه وتعاطفه معها .
نهض الرجل العجوز من مكانه داعيا لها بتيسير الحال ثم أشار لها بأصبعه قائلا: 
" فيه مسجد في الشارع اللي ادام الكنيسة يا بنتي ، روحي صلي وادعي ربنا." 
هزت نهلة رأسها شاكرة له كلامه  ، ورفعت عينيها للسماء تشكر الله ، الوحيد الذي يظل بجانبها في أحلك المواقف ، من يرسل لها بنسمات طرية في حر أغسطس القائظ ، من يُسري على قلبها ولو بالقليل ، والقليل منه ببركته كثير .... والضعف أمامه قوة .
دلفت للمسجد،  وضعت غضبها وأحاسيسها في الصلاة ، فضفضت لله بما في قلبها من خلقه ، شكتهم له ودعت لأمها بالرحمة ، تلك المرأة التي عاشت تتألم في هدوء وماتت بألمها إيضا في هدوء ، قتلوا زوجها لكي لا ترث حقها الشرعي،  كل نظرة من ملامح خالها وهو يحكي عنه كانت تصرخ بذلك ، حتى تهكمه وهو يصف لها مقتل أبيها بإنه قضاء وقدر ، وكأنه يقول لها من بين كلماته أن من يقف أمامنا نسحقه حتى لو كانت أخته نفسها .
كم تتمنى أن تعود أمها لكي تحتضنها وتخفف عنها ما فعل بها سابقا وتخبرها بأنها تعلم سرها وأن زواجها لم يكن عارا أبدا كما أوهموها .
لم تدر كيف وصلت للبيت ، ما أن دلفت للداخل حتى وجدت الجميع هناك ، هبوا واقفين لرؤيتها واندفعت إيمان تحتضنها في بكاء ، أصاب نهلة الخوف في قلبها ... من مات هذه المرة ؟.
نهضت سلمى من مكانها وقالت في غضب :
أنتي ازاي تخرجي يا نهلة من البيت من غير ما تبلغي حد أو تقولي لأختك أو حتي تاخدي معاكي موبايل تطميننا عليكي ".
ارتبكت نهلة فهي لم تفكر على هذا النحو ، لقد نسيت السؤال عن هاتفها ولكن يبدو أنهم على حق فلربما تصوروا أن مكروها قد حدث لها أو نسيت عنوان البيت او تاهت فهي ما زالت لا تتذكر بعض الأشخاص والمواقف .
كان معتز يتكلم مع احد على الهاتف حينما رأها فأنهى مكالمته .
هدأت نهلة من روع أختيها وخفضت صوتها قائلة: 
" صدقوني كنت في مشوار مهم وما اخدتش بالي من موضوع الموبايل ده ، أنا أسفة جدا ما تزعلوش مني " احتضنت أختيها في حب .
مسحت إيمان دموعها وسألتها في اهتمام: 
" مشوار ايه يا نهلة ؟."
ابتلعت نهلة ريقها في صعوبة ، ماذا ستخبرهم ؟ أن أباها الحقيقي ليس زاهد وأنه كان رجلا فاضلا يحب أمها وتزوجها عن قصة حب باركتها موافقة جدها ؟ وأن أخوالهن ما هم إلا قتلة ومجرمين في ثوب سادة القوم كأغنياء قريش الكفار أيام الجاهلية .
أنقذها من سؤال إيمان دخول سعيد من الباب الذي كان مفتوحا ، اقترب من نهلة في لهفة وخوف قائلا :
" أنتي بخير،  كنتي فين ليه ما سيبتيش خبر بمكانك لأي حد من اخواتك  ."
لكز هشام كوع معتز في خبث مما جعل الأخير يترك مكانه في نفاذ صبر من أفعاله .
أجابت نهلة في إحراج من اقترابه منها على هذا النحو وأمام الجميع : 
" احم ، معلش ده كان مشوار ضروري وانا ها انزل اجيب موبايل جديد لأن القديم ضاع في...  " لم تكمل كلماتها إذ أخرج سعيد من جيب سترته هاتفا جديدا ووضعه في يدها قائلا في اهتمام وصرامة :
" ده موبايل جديد، أي وقت تحبي تنزلي فيه ياريت تبقي تطمينني عليكي ، أقصد تبلغي أخواتك بمكانك يعني عشان محدش يقلق عليكي ".
كانت نهلة في موقف محرج للغاية فنهضت من مكانها شاكره له الهاتف الجديد الذي لم تستطع رفضه لربما قام بفعل مجنون أمام الجميع زاد من إحراجها .
تدخل معتز منقذا إياها من إحراجها بعد ما أغرق الصمت المكان أثر كلمات سعيد الأخيرة قائلا :
" أنا أسف يا سعيد بيه اني اتصلت بيك بس ما كنش فيه حل تاني قدامي غير ده خصوصا أنه لك معارف كتير وتقدر تعرف مكان نهلة فين ولما رجعت بلغتك علطول ".
" من غير بيه ولا باشا ، انت عملت الصح يا معتز وأي وقت تحتاج فيه نهلة لحاجة ..... أو أي حد منكم طبعا أنا موجود وأرقامي متسجلة على فون نهلة " قالها في تواضع وعيناه لم تنخفض لحظة عنها .
اتسعت ابتسامة هشام الخبيثة بعد جملة سعيد الأخيرة وغمز لمعتز الذي أشاح بوجهه بعيدا لكيلا تصدر منه ضحكة لا إرادية بسبب ردود أفعال الأول ونظراته التمثيلية .
تقدمت سلمى في خبث وعرضت على سعيد البقاء معهم لتناول العشاء ، اعتذر منهم بحجة العمل وعيناه متعلقة بنهلة وكأنه يسألها أتريدين مني حقا البقاء ؟.
أصر معتز على بقاءه وجدد عرض زوجته سلمى،  وأتت الصغيرة دانا التي استيقظت للتو لتحتضن والدها في عفوية وتطلب منه البقاء والنوم بجوارها فقد  اعتادت النوم في حضنه عندما كانت في الفيلا ، قبلها في حب وغاص بنظراته في عين نهلة ، تلاقت نظراتهما للحظة بلغت أوجها كالموج وتهادت مرة أخرى عند قدميهما. 
تذكرت يوم ضربها ليعلم أين تخفي هاتفها وغضب عليها حينما باعت ذهبها لأجل سلمى ،  والآن يهديها هاتفا غالي الثمن .
" نهلة ، نهلة " نادتها سلمى في قلة صبر ثم أكملت :
بطلي بقى السرحان ده ، يلا الأكل كله ع السفرة تعالي ".
اتجهت للمائدة وجلست في أبعد كرسي عن سعيد الذي تفضحه نظراته وتحرجها .
الجميع عينه في طبقه إلا سعيد الذي يتفحصها ، وهشام الذي يجلس مراقبا في خبث كمعلقي المسابقات الرياضية. 
اقتربت نهلة من إيمان وقالت في صوت كالهمس: 
" هو خطيبك ده ماله بالظبط ، راسم ضحكة اعلانات المعجون وعمال يغمز لمعتز وأنا شايفاه ".
كتمت إيمان ضحكتها وكست وجهها بالصرامة وهي تنظر لهشام في عتاب وغضب فدفن وجهه في طبقه .
كان الصمت يغلف المكان حينما قطعته نهلة التي لم ترفع رأسها عن طبقها قائلة :
" كنت حابة أسألكم عن حاجة " .
رفع الجميع رأسه باهتمام ، فأكملت نهلة في حزم: 
" هو مين خالد الزيدان ده ؟."
بدا وكأن الجميع قد تحول لصنم ولم يستطع سعيد ابتلاع ما يلوكه في فمه فوقف الطعام في حلقه ليحتقن وجهه ، نهض هشام وضرب سعيد على ظهره عدة مرات ولكن بلا فائدة في حين نهضت إيمان مسرعة لتصب له كوبا من الماء .
وأشاحت سلمى بوجهها متظاهرة هي إيضا بالقلق عليه وكأنه قد خرج للتو من عملية جراحية خطيرة .
الوحيدة التي لم يبدو عليها إي إمارات للهلع أو الخوف وظلت مكانها تكمل عشاءها هي نهلة ، انتظرت حتى ينتهي الجميع من مسرحيته الهزلية ويعود مكانه .
أعادت سؤالها وهي لم ترفع رأسها بعد من طبقها لكنها لم تلقى ردا فقالت في حزم :

"تمام ، محدش عايز يقولي مين خالد " ، أمهلتهم دقيقة للرد عليها وهي تتفحص وجوههم ، لكنها لم تجد سوى الصمت مرة أخرى ، فسحبت كرسيها للخلف وتركتهم جالسين ودخلت غرفتها .
جلست على فراشها تفكر لماذا يخفي عنها الجميع خالد هذا بالأخص ، هل فعل بها ما ألمها أو أذاها من قبل ؟ لم لا يجيبها أحد... 
من ذلك الشخص الذي أثار اهتمام سعد الجرار وأميرته المتعجرفة رغدة،  وذكر اسمه فقط أصاب سعيد بالهلع وكاد أن يختنق بالطعام ؟.!
ستبحث عنه بنفسها ، لن تحتاج لأحد منهم ...
ستصل إليه حتما إذا كان هو على قيد الحياة. 

غداً لن تمطر _الجزء الأولحيث تعيش القصص. اكتشف الآن