الفصل الرابع عشر

2K 49 7
                                    


جلس جاكوب إلى مكتبه في معمل الخياطة الصغير وهو يعيد الحسابات للمرة الثانية. عقد حاجبيه في استغراب، أرباح هذا الشهر فاقت توقعاته وتجاوزت المستوى المعتاد بكثير ! ربما لأنه أصبح يقضي معظم وقته في المعمل ويباشر العمل بنفسه، فسری حماسه في نفوس العاملات حتى ضاعفن جهودهن.

تنهد وهو يغلق الدفتر ويُعيده إلى الدرج. منذ أسابيع لم يعد يطيق البقاء في المنزل، تانيا والأطفال عادوا إليه. لكنه هو كان قد فقد بهجة حياته وروحها. فقد ابنته الأولى التي كانت تملأ فراغه وتشاركه أحلى أوقاته. أصبح أكثر كآبة منذ رحيلها . المنزل لم يعد سوى فندق، يعود إليه في المساء لتناول وجبة سريعة صامتة، ثم يخلد إلى
النوم من شدة التعب.

نظرات تانيا الجامدة تتفحصه في كل مرة، ثم تشيح عنه متجاهلة احتجاجه الصامت. كأنها تعلن أنه لا مجال إلى إعادة ريما . هو نفسه لم يكن يطمع أو يفكر في إعادتها . ريما التي باتت تسكن خياله هي ريما الطفلة. ريما الصغيرة التي تستقبله بذراعين مفتوحين وتتعلّق بعنقه. تعانقه وتركب على ظهره، ثم تصاحبه في جولة عبر السوق. تلك هي ريما التي يتمنى عودتها. أما الأخرى التي تتغطّى عنه وتشد عباءتها حولها حين يقترب منها ... فلا يمكنه أن يحتمل وجودها إلى جانبه.

انتبه من أفكاره على صوت طرقات على باب المكتب. رفع رأسه فرأى إحدى العاملات تقف أمامه.

- سيدي... هناك كمية من ملابس الأطفال لم يتم تسليمها. صاحب المحل اعتذر وأعاد البضاعة....

تطلع إليها في قلق وهو يهب واقفا :

- هل من عيب في بضاعتنا ؟

- لا يا سيدي...

لم يطل تفكير جاكوب كثيرا ، بل قال على الفور وقد سرحت نظراته إلى الفراغ، ووجه ريما البريء ماثل بين عينيه:

- خذيها ووزعيها على الأطفال المحتاجين والعائلات الفقيرة... العودة المدرسية قريبة....

نظرت إليه العاملة في دهشة. فهي تعمل مع جاكوب ووالده منذ سنوات طويلة، ولكنها لم تر من أحدهما بادرة مماثلة من قبل. فاليهود بصفة عامة يتصفون بالبخل والشح الشديدين، إلا مع أبناء عقيدتهم. يكنزون المال ويضنون به على غيرهم ولا مكان عندهم للصدقات والتكافل الاجتماعي!

هزت رأسها علامة الإيجاب وغادرت المكتب مهرولة قبل أن يُغيّر صاحب المعمل رأيه. ولم تتمالك نفسها ، فسارعت إلى زميلاتها تخبرهن بالأمر الغريب الذي شهدته منذ قليل.

أما جاكوب، فلبث في المكتب لبعض الوقت بعد، ثم قام من مكانه متثاقلا بعد أن أوصى المسؤولة عن خط الإنتاج بإقفال المعمل جيدا بعد مغادرة الفتيات. لم يكن في نفسه رغبة في العودة إلى البيت. فقد صار يُرجئ ذلك إلى ساعة متأخرة.

في قلبي أنثى عبريةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن