الفصل الرابع

5K 79 0
                                    

ضغط حسان على مزود السرعة بقوة، وهو ينطلق في الطريق الريفية غير الممهدة. إن حافظ على سرعته تلك يمكنه الوصول إلى مدينة قانا قبل غروب الشمس. التفت إلى صاحبه الذي تكوّر على نفسه من الألم على الكرسي المجاور، وهتف مشجعًا :

- أحمد ... سنصل قريبًا ... يمكنك أن تقاوم أكثر.
كان أحمد يضغط بجبينه على حاجز السيارة الأمامي، وهو يحاول كتمان صرخة الألم التي يحترق بها حلقه. كان يُحس بانفجارات صامتة تحصل في خلايا ساقه التي أصابتها قذيفة إسرائيلية، وتزيد من أوجاعه لحظة بعد لحظة. أغمض عينيه في إعياء، فسالت دموع حارقة على وجنتيه تشي بمعاناته. ورويدا رويدا ، بدأ يفقد الإحساس بالأشياء من حوله. قاوم باستماتة الضباب الذي أخذ يلفّ عقله، ويسحبه إلى قعر الغيبوبة. انتبه حسان إلى تلاشي قواه وتهاوي أوصاله، فأخذ يهزّه في عنف يحركه الخوف:

- أحمد ... أحمد ... ابق مستيقظا ... سنصل قريبًا.
حرك أحمد ذراعه ليُشعره بحضور عقله واستمرار مقاومته، فتنهد حسان وهو يعود إلى التركيز في القيادة.
أخذ يتذكّر السويعات القليلة الماضية في تأثّر. كانا في مهمة في أراضي الجنوب، الأراضي التي تحتلها القوات الإسرائيلية منذ مارس 1978. لم تكن أول مهمة لهما معا ، فقد انضماً إلى المجموعة في أوقات متقاربة، وبسرعة تم التآخي بينهما في الله، وصارا يشتركان في التدريب والعمليات. لكن هذه كانت أول عملية حقيقية في الأراضي المحتلة. تم كل شيء مثلما خطط له، ونجحا في زرع أجهزة التنصت والعدسات الخفية وسط الأحراش، لمراقبة تحركات العدو. انسحبا بهدوء من المكان، دون أن يلاحظ تسللهما أحد، وظنا أن النجاح كان حليفهما ... لكن في رحلة العودة، حصل ما لم يكن في الحسبان. فقد انفجرت قذيفة في مكان قريب منهما ، وتناثرت الشظايا المعدنية لتصيب أحمد في ساقه إصابة بليغة. اختباً بين الأحراش لبعض الوقت، قبل أن يتمكنا من الهرب باتجاه السيارة التي أخفياها جيدًا قبل بداية العملية.

كان قد تجاوز إحدى القرى المتاخمة لقانا ، ودخل المدينة منذ دقائق. راح يُجيل بصره في الشوارع الهادئة في توتر، وهو يبحث عن أقرب مستشفى يمكنه أن يتوقف عنده ليت أحمد كان أكثر وعيًا، فهو يعرف المدينة جيدًا. نشأ فيها مع عائلته ولم يغادرها إلا من أجل الدراسة.
فجأة سمع صوت انفجار مكتوم، تلاه أزيز عنيف مع انهيار السيارة على جانبها الأيمن...
صرخ حسّان في غيظ:

- الإطار انفجر... لا حول ولا قوة إلا بالله.
أخذ يضغط على الفرامل في هدوء عجيب مناقض للموقف العصيب. يعلم جيدًا أن أي توقف مفاجئ سيؤدي حتما إلى انقلاب السيارة رأسًا على عقب!

وأخيرًا توقفت السيارة بعد أن قطعت مسافة لا بأس بها.

نظر حسان إلى صديقه في قلق... ما العمل الآن؟

                       *****

كانت الشمس قد مالت إلى الغروب، وإن لم يكن الظلام قد خيم تماما . فاصطبغت سماء قانا بلون الشفق وعكست احمرارها على واجهات المباني. تسلّلت خيوط الشمس الأخيرة عبر زجاج النافذة المغلقة، لترسم بقعا مضيئة على أرضية غرفة الجلوس، حيث جلست ندى على الأريكة تشاهد شاشة التلفاز في ملل. لم يكن في البيت غيرها وأختها دانا ، فقد سافر والداهما لحضور زواج بعض الأقارب في بيروت ولن يعودا قبل يومين. كانت دانا تطالع جريدة الأمس في اهتمام. بل لعلها
قرأت الملف الخاص بالمقاومة اللبنانية، والأحداث الأخيرة التي هزت الساحة السياسية مرات ومرات محاولة دراسة هذه الظاهرة... رفعت رأسها فجأة وقالت كأنها تخاطب نفسها :

في قلبي أنثى عبريةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن